الحدث

«شاعرة الوجدان النسائي» التي نسيها الجميع واحتفى بها «جوجل»

عن نفسها تقول في إحدى قصائدها :

أنا الأبية لا أبغي مهادنة … إن الصراحة أقوالي وأفعالي

القول أجمله ما كان أصدقـه … وما أردت به تبديل أعمـالي

وصفها الناقد الكبير الراحل الدكتور محمد مندور، في كتابه «الشعر المصري بعد شوقي» بأنها «شاعرة الوجدان النسائي»، بينما قارن الشاعر أحمد زكي أبو شادي رائد مدرسة أبوللو الشعرية، بينها وبين الشاعرتين، الفلسطينية فدوى طوقان، والعراقية نازك الملائكة، في درجة التحرر من التقاليد في أشعارهن.

إنها الشاعرة المصرية الراحلة «جميلة العلايلي» التي احتفى محرك البحث العملاق «جوجل»، بالذكرى الـثانية عشرة بعد المائة لميلادها والذي يوافق يوم 20 مارس، بوضع صورتها على صدر صفحته الرئيسية. احتفاء «جوجل» بذكرى عيد ميلادها، يعيد تسليط الضوء على حياة ومسيرة هذه الشاعرة، التي سقطت فيما يبدو من ذاكرة الأوساط الثقافية والأدبية في مصر، إذ ربما لا يعرف معظم أبناء الجيل الحالي من المصريين والعرب، شيئا عن حياتها ومسيرتها وأعمالها الشعرية والابداعية، رغم أنها كانت صوتاً فاعلاً في الحركة الأدبية والشعرية – النسوية بشكل خاص – في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

شاعرة المنصورة الجريئة

ولدت الشاعرة جميلة العلايلي، 20 مارس 1907 في مدينة المنصورة بدلتا مصر، وفيها تفتحت موهبتها الشعرية وتأثرت بأعمال أسلوب شعراء مدرسة أبوللو الشعرية، قبل أن تتنقل منها إلى القاهرة بعد أن حاز ديوانها الأول الذي صدر عام 1936 بعنوان «صدى أحلامي» على أعجاب رواد جماعة أبوللو الكبار، وعلى رأسهم مؤسسها الدكتور أحمد زكي أبو شادي والشاعر الدكتور إبراهيم ناجي (صاحب الأطلال)، وعلي الجندي، والدكتور زكي مبارك، والدكتور محمد مندور، وصالح جودت، وغيرهم من النقاد.

الشاعر إبراهيم ناجي           الدكتور أحمد زكي أبو شادي           الدكتور زكي مبارك

فقد أشاد زكي أبو شادي بجرأتها على التعبير عن مشاعرها وعواطفها بصدق وشجاعة قائلا: «لكي نقدر جميلة العلايلي التقدير الذي تستحقه مواهبها، لا يجوز أن نغفل مقارنة أدبها بأدب الجيل السابق، لقد كانت شاعرات ذلك الجيل حريصات على وأد عواطفهن، فكان محرما عليهن شعر الوجدان الفطري، وكانت العاطفة عندهن محصورة في الرثاء وتحية الأهل وتوديعهم، ولكننا في هذا الشعر الجديد نلمح ثورة جديدة على تلك التقاليد البالية، فنجد صاحبته كاشفة في اطمئنان وفي دقة وشجاعة عن دخيلة نفسها في صدى أحلامها المنغومة».

أما الروائي الكبير محمود البدوي فكتب معلقا على هذا الديوان قائلا: «ديوان صغير الحجم أنيق الشكل جيد الشعر عذبه، فيه روح الفنانة الملهمة والشاعرة المطبوعة على قول الشعر دون تكلف ولا صنعة ولا محاكاة، ولا يعيبه كثرة ما فيه من نواح وشكوى وأنين ،فهذا كله لا بأس به إذا جاء من المرأة، ومن فتاة كجميلة العلايلي، فنانة بطبعها تعشق الحرية وتتعلق بالمثل العليا، وتحس بثقل البيئة الخانقة التي تكتم أنفاسها وتهيض جناحيها وتبدد أحلامها الذهبية وتذيب في صدرها أمانيها العذاب، وفي الديوان قطع شعرية جزلة تحسد عليها، وقصيدة تديرها الشاعرة دوران القصة القصيرة، وهذا توجيه منها حسن ومقبول يحبب الشعر إلى نفوس القراء الذين انصرفوا عنه مع الأسف إلى القصة».

بينما وصفت الأديبة السورية «وداد سكاكيني» ديوان «نبضات شاعرة» بأنه أول ديوان شعري تنشره المرأة العربية في نهضتنا الحديثة، متجاوزة شعر البدايات لعائشة التيمورية وملك حفني ناصف (باحثة البادية).

الانتقال إلى القاهرة

كان ثناء هذه الكوكبة من الشعراء والأدباء الكبار وغيرهم في الأوساط الأدبية، على موهبتها الشعرية مشجعا لجميلة  العلايلي للانتقال إلى القاهرة للإقامة فيها بشكل دائم ، بعد أن كانت تتردد عليها فقط في زيارات خاطفة، كانت تحرص خلالها على حضور عروض وحفلات دار الأوبرا الملكية وبعض الصالونات الأدبية في ذلك الوقت، حيث انضمت لجماعة «أبوللو»، لتكون الشخصية النسائية الوحيدة فيها، ولتصبح واحدة من الأصوات الشعرية الأصيلة في الجماعة.

وعبر هذه المسيرة تميزت الشاعرة «جميلة العلايلي»، بانتاجها الأدبي الغزير الذي تنوع ما بين الشعر والرواية والمقالات، حيث توالت أعملها بعد أن استقرت في القاهرة، فأصدرت ديوانها الثاني «صدي إيماني» عام 1976 (أي بعد أربعين عاما من الديوان الأول) وفيه جمعت شعرها الصوفي والايماني. أما ديوانها الثالث «نبضات شاعرة» فكان مقررا له أن يصدر في عام 1951 وكتب مقدمته زكي أبو شادي، لكنه تأخر ثلاثين عاما ،فلم يصدر إلا في عام 1981. ويبدو أن رحيل والدة الشاعرة ثم رحيل زوجها وبعض إخوتها حال بينها وبين إصدار هذا الديوان، لانغماسها في حال من الأسي والانطواء والعزلة. وإلى جانب هذه الدواوين الثلاثة هناك ديوانان مخطوطان، هما «همسات عابدة» و«آخر المطاف». وقد نشرت أشعار جميلة العلايلي  في  العديد من المجلات مثل مجلة «الرسالة» و «الأديب» اللبنانية و«الثقافة» ومجلته التي كانت تصدرها شهريا.

 صالون أدبي وإنتاج روائي غزير

وإلى جانب أعمالها الشعرية، أصدرت جميلة العلايلي عددا من الروايات، مزجت فيها بين الأسلوبين السردي القصصي والشعري، من بينها روايات «هندية»، «الراهبة»، «إحسان»، «تآلف الأرواح»، «الراعية»، «الناسك»، «جاسوسة صهيون»، «من أجل الله». كما أصدرت مع زوجها مجلة أدبية بعنوان «الأهداف» عام1949، استمر صدورها شهريا نحو عشرين عاما،  وكانت تكتب فيها سلسلة من المقالات التي تتناول قضايا الإصلاح والأخلاق والآداب والأمومة وغيرها من القضايا .

وكانت جميلة العلايلي صاحبة صالون أدبي يؤمه عدد كبير من الأدباء وشعراء زمانها ومفكريه.. فقد كانت خلال زياراتها للقاهرة قبل أن تنتقل اليها، تتردد علي صالون مي زيادة، وصالون هدى شعراوي، حيث تعرفت فيهما علي الكثير من الشخصيات الأدبية والفكرية، وقررت بعدها أن تؤسس صالونها الأدبي بها في المنصورة تحت اسم «المجمع الأدبي» ثم انتقلت به إلي القاهرة بعد ذلك- بمساعدة زوجها الصحفي سيد ندا ـ وقد ساهم هذا الصالون بدور مهم في اخراج جيل جديد من الشعراء من خلال اكتشاف العديد من المواهب الشعرية الشابة، وكانت مثالا للفتيات الريفيات اللائي ناضلن من أجل الوصول لحلم الكتابة والتواجد وسط القاهرة.

وفي دراسته لنيل درجة الماجستير من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 2008 بعنوان: «جميلة العلايلي، حياتها وشعرها: دراسة فنيّة»، يكشف الباحث «أحمد محمد الدماطي» عن كثير من الجوانب التي كانت مجهولة في التاريخ الأدبي لحياة شاعرتنا الراحلة، وحياة كثير من الرواد ممن كانوا على صلة بها. وتعد هذه الدراسة أول دراسة كاملة عن حياة جميلة العلايلي وشعرها، بعد أن ظلت هذه الشاعرة بعيدة عن متناول النقاد والدارسين باستثناء المقالات القليلة المتأملة في شعرها وحياتها للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي والأستاذين أنور الجندي ووديع فلسطين. حيث تتعرض هذه الدراسة لحياة وشعر «جميلة العلايلي» وما تمتعت به من جرأة أدبية في التعبير من مكنونات المرأة الشاعرة في أشعارها الوجدانية بصورة لا تتنافى مع العفاف الذي ينبغي للمرأة التحلي به.

وتصف العالم الشعري لجميلة العلايلي بأنه «يتضمن دوائر عديدة متداخلة، تجمع بين شعر الحب والطبيعة والشكوي والتأمل والشعر الصوفي الإيماني والوطني والاجتماعي، علي غرار ما تميز به شعراء جماعة «أبولو» من أمثال ناجي وصالح جودت ورامي وغيرهم.(..) ويظل طابع التأمل ـ في الكون وأسراره ـ طابعاً عاماً يكسو شعرها بغلالة من الحيرة والشجن والإحساس العميق بالأسر، والرغبة في الانطلاق وتحطيم القيود، كما تظل الصياغة القريبة من لغة الكلاسيكية الجديدة في كثير من قصائدها، لتصبح جامعة ومازجة بين فضاءين شعريين: كلاسيكي ورومانسي».

عانت «جميلة العلايلي» في أيامها الأخيرة من أمراض الشيخوخة ولزمت مقعدها بسبب كسور تعرضت لها أثناء سقوطها بمنزلها، لكنها ظلت تحافظ على عادة الكتابة والشعر حتى رحلت عن عالمنا في 11 أبريل من العام 1991، عن عمر ناهز 84 عاما، تاركة إرثا ابداعيا ضخما يضعها في مكانة مهمة في تاريخ الابداع الأدبي والثقافي في مصر.

ولعل هذه الالتفاتة من «جوجل» تجاه جميلة العلايلي، احياء لذكرى ميلادها، تكون تذكيرا للأجيال الجديدة بشاعرة رائدة، كانت يوما محور اهتمامات أبناء جيلها، والمحيطين بها من كبار الشعراء والأدباء، وحافزا للأوساط الأدبية والثقافية لقراءة أعمالها من جديد، ودعوة لنشر ما لم ير النور من أشعارها.

شحاتة عوض

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock