كانت التجارب التي أجراها عالم النفس الأمريكي وكبير الباحثين في المعهد الأمريكي للبحوث السلوكية والتكنولوجيا، روبرت إبشتاين، عن دور تصنيف نتائج البحث التي يقدمها موقع جوجل في تغيير أفكار الناخبين (التي عرضنا لها في الجزء الثاني) تتم في جلسة واحدة. لكن، ثَمً سؤال مهم يطرحه الجزءالثالث والأخير من مقالته التي تحمل عنوان The New Mind Control. “Subliminal Stimulation”, Controlling People without their Knowledge (الهيمنة الجديدة على العقل. “التحفيز اللاشعوري”، الهيمنة على الناس دون علمهم) ،هو ما مدى تأثير تفضيل نتائج البحث على “جوجل” لأحد المرشحين على مدى أسابيع أو شهور طويلة هي عمر السباق الانتخابي ؟ “لا بد أنه سيكون أعمق بكثير مما كنا نراه في تجاربنا”، حسبما يؤكد إبشتاين.
تأثيٌر فى الإنتخابات
يضيف “روبرت أبشتاين“: إن التوازن في التأثير أثناء الحملات الانتخابية يتحقق من خلال التنافس المحموم بين مصادر التاثير، مثل الصحف وبرامج الراديو وشبكات التليفزيون، لكن “جوجل“ يغرد وحيدا خارج دائرة المنافسة، وتحظى نتائج بحثه بثقة مطلقة من الناخبين الذين يفترضون أن خوارزمية بحث “جوجل” السرية تتسم بالموضوعية الكاملة ومنزهة عن أي شبهة تحيز. وتضع هذه الثقة المفرطة،- إضافة إلى عدم وجود منافسة حقيقية، -“جوجل” في وضع فريد للتأثير على الناخبين. والأكثر إثارة للقلق هو أن عملية تصنيف نتائج البحث لا تخضع لأي لوائح أومعايير، لذا يستطيع “جوجل” منح الأفضلية لأي مرشح يختاره دون أن يكون في ذلك أي شكل من أشكال التجاوز أو انتهاك القوانين. وقد أصدرت بعض المحاكم أحكاما تقضي بأن حق “جوجل” في ترتيب نتائجه البحثية حسبما يتراءى له محميٌ بقوة القانون باعتباره شكلا من أشكال حرية التعبير.
Robert Epstein
لكن، هل يمكن أن يفضل “جوجل” مرشحا بعينه؟ في معرض إجابته على هذا السؤال يذكر إبشتاين أنه أثناء انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2012، قامت شركة “جوجل” ومديروها التنفيذيون بالتبرع بأكثر من 800 ألف دولار للرئيس السابق باراك أوباما في مقابل 37 ألف دولار فقط لمنافسه ميت رومني. وفي عام 2015، أثبت فريق من الباحثين من جامعة ميريلاند وغيرها أن نتائج البحث على موقع “جوجل” كانت دائما في صالح المرشحين الديمقراطيين. وعن حقيقة تحيز ترتيب نتائج البحث على موقع “جوجل”، يستدعي إبشتاين تقريرا داخليا أصدرته لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية في عام 2012 خلصت فيه إلى أن ترتيب نتائج البحث في “جوجل” يقدم عادة المصالح المالية للموقع على مصالح منافسيه، وأن إجراءات مكافحة الاحتكار التي كان يجري اتخاذها آنذاك ضد شركة “جوجل” في كل من الاتحاد الأوربي والهند كانت تستند إلى نتائج مشابهة.
مزيد من القوة
ويؤكد إبشتاين أن 90% من عمليات البحث على الإنترنت في جميع أنحاء العالم تجري عبر موقع “جوجل”، وهو ما يمنح الشركة مزيدا من القوة للتحكم في نتائج الانتخابات في دول أخرى أكثر منها في الولايات المتحدة الأمريكية، وتزداد هذه القوة بدرجة مخيفة مع الانتشار السريع والمتنامي لاستخدام الإنترنت في جميع أنحاء العالم. وفي مقالتهما التي نشراها في دورية “وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم” (Proceedings of the National Academy of Sciences) في أغسطس 2015، يلفت إبشتاين وروبرتسون إلى أن “جوجل” “تمتلك الآن القدرة على قلب نتائج 25% من الانتخابات المحلية التي تُجرى في جميع أنحاء العالم دون معرفة أحد بحدوث ذلك”. ويقدر إبشتاين أنه – سواء بتخطيط متعمد أو بدونه من جانب المديرين التنفيذيين – فإن تصنيف نتائج البحث على “جوجل” كانت تؤثر على نتائج الانتخابات على مدى أعوام، وأن معدلات هذا التاثير تزداد عاما بعد عام. ونظرا لأن تصنيف النتائج يتغير بسرعة كبيرة، فإنه لا يترك دليلا موثقا أو أثرا باقيا، وهو ما يمنح الشركة القدرةعلى الإنكار.
ويعد هذا المستوى من القدرة على التأثير واتساع نطاقه وإمكانية إخفائه غير مسبوق في تاريخ البشرية. رغم ذلك، “فقد ثبت لنا علميا أن ’ تأثير تلاعب محرك البحث‘ ليس إلا طرف جبل جليدي “. why social media could swing the-2016 presidential election
وفي هذا السياق تشير تقارير حديثة يستدعيها إبشتاين إلى الاستخدام المكثف من قبل مرشحة الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، هيلاري كلينتون، لوسائل التواصل الاجتماعي (تويتر وإنستجرام وبينتريست وسناب شات وفيسبوك) للحصول على دعم الناخبين، وأنها كان لديها 5.4 مليون متابع على تويتر، وأن العاملين في حملتها الانتخابية كانوا يغردون بكثافة في كل ساعة من ساعات اليقظة.
هيلاري كلينتون
في المقابل، كان لدى المنافس الجمهوري، دونالد ترمب، 5.9 مليون متابع على تويتر (الذي يمثل حتى اللحظة الراهنة منصته المفضلة للإعلان عن قراراته)، وكان يغرد بالكثافة ذاتها.
لكن هذا لا يعني بالضرورة – كما يؤكد إبشتاين – أن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل نفس التهديد الذي يشكله تصنيف نتائج البحث على “جوجل”، وذلك لأنها تستخدم – بالأساس – بطريقة تنافسية، على غرار لوحات الإعلانات، حيث يضع أحد المتنافسَين لوحة على هذا الجانب من الشارع، فيضع الآخر لوحة على الجانب الآخر. وبرغم أن أحدهما قد يملك أموالا أكثر لينفقها على هذا النوع من الدعاية، إلا أن استخدامها يظل تنافسيا.
الدعاية الموجهة
لكن.. ماذا يحدث لو أساءت الشركات التي تملك هذه التقنيات الحديثة استخدامها؟ تصف دراسة للبروفيسور روبرت بوند، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية أوهايو، وآخرين، نشرتها دورية “نيتشر” العلمية المرموقة في عام 2012 (A 61-million-person experiment in social influence and political mobilization) تجربة كانت محل مساءلة أخلاقية قام خلالها موقع “فيسبوك” إبان انتخابات عام 2010 لمجلس النواب الامريكى بإرسال رسائل تذكير ’أخرج وصوت‘ إلى أكثر من 60 مليون من مستخدميه. تسببت هذه الرسائل في ذهاب 340 ألف فرد – لم يكونوا ليذهبوا بدون هذه الرسائل – إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بأصواتهم. وفي صحيفة “نيو ريبابليك” (Facebook Could Decide an Election Without Anyone Ever Finding Out) أشار جوناثان زيترين، أستاذ القانون الدولي بجامعة هارفارد، إلى أنه “لو أخذنا في الاعتبار الكم الهائل من المعلومات الذي جمعه “فيسبوك” عن مستخدميه، فإن بإمكانه ببساطة أن يقوم بإرسال هذه الرسائل إلى مؤيدي حزب بعينه أو مرشح بعينه دون الآخرين، وبالتالي تغيير نتائج انتخابات، خاصة في حالات المنافسات الشديدة – دون أن يعلم عنه أحد”.
ويلفت إبشتاين إلى عدم وجود قوانين تحظر على “فيسبوك” إرسال هذا النوع من الرسائل الدعائية على نحو انتقائي، ويضيف أن “الدعاية الموجهة هي الوسيلة المثلى التي يستخدمها “فيسبوك” للحصول على أموال”، كما أن “بعض المرشحين أفضل لمصالح الشركة من الآخرين”.
ويؤكد إبشتاين أيضا أن “فيسبوك” يمتلك ملفات تعريفية تفصيلية عن المستهلكين، لكن هذه الملفات تظل فقيرة وقاصرة أمام الملفات التي يحتفظ بها “جوجل”، الذي يقوم بجمع معلومات عن جميع مستخدمي الكمبيوتر على مدار الساعة باستخدام أكثر من 60 منصة مراقبة (Google’s Gotcha) تشمل – إضافة إلى محرك البحث – محفظة جوجل(Google Wallet) وخرائط جوجل ((Google Maps وجوجل أدوردز ((Google Adwords وتحليلات جوجل ((Google Analytics و كروم ((Chrome ومستندات جوجل(Google (Docs وأندرويد (Android) ويوتيوب (YouTube)، وغيرها. ويتغافل مستخدمو Gmail عن حقيقة قيام “جوجل” بحفظ وتحليل كل رسالة بريد إليكتروني يكتبونها، حتى المسودات (Drafts) التي لا يرسلونها، إضافة إلى البريد الوارد سواء من مستخدمي Gmail أو أي حسابات أخرى.
ووفقا لسياسة الخصوصية في “جوجل” (Privacy & Terms)، التي يوافق عليها جميع مستخدمي منتجاته، – حتى لو كانوا لا يعلمون أن هذه المنتجات مملوكة للشركة- يستطيع “جوجل” نشر المعلومات التي يجمعها عن مستخدميه لأي جهة، بما في ذلك جميع الهيئات والجهات الحكومية. في هذا السياق يطرح إبشتاين سؤالا مهما، هو: “هل المعلومات غير الدقيقة عن الأفراد الموجودة في ملفاتهم التعريفية (والتي لا سبيل أمامهم لتصحيحها) يمكن أن تحد من فرصهم أو تشوه سمعتهم؟
“بالتأكيد”، يجيب إبشتاين؛ إذا أراد “جوجل” توجيه دفة انتخابات ما، فبإمكانه أن يدخل إلى قاعدة بياناته الضخمة الخاصة بالمعلومات الشخصية لتحديد المصوتين الذين لم يقرروا مرشحيهم بعد، ثم يرسل إليهم وحدهم نتائج مخصصة تزكي أحد المرشحين. وتتميز هذه ’المعالجة‘ – بحسب إبشتاين – بأنها غير قابلة للكشف عنها في حالة إجراء تحقيقات.
ويبشر إبشتاين أنه في غضون عام واحد فقط من الآن ستكون الصين قد انتهت من تشغيل أقوى نظام مراقبة من قبل الدولة في العالم، ويتمثل في قاعدة بيانات تسمى “منظومة الائتمان الاجتماعي” (Social Credit System) تضم سجلات وتصنيفات متعددة لجميع مواطنيها، البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، لسهولة الوصول إليها من قبل المسئولين والموظفين البيروقراطيين؛ “ومن الوهلة الأولى، سيستطيعون معرفة إذا ما كان شخص ما قد قام بغش واجبه المدرسي، أو تأخر في سداد الفواتير الحكومية، أو تبول في مكان عام، أو دوًن على الإنترنت بطريقة غير لائقة”.
ويخلص إبشتاين إلى أن تسريبات إدوارد سنودن، الموظف السابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لمعلومات حول برامج التجسس التي تستخدمها الوكالة في عام 2013 قد كشفت بجلاء – لا لبس فيه – أننا نتحرك بسرعة فائقة صوب عالم تجمع فيه حكومات وشركات (تعملان معا أحيانا) كميات مهولة من البيانات عن جميع سكان هذا الكوكب، وتستعين على ذلك بغياب منظومة قانونية تمنع – أو تحد على أقل تقدير – استخدام هذه البيانات بصورة غير أخلاقية. وعندما يقترن جمع البيانات بالرغبة في الهيمنة أو التلاعب، فإن الاحتمالات تصبح لا نهائية، لكن الاحتمال الأكثر إثارة للرعب هو ما عبر عنه عالم الاقتصاد الأمريكي، كينيث بولدينج، بخلق “ديكتاتورية خفية تستخدم أشكال الحكومة الديمقراطية“.
إدوارد سنودن
يمكن الاطلاع على النص الأصلي للمقالة باللغة الإنجليزية من هنا ?