ثقافة

أنور عبد المغيث.. سعفة ذهبية وقلب صوفي

من يعرفون الكاتب والمؤلف المسرحي والتليفزيونى الكبير أنور عبد المغيث معرفة حقيقية يؤمنون بأن كل ما قدمه – وهو عطاء بديع- لم يعبر تعبيرا كاملا عن طاقته الإبداعية.. فهو، فضلا عن براعته التي لا ريب فيها في مجال الكتابة للمسرح والدراما التليفزيونية، واحد من أجَّل المثقفين المصريين وأجملهم، وهو- قبل ذلك وبعده- ذو الميول الصوفية الواضحة التي تتجاوز الطرق يقينا- حتى لو آمنتَ ببعضها- إلى آفاق أرحب وأبقى.. آفاق التجربة الخاصة الممتلئة بالملاحظات والمشاهدات وصولا إلى المرادات العلا بالصبر المفضي إلى الرضا في إطار المحاولات المستمرة لبلوغ الأهداف.

له صفحته الفسيحة على موقع «فيسبوك» والتي يبدو عبرها فعليا كشيخ صوفي باذخ المعرفة، ومن حوله آلاف المريدين ممن يمتاحون من نهره ويغرفون من بحره محبين لائذين.. لا أعني أنه يتكلم في التصوف وحده بل في شتى المجالات، بإحاطات مذهلة، لكن بروح نقية في الأغوار لمن يستطيعون التنبه لمثل هذه الأمور دقيقة الشأن.

في عام 2017 فاز نصه المسرحي الفريد «عشا العميان» بجائزة السعفة الذهبية من مهرجان الأورودراما بفرنسا، متفوقا على عدد ضخم من النصوص المسرحية بلغ سبعمائة وستة وأربعين نصا من مختلف لغات العالم، بشهادة مائتين واثنين وثمانين عضوا) موزعين على سبع وعشرين لجنة للقراءة باللغات المختلفة، منها أحد عشر نصا فقط باللغة العربية هكذا كما تداولت وكالات الأنباء الدولية والمحلية الخبر في حينه). وحينذاك صرح عبد المغيث لوسائل الإعلام ،التي تهافتت  لمحاورته،  قائلا: «إن الفوز جاءني من الله تعويضا عن سنوات الحصار والمحاربة في لقمة العيش».

هذا التصريح المقتضب المهم حيال فوزه بالجائزة رفيعة القدر لا يصح أن يمر مرور الكرام، بل الأحرى تأمله والاستفادة منه في مشاوير الإبداع.. فالغالب أن الرجل أراد أن يقول للجميع ممن يعملون في مجاله: ستحدث الأشياء الطيبة ولو بعد حين، ما دامت البواطن تؤمن بحدوثها، وما دام الشخص على ظاهر الجد والاجتهاد والسعي إلى تحقيق حلمه بالحق الذي لا تشوبه شائبة وليس غافلا ولا نائما.

هو إذن درس بليغ يعطيه أنور عبد المغيث للكبار أمثاله وللأجيال الجديدة طبعا في عبارة بسيطة تلت حصوله على جائزة معتبرة. وعلى منواله يكون الكاتب قدوة في زمنٍ فقد الوسطان الأدبي والثقافي فيه القدوات.

ارتباط بالجذور

طوال رحلته لم يكن كاتبنا الكبير، صعيدي الأصل المنتمي إلى عائلة لها سمعتها المجيدة في العائلات، منفصلا عن جذوره، بالرغم من نزوحه المبكر إلى العاصمة واستقراره فيها، ليبدأ مشوار المعاناة الفنية الذي لا نهاية له وإن لطفته النجاحات وأبهج أصحابه التفوق والتكريم.

بين عناوين أعماله ما يشير إلى اتصاله الحميم ببيئته الأصلية (الوصي- الوشم- النار والطين). وبمناسبة الدراما الصعيدية لا يفوتنا التنويه هنا إلى أن هذه الدراما صارت مطية المؤلفين بعد أن راج سوقها رواجا عظيما، ولا بأس في ذلك، فالصعيد أكبر جغرافيا مصرية، لكن لا بد أن يتصدى لها من ينتسبون إلى بلادها بالواقع لا الخيال، فضلا عن امتلاكهم الدراية الأكيدة بتاريخها وإنسانها وفلكلورها.. وأنور عبد المغيث واحد من هؤلاء بل على رأسهم.

من أعمال أنور عبد المغيث الدرامية التلفزيونية: الصفر ع اليمين: (قصة وسيناريو وحوار)، الأمانة: (تأليف)،الوصي: (قصة وسيناريو وحوار)، أيام المنيرة- 1994 (سيناريو وحوار)، القطار الأخير-1999 (معالجة درامية وسيناريو وحوار)، الوشم-2001 (قصة وسيناريو وحوار)، النار والطين-2012 (قصة وسيناريو وحوار). أما أعماله المسرحية فتضم مسرحية حوش بديعة-2016 (مؤلف)، عشا العميان (الحائزة على السعفة الذهبية من مهرجان الأورودراما بفرنسا 2017).

Related image

لا يكتب الرجل كتابة كثيفة للدراما التليفزيونية، ولا يعارك على موسم أو توقيت عرض، فبين أبناء جيله من هم أغزر إنتاجا  لكن أقل قيمة.. كل ما يحرص عليه أنور عبد المغيث هو أن ينتهي من الكتابة بسلام، محققا إضافة ما.. وبعدها يأتي التنفيذ للشاشة على مهل.

لديه جانب آخر لا يجعل عطاءه الدرامي البديع وافرا وهو تفرغه للقراءة، ولقاءات الأهل والأحبة وأصدقاء الصفاء والثقافة، والتجوال في البلاد طولا وعرضا، كأنه يحتاج إلى رؤيتها من جديد، وهو الذي لم ينقطع عن الطواف بها قط، لكنه دأب الراسخين الذين يزدادون مع الأعوام فهما للعالم وإحساسا به ورغبة في إلقاء الأنفس في براحه طواعية بكل ما يعتمل داخلها من المشاعر والخواطر.

سمات إنسانية نبيلة

قدم المؤلف الكبير يد العون لمن يستحقونها من زملائه المظلومين، أو من أبناء الأجيال الجديدة الحائرين، ولا يتردد في ذلك لو وجد السبيل إليه بل قد يقاتل لأجله خصوصا لو كان الظلم فادحا والحيرة بالغة والمواهب ألمعية. يبدو كارها للجهل بكل معانيه و كارها لعشاق الرجعية والظلام وللمستبدين، ولمن لا تستند آراؤهم، فيما يتصل بالقضايا الجدلية المثارة، على تحري المعلومة الصحيحة وتوخي الصدق والموضوعية، وقد يحتد الرجل في بعض الأحايين على من يراهم خصوما لفكرته البسيطة الواضحة، لكنه احتداد على غموض الأشخاص، لا الأشخاص أنفسهم، وعلى غيامة التصورات لا أصحابها.

ظللت لأعوام طوال، بعد رحيل أصدقائي الكبار واسعي الصدور المقدرين من أهل الخبرات الحياتية الباذخة والمعارف الجمة، لا أثق ثقة حقيقية بامتلاك أحد لما يكشف الغطاء عما توارى واستتر من جلائل الأحوال.. لكن حين صادفت الرجل صادفت كنزا ممتلئا دررا بكل معنى الكلمة؛ فاطمأنت نفسي بوجوده كواحد ممن يملكون الأجوبة الألمعية على أسئلة المتعطشين إليها، ولا يتوانون عن السعي بها إليهم بوقار الذين يحبون اكتمال الصور لا نقصانها.

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock