لم تكن دعوات الشيخ الراحل عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق للإصلاح والتجديد في الفكر الصوفي، المحاولة الوحيدة التي انطلقت هادفة لتأصيل بعض الممارسات الصوفية، ولإزالة الشوائب التي لحقت بالمنهج الصوفي، فقد كانت هناك محاولات أخرى جادة ومهمة لإزالة كثير من الرواسب التي علقت بالصوفية وصورتها والمتصوفة وممارساتهم.
لعل من أبرز دعوات الإصلاح والتجديد تلك الدعوات التي أطلقها شيخ العشيرة المحمدية، العالم الأزهري محمد زكي إبراهيم،(والعشيرة المحمدية التي كان محمد زكى إبراهيم شيخا لها هى واحدة من أبرز وأهم الطرق الصوفية المعاصرة في مصر). فتحت عنوان (التصوف الإسلامي الصحيح.. وتدرج التصوف البدعي في مصر) يذهب الشيخ زكي ابراهيم للتأكيد على أن التصوف هو أكمل الطرق وأصحها لعبودية الله وتحقيق المجتمع الإسلامي النموذجي خلقا وعملا. فالتصوف- في نظره – فرض عين لأنه أفضل الطرق لإيجاد المجتمع الفاضل، والفرد الكامل، والدولة الماجدة. فهذا هو الأصل، «وأما المسخ الشائه المسمى تصوفا في هذه الأيام، فليس من دين المسلمين، ولا من مورورثاتهم، بل هو داء دخيل وافد، لا يعرف دين الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أبداَ، ولا تعرفه الإنسانية الرفيعة من أي مذهب».
العالم الأزهري محمد زكي إبراهيم
ويرى الشيخ محمد زكى إبراهيم أن «التصوف أصل من أصول الإسلام، إذ مع اتساع الفتوحات الإسلامية وتشعب العلوم، تخصص قوم في الفقه وآخرون في الحديث، ومثلهم في القرآن وعلومه، بينما اختار قوم اخرون التخصص في شئون الأخلاق والتسامي بالروح الإنسانية، وأحوال القلوب التي هي جوهر الفرد، وبصلاحه صلاح المجتمع ككل، قوم سٌموا في بداية الأمر بالزهاد والعباد ثم اشتهروا لاحقا بالصوفية»
ويشير الشيخ محمد زكي ابراهيم إلى أنه بدخول الفرس والروم وغيرهم في الإسلام، إنتقلت إلى المسلمين بعض من عقائدهم وتقاليدهم، وبإندماجهم في المجتمع الإسلامي اختلطت هذه العقائد والتقاليد بالشعائر الإسلامية، فكان منها ما لا يتعارض مع الشرع وسماحته وسعة أفقه، وكان منها المنكر والخبيث. ثم لمرونة الحقل الصوفي اتسع نمو كثير من هذه المنكرات والخبائث والفلسفات الشاذة في صفوف المتصوفة.
أسباب التدهور والإنحطاط
شخّص الشيخ محمد زكي إبراهيم أسباب حالة الانحطاط والتدهور التى لحقت بالتصوف الإسلامي، وأرجعها إلى عدد من الأسباب، على رأسها الكثير من الدسائس والإدخالات بغرض إفساد الأمر، والتي لحقت بكتب التصوف كما لحقت بكتب الحديث، إلى حد تأليف البعض لمؤلفات تروج للأساطير والخرافات ونسبتها إلى بعض السلف من أئمة التصوف، كما حدث مع صاحب الطبقات الشعراني. يضاف إلى ذلك حالة التدهور التي أصابت التصوف كجزء من السياق العام للمجتمع الإسلامي الذي ضربته حالة من التخلف والركود والرقود والجمود والرجعية عبر قرون طويلة.
أما السبب الثالث الذي يسوقه رائد العشيرة المحمدية فهو ما يمكن أن نسميه بـ«مأسسة التصوف في مصر» منذ مطلع الدولة الحديثة في عهد محمد علي، بحيث تحول التصوف وشيوخه إلى جزء من مؤسسات الدولة بإختراع (مشيخة الطرق الصوفية) و (مجلس الطرق الصوفية)، وهي مجالس الهدف منها السير بالمتصوفة في ركاب النظم السياسية، مع انتفاء صفات الوعي، والورع، والزهد عند من يمثلون تلك المجالس.
وهنا يقول محمد زكي ابراهيم :«وقد تفاوتت تلك العوامل على مر العصور تبعا لدرجات التقدم والتخلف في الأمة. ومن ثم استشرت البدع والمنكرات في المحيط الصوفي، وقام من قام لمقاومة التصوف والصوفية جميعا، وكانت الحرب سجالا على مر العصور منذ القرن السابع حتى يومنا هذا، ولم يكن من المنصف كفاح التصوف على إجماله، بل كان الإنصاف كفاح ما شابه من دخيل ومدسوس ومستقبح، وهو ما يقوم به السادة المصلحون من الصوفية في كل مكان وزمان».
كشف المثالب والأخطاء
لا يتوقف رائد العشيرة المحمدية عند تشخيص الداء، وبيان أسباب الانحطاط، وإنما يقوم بواجبه في النقد ومعالجة أعراضه ومظاهره، لكن فى إطار دفاع قوى عن الصوفية الحقة والتصدي لمن يهاجمونها لمجرد الهجوم . فعلى سبيل المثال يسوق الشيخ محمد زكى إبراهيم أدلته الشرعية على استحباب وإباحة إقامة الموالد والاحتفالات الدينية كالاحتفاء بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرى مولد ووفاة الصالحين من الأولياء ” وإنه إذا أضفنا إلى هذا التوجيه الإلهي، وهذا التقنين الشرعي -باعتباره أصلا عاما تندرج تحته هذه الفروع – انكشفت لنا مشروعية إحياء هذه الموالد والذكريات بل الندب إليها واستحبابها، بل وجوبها الأكيد، بوصفها مؤتمرات إسلامية محلية أو عامة، تجمع أجمل المبادىء الإنسانية، وتمارس أفضل الأهداف الإسلامية، وتسد جانبا من الحاجة البشرية الاجتماعية بما لا يتأتى في غيرها. كما يشترط في إقامة هذه الموالد خلو هذه الاحتفالات مما حرم الله، فلا اختلاط، ولا مواكب، ولا طراطير ولا بدع وخرافات، وبذلك يقع التوافق بينها وبين الشرع الحكيم.
وفي ذلك يقول الشيخ زكي إبراهيم «فإذا أقيمت على ما هي عليه الآن فاختلط النساء بالرجال، وانتهكت حرمات بيوت الله، وعقدت مواكب الضلال والبدع والشعوذة، وركب الكائن المسمى عندهم بالخليفة، ولبست له الطراطير، وحملت حوله العكاكيز، ونشرت عليه الأشاير، ودقت بين يديه الطبول… نقول إذا أقيمت الموالد كما هي الآن –في مصر وغيرها- تكون مواسم للفسوق، ومجامع للموبقات، وترويج الميسر، وتيسير النشل، وقضاء الشهوات، وأقيمت الملاهي والمقاهي، وانتشرت «الغرز» والمخدرات وعٌمرت الأركان بإشباع الغرائز الجنسية الشاذة، واسٌتغل السذج والبسطاء من سكان الريف والحضر هذا الاستغلال الشائن، إذا كان ذلك كذلك/ فقد فقدت هذه الموالد أسباب مشروعيتها في الإسلام وفي العقل والقانون، وانسحب عليها حكم المنكر الخبيث، وأصبح كفاحها واستئصال شأفتها واجبا شرعيا وصوفيا وقانونيا، يأثم كل من فرط فيه إثما كبيرا».
أما فيما يتعلق بآداب وسلوكيات المتصوفة المعاصرين في السماع والذكر وإقامة الحضرة، فقد رفض رائد العشيرة المحمدية ما يذهب إليه بعض أبناء الطرق الصوفية من استخدام الدف والمزمار والطبل والكف في الذكر، ففنّد أسانيدهم الشرعية، مبينا تهافتها واختلاف مناسباتها عن مناسبة الذكر أو الحضرة ومن ثم لا يصح القياس عليها، ثم ساق العديد من الفتاوي لكبار المتصوفة والفقهاء، ومنها قول السهروردي «لا شك أنك إذا خيلت بين عينيك جلوس هؤلاء للسماع وما يفعلونه فيه، فإنك تنزه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم عن ذلك المجلس وعن حضوره».
ويعلق الشيخ في نهاية ذلك بقوله «أما بعد، فهل نجد رجلا مثقفا ذا مروءة، أو رجلا فقيها في دينه ذا كرامة، يقبل أن يندمج وسط المطبلين والمزمرين في الذكر، وزفة الخليفة، والرؤية، وحفلات الزواج والختان، وعودة الحجاج، وغيظ الضرة، وما إلى ذلك؟ اللهم لا. إن من أخطر أسباب القضاء على التصوف، هو المحافظة على تلك الصورة المهزوزة المهزولة القلقة في دين الله».
فالشيخ لم يقف ضد السماع وإقامة الحضرات، وما زال مريدوه وأبناء طريقته يقيمون الحضرة الأسبوعية بمسجد ومقر العشيرة المحمدية بحي مدينة نصر- بالقاهرة كل خميس، لكنه أراد تهذيبها بأداب وسلوكيات السلف الصالح من الزهاد والعباد، فلا زمر ولا طبل ولا صراخ وادعاء ولا مخالطة، فلقد كان زكي ابراهيم يرى ضرورة تنقية التصوف وتصفيته مما علق به بسبب العوام لا هدمه وإخفاءه من حياة المسلمين. فالتصوف في نظره هو دين الحق والصراط المستقيم والفطرة السليمة التي فطر الله المسلمين عليها، لذلك نجده يدافع عن زيارة أضرحة الصالحين، والتبرك بهم، والتوسل بهم، والدعاء عندهم، بل وتقبيل العتبات بشرط حصول الوجد لا الادعاء، «إن زيارة القبور والأضرحة سنة مندوبة إليها، والتوسل إلى الله بالصالحين سنة مشروعة محثوث عليها، وتقبيل الأعتاب (عند غلبة الوجد) سنة «بلالية» صحابية مُجمع عليها، وطلب العبد من الله أن يشفع فيه بعض صالحي خلقه سنة ورغيبة ثابتة».
إصلاح البيت الصوفي
لقد كان الشيخ محمد زكي إبراهيم يرى المعضلة الحقيقية في تدني المستوى الثقافي والروحي والأخلاقي والقيمي لمشايخ الطرق أنفسهم، لذلك كان يرى ضرورة إصلاح البيت الصوفي بإصلاح أحوال مشايخه علميا وثقافيا ومعرفيا وماديا، وتفعيل قانون الأزهر الشريف الذي يجعل لمشيخة الأزهر حق الإشراف الفعلي على الطرق الصوفية. لذلك يقول «لقد آن الأوان لتطهير التصوف في مصر بكل ألوانه وأسمائه وأوضاعه، ونحن لا نريد أن نستحدث لهؤلاء قانونا للتطهير، ولكنا سنأخذهم بمقررات أئمة التصوف في مؤلفاتهم، ونطبق عليهم مواد القوانين التي وضعها شيوخهم وأئمتهم وأجدادهم للمشيخة قبل قرون وقرون، مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن صدقت عليه هذه القواعد بقي، وإلا فليذهب غير مأسوف عليه، سيدا كان أو مسودا، صاحب سجادة كان أو صاحب حصير»
قد نكون في أمس الحاجة للبحث عن نموذج للتصوف المستنير، بما يتمتع به من سعة، ورحابة، وتسامح وقبول للآخر.. وتوافقه مع الكثير من قيم ومبادىء الحياة المدنية المعاصرة، ولا شك في قدرته على شغل حيز هام من خطابنا الديني المعاصر كبديل لنظائره من الخطابات السلفية والوهابية التي فتحت علينا جحيم الإرهاب والعنف والإقصاء.