مختارات

لماذا خاصم عبد الناصر ثورة 1919؟

في إطار احتفال مصر بـ«مئوية» ثورة 1919، نظمت عدد من الندوات وظهرت مقالات كثيرة عن مسار تلك الثورة والنتائج التي انتهت إليها، وتجدد الجدل والنقاش حول رؤية عبدالناصر وتقييمه لثورة 1919 التي يصفها في الميثاق الوطني –الوثيقة الأساسية للناصرية– بالثورة الكبرى لكنه ينتقدها بشدة، وتعمدت مؤسسات دولة عبدالناصر ومن بعده السادات، تجاهل قيادات ورموز ثورة 1919 وحزب الوفد، لدرجة أن الأجيال التي تربت في أحضان الناصرية لم تعرف شيئا عن مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد خليفة سعد زغلول، إذ لم يظهر اسمه في مقررات التعليم أو وسائل الإعلام، على رغم أن النحاس كان زعيم الحركة الوطنية بلا منازع في الفترة من 1927 وحتى 1952.

يقول عبدالناصر في الميثاق: «قامت الثورة الكبرى سنة 1919 بعد كفاح طويل ضد العدوان الخارجي وضد السيطرة الداخلية.. وقامت الثورة تطالب بالدستور الذي يعلن حق هذا الشعب في الحياة وحق هذا الشعب في الحرية»، لكن هذه الثورة فشلت في تحقيق أهدافها في ضوء ثلاثة أسباب: الأول: إغفال القيادات الثورية لمطالب التغيير الاجتماعي نتيجة أن المرحلة التاريخية جعلت من طبقة كبار ملاك الأراضي أساساً للأحزاب السياسية التي قادت الثورة، والسبب الثاني: غياب البعد العربي عن قيادات الثورة، أما السبب الثالث فهو: عدم قدرة قيادات الثورة عن تطوير أساليب نضالها، بحيث تتماشى مع أساليب الاستعمار، وبالتالي ارتضت باستقلال شكلي لا مضمون له، وحياة حزبية تفرق ولا تجمع، إذ تحولت إلى ملهاة تشغل الناس وتحرق الطاقة الثورية، ثم جاءت معاهدة 1936 بمثابة صك الاستسلام للخديعة الكبرى التي وقعت فيها ثورة 1919، فمقدمة المعاهدة تنص على الاستقلال بينما صلبها يسلب هذا الاستقلال كل قيمة له وكل معنى.

وأعتقد أن السببين الأول والثالث اللذين أوردهما الميثاق لتفسير فشل ثورة 1919 مستمدان أصلا من مفهوم عبدالناصر للثورة الوطنية الاجتماعية أو الثورة الشاملة بتعبير الميثاق، وكان هذا المفهوم أحد الأفكار الأساسية التي تبلورت وتبنتها حركات التحرر الوطني في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد تأثر به عبدالناصر والضباط الأحرار، وصار من الأفكار والبرامج الأساسية لثورة تموز (يوليو)، من هنا قد يبدو من غير الملائم استخدام مفهوم الثورة الوطنية – الاجتماعية كمعيار لتقييم ثورة 1919 وأداء زعمائها، بكلمات أخرى لم يراع الميثاق الظروف التاريخية – المحلية والدولية – التي أحاطت بثورة 1919 وحددت الخيارات المتاحة أمام زعمائها، ولم يضع في اعتباره الأفكار التي كانت توجه حركات التحرر الوطني آنذاك، لأنه من الثابت أن تلك الحركات الوطنية، سواء في آسيا أم أميركا اللاتينية، لم تطرح على جدول أعمالها مهام للتحول الاجتماعي، أو تسعَ بشكل حقيقي نحو إشراك العمال والفلاحين في القيادة، وبالتالي أرى أن أحكام الميثاق على ثورة 1919 في حاجة إلى مراجعة شاملة، تراعي الظروف التاريخية لثورة 1919، والإطار الفكري والسياسي السائد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أضف إلى ذلك موقف عبدالناصر ورفاقه السلبي من الأحزاب والحياة الحزبية، سواء قبل 23 يوليو أم بعدها.

القصد، كان موقف عبدالناصر غير تاريخي ويعتمد معايير عصره لتقييم مرحلة تاريخية سابقة، وهو منهج غير دقيق ومتحيز، كما ظهرت صياغات وأوصاف لسعد زغلول (زعيم ثورة 1919) تفتقر للدقة والموضوعية، إذ وصف دور سعد زغلول بأنه ركب قمة الموجة الثورية الجديدة! كما ألقى مسؤولية إغفال البعد العربي على قيادات ثورة 1919 وحدها، على رغم أن زعماء الحركة القومية العربية لم يعملوا من أجل إدراج مصر في صفوفها، وكان اهتمامهم منصباً على دول المشرق العربي.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا خاصم عبدالناصر ثورة 1919 ورجالها؟ هناك اجتهادات عدة أتصور أن أهمها هو صراع الشرعيات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، بمعنى أن كل زعيم أو حركة وطنية تحاول أن تشرعن وجودها ودورها على حساب ما سبقها، من خلال تصوير التاريخ المصري الطويل والممتد على أنه يعاني من عثرات وأخطاء يجري تصحيحها بفضل جهود وشجاعة هذا الزعيم أو ذاك! هنا يقوم الزعيم – البطل بعملية تأويل التاريخ والتلاعب به لمصلحته الشخصية، ولدعم مشروعيته السياسية، واستمرار وجوده في القيادة أو في حكم مصر. فعبدالناصر على سبيل المثال وصل إلى حكم مصر من خلال انقلاب عسكري تقليدي سرعان ما تحول إلى ثورة بفضل ما قام به من تحولات اجتماعية وسياسية عميقة غيرت من بنية النظام السياسي المصري، وشكّلت تحولاً مهماً في حياة المصريين، لكن عبدالناصر واجه الشعبية الطاغية لحزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس، كما واجه أيضا اللواء محمد نجيب الذي استعان به الضباط الأحرار للحصول على تأييد الجيش والشعب، من هنا كان اعتزال النحاس الحياة السياسية بأمر من مجلس قيادة الثورة، ثم سـُجن هو زوجته من 1953 إلى 1954، ثم تقاعد من الحياة العامة، بينما فُرضت الإقامة الجبرية على محمد نجيب، كما فُرض حصار إعلامي على اسمه ودوره في الثورة.

وعلى رغم وجود تشابه بين تجربة محمد علي التحديثية وتجربة عبدالناصر، إلا أن الأخير انتقد بعنف سياسات محمد علي، ربما لأنه كان مؤسس الأسرة العلوية التي أطاح عبدالناصر بآخر ملوكها وقضى عليها، ومن ثم كانت هناك حاجة موضوعية ودعائية للطعن في مشروعية الأسرة العلوية، وثورة 1919 وإنجازاتها وزعمائها وحزب الوفد، وذلك لتأسيس مشروعية الناصرية كامتداد للحركة الوطنية ولرغبة المصريين في الحرية والاستقلال. في المقابل احتفى عبدالناصر بثورة الضابط المصري أحمد عرابي 1881، التي تعتبر أنموذجا للانقلاب العسكري المتعثر، وأكد أن الخيانة هي التي أدت إلى فشل الثورة «العرابية»، ولا شك أن تعاطف عبدالناصر ورجالات ثورة تموز (يوليو) مع أحمد عرابي يرجع إلى انتمائه للجيش من جهة، ولتمرده على أحد أبناء الأسرة العلوية من جهة أخرى، ما يعني أن عبدالناصر وعرابي تشاركا في الثورة على الأسرة العلوية.

المدهش أن صراع المشروعيات والطعن في إنجازات زعماء وملوك سابقين، هو عادة مصرية قديمة موروثة عن ملوك الأسر الفرعونية، ويبدو أن ممارستها قد امتدت وتواصلت عبر تاريخ مصر الطويل، إذ قام بعض ملوك الفراعنة بمحو وإزالة أسماء من سبقوهم من الملوك على آثارهم من تماثيل ومعابد، ونقش أسمائهم ونسبة هذه الآثار لهم، في هذا السياق يمكن مقاربة إنكار الزعيم الوطني مصطفى كامل (1874 – 1908) للدور الوطني لأحمد عرابي ووصفه بالخائن الذي تسبب في احتلال بريطانيا لمصر! وهجوم أحزاب الأقلية الشرس على دور سعد زغلول وحزب الوفد، وكذلك حملات الهجوم على عبدالناصر والناصرية في ظل حكم وريثه أنور السادات، ثم حملات النقد على حكم السادات التي ظهرت أيام حكم مبارك، وتركيز الأخير على دوره في حرب أكتوبر على حساب دور السادات وقادة حرب أكتوبر، خاصة الفريق الشاذلي.

وقناعتي أن محاولات سرقة التاريخ وتوظيفه لن تتوقف، كما لن ينتهي صراع المشروعيات بين الزعماء وأنظمة الحكم، وذلك على رغم تطور وسائل التدوين وحفظ التاريخ وثورة الاتصالات والمعلومات والإعلام، لأن وفرة المعلومات وتضخمها أتاح أيضا إمكانات للتزوير ونشر الأكاذيب وأشكال التلاعب بالعقول والقلوب كافة، لكن تبقى فرضية أنها مهما نجح المتلاعبون بالتاريخ فإن الحقائق التاريخية ستظهر أو على الأقل سيظهر أغلبها، وأنا أتذكر دائما أنه كلما ذهبت لزيارة أحد المعابد الفرعونية أو قراءة تاريخ هذا المعبد، أجد عرضاً شيقاً عن الملك الذي بني المعبد، وأن أحد أسلافه قد حاول سرقته ونقش اسمه، لكن التاريخ فضح السارق وأدان فعله.

نقلا عن: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock