ثقافة

شوارع الكتب: قلب الثقافة العربية النابض

ربما لا تخلو ذاكرة المثقف العربي من ذكريات مع  أحد الشوارع والأزقة التي ساهمت في تكوينه الفكري والثقافي منذ شغفه الأول بالقراءة وحبه الطفولي للمطالعة. فقد يتذكر بعضهم لحظات جمع القروش القليلة أو الكثيرة، ولحظات البحث بين أكوام الكتب القديمة والصفراء على الأرصفة، لحظات الاختيار والفصال مع  بائع الكتب بسيط المظهر والغني بالمعرفة والخبير في فنون الكتاب وتواريخ الطباعة.

وكما أن لشوارع الكتب في بعض العواصم والمدن العربية هويتها الخاصة، ومسامراتها الفريدة، فإن لبعضها أيضا مذاقا خاصا وذكريات مميزة ،تصنعها رائحة الورق العتيق، وعبق أيدي أجيال متلاحقة من القراء مرت من فوق تلك الصفحات في أحد الشوراع التي تخصصت على مدار عقود في بيع الكتاب القديم والمستعمل فعُرفت به وعُرف بها.

متنفس القراء هربا من الغلاء

أسواق الكتب القديمة والمستعملة متنفّس يلوذ به القراء إما هرباً من غلاء أسعار الكتب في المكتبات العامّة، وإما بحثاً عن طبعات نادرة أو كتب ممنوعة، وبذلك صارت تلك الشوارع سوقاً موازية للكتب والمجلات والمطبوعات، ومعرِضاً دائماً تزوره النُّخبة الفكرية وأشهر ضيوف الثقافة من العرب والأجانب، حيث تُلقى على جانبيه أكداس من الكتب التي تختلف من حيث الأجناسُ الأدبية ولغةُ الكتابة وهواجسُها الإبداعية، ومن حيث سنوات الطباعة ومصدرها، ومن حيث تنوع المجالات التي تقوم بتغطيتها.

في معظم العواصم العربية تُمثّل أسواق الكتب المستعمَلة التي تنتصب في أحد الشوراع الشهيرة مَحجّاً يومياً لمحبّي القراءة والباحثين عن الكتب النادرة من الطلاب والمثقّفين. فالكتاب المستعمَل استطاع أن يكون فاعلاً في تنشيط الحركة الثقافية، وشوارع الكتب أضحت تمثل مصانع لإعادة تدوير الثقافة والمعرفة والفنون، وحازت بنشاطها شهرة عالمية.

سور الأزبكية

ومن أشهر الشوارع التي حازت شهرة عالمية كسوق لبيع الكتب القديمة، أكشاك سور الأزبكية في وسط القاهرة، والذي يعود تاريخ نشأته إلى مطلع القرن العشرين وتحديد عام 1909، حين خاضت مجموعة من باعة الكتب تجربة اتخاذ موضعهم بجوار حديقة الأزبكية الشهيرة  ليفترشوا كتبهم. ومع مرور الوقت صار لهم زبائن ورواد، ثم نجح هؤلاء في تقنين أوضاعهم باستصدار تراخيص لمزاولة عملهم بعد لقاء جمعهم برئيس الوزراء أنذاك مصطفى النحاس باشا في أربعينات القرن الماضي،  وبعد ثورة يوليو 52 أمر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان واحدا من رواد السور، في عام 1959 ببناء أكشاك لباعة كتب سور الأزبكية شريطة ألا يقوموا بتغيير أنشطتهم.

وعلى الرغم من مرور العديد من التغيرات على السور وباعته طوال العقود الماضية، إلا أنهم ظلوا يشكلون جزءا مهما من معادلة الثقافة المصرية، ولايزال السور محل فخر كل المثقفين المصريين والعرب لما يزخر به من أمهات الكتب ومكتبات كبار المثقفين التي تأتي إلي السوق من أصحابها أحيانا ومن الورثة كثيرا.

شارع المتنبى

ويمثل شارع المتنبي في بغداد العاصمة الثقافية العريقة، وأحد من أهم تجارب شوارع الكتب في الثقافة العربية، ويقع شارع المتنبي في وسط العاصمة العراقية قرب منطقة الميدان وشارع الرشيد، ويعتبر السوق الثقافي الأكبر في العراق بصورة عامة وفي بغداد خاصة. وقد أشتهر شارع المتنبي بازدهار مكتباته واحتضانه لأعرق المؤسسات الثقافية، وأطلق عليه اسم المتنبي في سنة 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمنا بالشاعر العظيم  أبو الطيب المتنبي.

شارع الحلبوني الدمشقي

الأهمية ذاتها يشغلها شارع الحلبوني في وسط العاصمة السورية دمشق، حيث يمتد هذا الشارع من محطة الحجاز إلى مشفى التوليد في حي البرامكة، وهو من شوارع دمشق القديمة، وتعود مبانيه إلى العهد العثماني والاحتلال الفرنسي، وتحول تدريجيًا من حي سكني إلى حي يغلب عليه الطابع التجاري. تنتشر فيه أكثر من مئة مكتبة، يتبع معظمها إلى دور نشر محلية أو عربية، كمكتبات النوري والصفدي، والأسد وغيرها. بعضها متخصص في مواضيع أو بفئات عمرية معينة، كما  تنتشر كذلك على أرصفته بسطات لبيع الكتب الجديدة والمستعملة، ويضم تجمعًا لمحال بيع القرطاسية والمستلزمات المكتبية.

نهج الدبّاغين/ تونس

ويعد نهج الدَبّاغين (شارع الدباغين) في تونس العاصمة متنفّسًا يلوذ به القراء هرباً من غلاء أسعار الكتب في المكتبات العامّة، وبحثاً عن كتب نادرة أو ممنوعة. وبذلك صار هذا النهج سوقاً موازية للكتب والمجلات والمطبوعات، ومعرِضا تزوره النُّخبة الفكرية وأشهر ضيوف الثقافة من العرب والأجانب، حيث تُلقى على جانبيه أكداس من الكتب التي تختلف من حيث الأجناسُ الأدبية ولغةُ الكتابة وهواجسُها الإبداعية، بالإضافة إلى  نهج إنفلترا في تونس العاصمة.

وإلى جانب هذه الشوارع ذائعة الصيت للكتب القديمة والمستعملة في العواصم العربية المذكورة، هناك  العديد من شوارع الكتب في مختلف العواصم العربية تقوم بدور ثقافي ومعرفي مهم من بينها حي المحمدية بالعاصمة السعودية الرياض، وشارع عبدالمغني في العاصمة اليمنية صنعاء، وساحة البريد المركزي بالعاصمة الجزائرية، وشارع إتني بالعاصمة السودانية الخرطوم، والسوق الشعبي بأم درمان.

(شارع إتني)

في المملكة المغربية تعد شوارع سوق سيدي البرنوصي في الدار البيضاء، وشارع فال ولد عمير  بحي أگدال بالرباط، من الشوارع المعروفة بالتخصص في بيع الكتب. وفي مصر فإنه إلى جانب سور الأزبكية الشهير، هناك شارع النبي دانيال بالإسكندرية الذي يعد أحد معالم المدينة الثقافية حيث يعج بالكثير من المكتبات وباعة الكتب القديمة والجديدة.

كل هذه الشوارع والمناطق التاريخية العريقة حملت على عاتقها، على مدى عقود، مهمة إنعاش الحياة الثقافية وتغذيتها في العديد من المدن والعواصم العربية. فقد اشتهرت هذه الشوارع على تعددها وتنوع مواقعها بجذب القراء والباحثين والطلاب.

فشارع المتنبي اليوم هو نفسه سوق الوراقين الذي عٌرف منذ العصر العباسي، ويحمل الشارع حكاية بغداد من هولاكو –الذي صنع جسرا بمكتبات بغداد لتعبر عليه قواته النهر- وحتى الغزو الأميركي للعراق. أما سور الأزبكية  فهو نفسه الشارع الذي أطلق عليه منذ وزارة النحاس باشا «جامعة الفقراء».

شوراع الكتب هي نبض ثقافتنا العربية تزدهر بازدهار النشاط الثقافي، وتخبو وسط زحمة مصاعب الحياة، ونمط الحياة المتسارع، والسير بدون هدي، وقد يتحول روادها إلى باعة جائلين، بينما تظل الشوارع قائمة كما هي توخز الضمائر الثقافية للشعوب، وتذكرها بموقع العقل من الجسد في حياتهم، وبموقعهم هم بين شعوب الأرض، فإن عادوا عادت.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock