*إيريز مانيلا- أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد- نيويورك تايمز
* ترجمة أحمد بركات
تقديم:
في اطار الاحتفاء بالذكرى المئوية لثورة 1919، ينشر موقع «أصوات أونلاين» ترجمة لمقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية ذائعة الصيت تحت عنوان «ودرو ويلسون وأقبح الخيانات» لأستاذ التاريخ في جامعة هارفارد «إيريز مانيلا»، ويتعرض هذا المقال لفترة مهمة في تاريخ الولايات المتحدة، حيث تزامنت الثورة المصرية مع إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق «ودرو ويلسون» لمبادئه الأربعة عشر عن حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير، وهي المبادئ التي ألهمت الكثير من شعوب العالم بما فيه الشعب المصري الذي كان يتأهب للثورة ضد الاحتلال الانجليزي والمطالبة بالاستقلال. ويستدعي كاتب المقال هذه الفترة، التي تمتد من إعلان مبادئ ويلسون، وحتى إبرام معاهدة فرساي للسلام في يونيو 1919، أو ما يطلق عليه الكاتب «اللحظة الويلسونية» التي حملت وعود الرئيس الأمريكي إلى العالم. لكن المقال يشرح بالتفصيل كيف خان ويلسون والولايات المتحدة أحلام المصريين وثورتهم، وضربوا عرض الحائط بكل الرسائل التي بعث بها سعد زغلول ورفاقه إلى الرئيس الأمريكي يرجونه فيها دعم حق مصر في الاستقلال عن بريطانيا.
«أصوات أونلاين»
نص المقال
في نوفمبر 1918، عندما سرت أخبار الهدنة في أوربا في ربوع القاهرة، دنا أحد أصدقاء المفكر المصري البارز، محمد حسين هيكل، منه، وقال في دهشة: «هذه هي»، مردفا بلهجة تنم عن أمل وثقة: «إننا أصحاب الحق الوحيدون في تقرير مصيرنا، ولا بد أن يغادر الإنجليز مصر». أما عن أسباب هذه الحماسة، فقد أوضح صديق هيكل أن «الولايات المتحدة هي الدولة التي انتصرت في الحرب، وهي ليست دولة إمبريالية؛ ومن ثم، فإنها ستفرض حق تقرير المصير والانسحاب».
ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، انتعشت آمال الحرية والاستقلال في قلوب وعقول الشعوب المقهورة، وكان الرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون» هو الباعث والمحرك لهذه الآمال. ولفترة وجيزة، بدا ويلسون للملايين في جميع أنحاء العالم بشيرا ونذيرا بين يدي عالم جديد.
وودر ويلسون الرئيس الأمريكي الأسبق
الحماية البريطانية على مصر
في مصر، كانت حقبة ويلسون مؤثرة بشكل خاص. فعندما بدأت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، التي كانت حتى ذلك الوقت ولاية تابعة للدولة العثمانية، وهو ما منح الصبغة الرسمية للهيمنة البريطانية الفعلية على مصر، التي بدأت منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر(1882). وقد قُدم قرار اعلان الحماية على مصر باعتباره إجراء مؤقت دعت إليه ظروف الحرب، وهي الحقيقة التي أكدها القادة الوطنيون المصريون بعد ذلك.، لكن هذه الحماية لم تقدم شيئا لحماية المصريين من الصعوبات التي فرضتها الحرب، حيث تحولت مصر إلى قاعدة عسكرية ضخمة، وتجمع على أراضيها آلاف الفرق العسكرية التابعة لجيوش الحلفاء. لكن التضخم والاستيلاء على الموارد والتجنيد الإلزامي، وغير ذلك من تداعيات الحرب جعل الحياة في مصر بالغة الصعوبة.
في النصف الآخر من العالم برزت الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها كأبطال يحملون مشاعل نظام عالمي جديد سيعقب انتصار الحلفاء. ولامس خطاب ويلسون في وقت الحرب، وخاصة دعمه القوي لمبدأ «تقرير المصير»، قلوب الكثيرين في مصر وغيرها، وبدا الأمر وكأن قواعد اللعبة القديمة توشك أن تتغير. وحتى قبل خوض الولايات المتحدة غمار الحرب في أبريل 1917، أعلن الرئيس ويلسون أن السلام يجب أن «يقبل بمبدأ أن تستمد الحكومات كافة سلطاتها من قبول المحكومين».
رهان المصريين على موقف أمريكا من قضيتهم
في مايو 1917، أُعلن ويلسون أن الولايات المتحدة وحلفاءها «يقاتلون من أجل مبادئ الحرية والاستقلال والتنمية المطلقة وغير المحدودة لجميع شعوب العالم». وفي يناير 1918، خاطب ويلسون الكونجرس من أجل وضع الخطوط العريضة للرؤية الأمريكية لعالم ما بعد الحرب، وهو الخطاب الذي عرف عالميا باسم «المبادئ الأربعة عشر». وبرغم عدم تضمن الخطاب صراحة مصطلح «تقرير المصير»، إلا أن ويلسون بادر باستخدامه سريعا بعد شهر واحد عندما وصفه بأنه «مبدأ حتمي للعمل»، وأكد أن «كل تسوية سلمية تضمنتها هذه الحرب يجب أن تستمد وجودها وشرعيتها من خدمتها لمصالح الشعوب».
لذا، فإنه من غير المستغرب أن يتوقع المصريون أن يعكس نظام ما بعد الحرب خطاب ويلسون السابق، أو أن يتحركوا سريعا، بمجرد انتهائها في نوفمبر 1918، للمشاركة في النظام الجديد الناشئ. ففي 13نوفمبر، أي بعد يومين فقط من الاتفاق على الهدنة، قام وفد من القادة المصريين بزيارة المفوض السامي البريطاني، السير «ريجينالد وينجيت»، للإعلان عن رغبتهم في الاستقلال السياسي. كما طلبوا تصريحا بالسفر إلى باريس لعرض القضية المصرية في مؤتمر السلام المنعقد في فرساي .
السير ريجنالد وينغيت
ترأس سعد زغلول، أو “زعيم الأمة” كما كان يطلق عليه والوزير السابق في الفترة من 1906 إلى 1913، الوفد المصري إلى المفوض البريطاني، وذلك بوصفه ليبراليا مصريا. كان زغلول يشعر باستياء بالغ من الدعم البريطاني للنظام الملكي الاستبدادي في مصر، وهو ما دفعه إلى الاستقالة من منصبه الوزاري. وفي عام 1918، تم انتخابه لعضوية البرلمان ليصبح زعيم المعارضة.
ومن قبيل اللعب على وتر الوقت، طلب «وينجيت» من الوفد المصري التحلي بالصبر، حتى تنتهي حكومة صاحب الجلالة البريطانية من بعض القضايا الملحة. كان البريطانيون يعتبرون مصر، وتحديدا قناة السويس، شريان حياة استراتيجي لإمبراطوريتهم، ومن ثم كانوا لا يرغبون في عرض قضية مصر في مؤتمر السلام في فرساي. وسرعان ما رفضت لندن مطلب سعد زغلول ورفاقه بالسفر.
برقيات سعد زغلول إلى ويلسون
وردا على ذلك، تحرك زغلول وحلفاؤه لحشد الدعم الشعبي، وتنظيم تجمعات جماهيرية وتدشين حملات لجمع التوقيعات. في الوقت نفسه، ناشد الوفد المصري، الرئيس الأمريكي مباشرة عبر برقية أكد فيها زغلول أن المصريين «انتابهم بقوة شعور غامر بميلاد حقبة جديدة ستفرض نفسها سريعا – بفضل عملكم الشجاع – على العالم بأسره”. وأضاف أن هذه الحقبة “لن يعكر صفوها طموحات النفاق، أو سياسات الهيمنة الغابرة، أو تعزيز المصالح الوطنية الأنانية… لذا، فإن مصر يجب أن تحصل على فرصتها لعرض قضيتها في باريس؛ فهذا هو “حقها الطبيعي والمقدس».
ومع اقتراب موعد المؤتمر في يناير 1919، واحتشاد الشعب المصري خلف سعد زغلول، زادت حدة التوتر لدى السلطات البريطانية، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية ضد زغلول ورفاقه. وبموجب قواعد الأحكام العرفية، التي ظلت سارية منذ اندلاع الحرب، تم إلقاء القبض على زغلول وعدد غير قليل من مؤيديه، وفي 9 مارس تم نفيه إلى جزيرة مالطا.
أثار اعتقال زغلول ورفاقه موجة من الإضرابات والتظاهرات التي عمت جميع ربوع مصر، واجتاحت البلاد صدامات عنيفة عُرفت في التاريخ المصري باسم «ثورة 1919» شارك فيها المصريون من جميع المشارب والفئات، بمن فيهم الطلاب والعمال والموظفون والفلاحون وغيرهم. كما عبر قادة الطوائف المسيحية واليهودية في البلاد عن دعمهم للثورة. وخرجت النساء إلى الشوارع في سابقة لم يعهدها المجتمع المصري. وواجهت القوات البريطانية الغضب الشعبي بتطبيق الأحكام العرفية بكل حزم. وعلى مدى الشهور التالية، قتل قرابة 800 مصري، وجُرح كثيرون آخرون، إضافة إلى 60 من الجنود والمدنيين البريطانيين.
ومع تفشي الحالة الثورية في الشارع المصري، تدفق سيل من البرقيات والرسائل والعرائض على القنصلية الأمريكية في القاهرة تعرب عن إيمانها العميق بمبادئ الرئيس ويلسون، وتدعو واشنطن إلى تأييد «قضية الحق والحرية» في مصر. وشكت إحدى الرسائل التي وقعت باسم «سيدات مصر» من استخدام البريطانيين «القوة الوحشية حتى ضد النساء». وعرض كتيب يوثق وحشية البريطانيين صورا لمصريين ألهبت السياط النصف العلوي من أجسادهم وتركت فيها جراحا غائرة، ووُضع أسفل كل صورة اسم صاحبها ومكانته الاجتماعية (فلاح، طالب، عالم في الدين، …). وأكدت الرسالة أن الثورة تحظى بتأييد ودعم المصريين من كافة الفئات.
الخذلان الأمريكي للمصريين
لكن الخارجية الأمريكية لم تحرك ساكنا. وارتأى «ألين دوليس»، الدبلوماسي الشاب حينذاك في إدارة شئون الشرق الأدنى، الذي تبوأ بعد ذلك منصب رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية، أنه «لا يجب الاعتراف أو الالتفات بالأساس إلى مناشدات المصريين»، ووافقه الآخرون على هذا الرأي. وعندما كتب وزير الخارجية البريطاني، «أرثر بلفور»، في أبريل أن «القوميين المتطرفين» في مصر، الذين وصفهم بأنهم «عملاء مأجورون للحزب الثوري في تركيا والحركة البلشيفة في موسكو» يستخدمون كلمات ويلسون «لدق طبول حرب مقدسة ضد الكفار»، سارع ويلسون بالاعتراف بالحماية البريطانية على مصر.
ألين دوليس
تزامن انتشار خبر قرار ويلسون بالاعتراف بالحماية البريطانية على مصر مع إطلاق سراح سعد زغلول ورفاقه من منفاهم في مالطا، وعبورهم البحر المتوسط متجهين إلى باريس. عرف الوفد بموقف ويلسون أثناء وجوده في ميناء مارسيليا، فوقع عليه كالصاعقة. ووصف محمد حسين هيكل هذا القرار لاحقا بأنه «أقبح الخيانات، وخرق غير مسبوق للمبادئ». بقي سعد زغلول في باريس عدة أشهر في محاولة لعرض قضية بلاده، وبعث إلى ويلسون بالعديد من الرسائل وطلب لقائه بإلحاح، لكنه لم يظفر سوى بردود مقتضبة من مكتب الرئيس تؤكد استلام رسائله، مع اعتذار بانشغال الرئيس بأمور مهمة.
واستمر تدفق الدعاوى والعرائض التي بعث بها مصريون إلى ويلسون لبضعة شهور، محملة بقناعة راسخة بأن الرئيس الأمريكي لم يكن ليخون القضية المصرية عن عمد، وأنه تعرض لخداع بريطاني. وسعت إحدى الرسائل من مجموعة من الطلاب المصريين إلى توضيح الأمور وإزالة سوء الفهم عن الرئيس، مؤكدة أن الحركة المصرية «ليست دينية أو معادية للغرب»، وأنها «بعيدة كل البعد عن أن تكون بلشيفية بأي وجه من الوجوه».
فقدان الأمل في أمريكا
وبحلول صيف 1919، فقد سعد زغلول أي أمل في أن يجد من ويلسون آذانا صاغية، فقرر إعادة توجيه محاولاته صوب الكونجرس. وفي يونيو من نفس، أخبر زغلول الصحافة المصرية أن لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي وجدت أن مصر لا تخضع للسلطة البريطانية أو التركية، وأنها «تخضع للحكم الذاتي المصري». وقد أثارت هذه النتيجة عاصفة من الجدل والنقاشات الحادة في وسائل الإعلام المصرية، لكن الأمر توقف عند هذا الحد فقط.
وفي نوفمبر 1919، أرسل زغلول – الذي لم يبرح مقامه في أوربا – برقية أخرى إلى الرئيس الأمريكي عبر فيها عن رجائه أن تحظى مطالب المصريين بدعم واشنطن، مؤكدا أن المصريين ينظرون إلى الرئيس ويلسون باعتباره «قائد توجه عالمي جديد من شأنه إقرار السلام والرخاء في جميع أنحاء العالم» (..) والآن، «في الوقت الذي يؤمن فيه المصريون بمبادئكم إيمانا عميقا، فإنهم يُعاملون معاملة همجية غير مسبوقة على يد البريطانيين».
لم تزد هذه الرسالة إحباطات زغلول إلا إحباطا جديدا. ولكن بحلول نهاية العام، وبرغم هذا الإخفاق في الحصول على أي دعم أمريكي، أبدى الزعماء الوطنيون المصريون المدعومون من الرأي العام المصري تمسكا قويا والتزاما عميقا بمقاومة الهيمنة البريطانية. وفي معرض رفضه جهود لندن للتفاوض بهذا الشأن، بعث زغلول برسالة إلى وزير الخارجية البريطاني، أرثر بلفور، مؤكدا فيها أن «روح العصر» الجديدة تقضي بأن «تتمتع جميع الشعوب بحقها في تقرير مصيرها»، وأنه برغم خيانة ويلسون، فإن ثمة تحولا جذريا تكتمل ملامحه يطال كافة شئون العالم، ويطيح بكل مبررات الكولونيالية في مهملات التاريخ.
*يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا😕