تبدو الكتابة عن تاريخ التكفير- كظاهرة – من الأمور التي يصبح الوقوف عندها بمثابة استعادة لتاريخ طويل من هدر الدم ودهس الآخر وشطبه تحت دعوى تهمة جاهزة توصم الآخر المختلف بالكفر والخروج عن الملة. مبدعون كثيرون تم تكفيرهم قديما وحديثا وأُهدر دمهم تحت مقصلة هذه التهمة التي يستسهل الراديكاليون الرجعيون فى كل العصور إطلاقها على من يحاولون التغريد خارج السرب والكتابة بعيدا عن المعتاد والتقليدي.
النماذج في عصرنا الحديث كثيرة ومتنوعة، وهي امتداد لتاريخ طويل من رمي الآخر بالكفر.. من نموذج الإمام ابن حزم الاندلسي «(7 من نوفمبر 994م _15من اغسطس 1064 م )» صاحب كتاب «طوق الحمامة في الألفة والإيلاف» مرورا بـ «ابن المقفع» و «ابن رشد» وغيرهم من الاسلاف. وامتد هذا التاريخ من الاقصاء إلى عصرنا الحديث، فنجد نموذج الشيخ «على عبد الرازق» الذي تم عزله عن منصبه بقرار من المؤسسة الدينية وهاجمه العديد من مجايليه، والسبب نشره لكتابه الذي صار بين أيدينا اليوم «الاسلام وأصول الحكم» والذي أصبح أحد المراجع الرئيسية في الدفاع عن فكرة الدولة المدنية. ولا يخفى على أحد ما لحق بالتنويرى البارز وعلامة عصرنا «طه حسين» نتيجة نشره لكتابه «في الشعر الجاهلي»، والذي انشغل بالمنهج العلمي. صحيح أن إرادة التنوير انتصرت عبر قضاء مستنير وقتها، لكن ماحدث «لنصر حامد ابوزيد» في سنوات ليست بعيدة عنا كان من الأمور التى تثير حفيظة كل من يحاول التفكير والبحث العلمي، حيث أعاد ذلك للذاكرة والوعي الجمعي لدى جموع المثقفين محنة «طه حسين».
في هذه الحلقات نسلط الضوء على تاريخ التكفير عبر شهادات بعض كتابنا محاولين قراءة ما مربه هؤلاء الذين تم تكفيرهم وكيف عاشوا بعد أن سقطت عن تهمة التكفير ليبقى التفكير هو الأبقى.
بداية مبكرة
في البداية يشير القاص والأديب الشاب «أحمد الزلوعي» إلى أن بداية التكفير جاءت مبكرة في التاريخ الاسلامي، وكان ذلك على خلفية صراعات سياسية فالخوارج -الفرق الأولى منهم- قضوا بتكفير مرتكب الكبيرة، ولكن الأساس الذي انطلقوا منه هو انشقاقهم عن الإمام علي بن أبي طالب لقبوله التحكيم وهي مسألة سياسية في الأصل, ولاحقا ستتهم السلطات العباسية تيارات بالزندقة من بينها مسلمون يختلفون في تفسيرهم للأمور عما ساد بعد المتوكل من سيطرة التيار الأشعري ثم الحنبلي.
الكاتب: أحمد الزلوعي
ومن هنا نلاحظ، يقول الزلوعي، استخدام التكفير كسلاح في الصراع تارة من قبل الرافضين تجاه السلطة، وتارة من جهة السلطة تجاه الرافضين. وهو في الحالين يحمل إدعاء بامتلاك الحقيقة الكاملة التي يجب حيالها نفي كل رؤية مغايرة وتوصيفها على أنها الباطل، على أننا لابد أن نلتفت أيضا إلى المساحات الشاسعة فى التاريخ الاسلامي التي شهدت تعايشا بناء بين المختلفين واحتراما لقيمة الاختلاف نفسها لاسيما في عصور الازدهار الحضاري الذي يحتفي بالتعدد العرقي والثقافي والعقدي كمعظم الفترة العباسية الأولي ومعظم الفترة الفاطمية ومعظم الفترة الإسلامية في الاندلس وغيرها.
ويضيف الزلوعي: «ويكفى أن نذكر عشرات المؤلفات القيمة التي حفظها لنا التاريخ الاسلامي على مختلف عصوره وخاصة في أوقات الازدهار والتي كان الفقهاء أنفسهم يكتبون فيها في شتي شئون الحياة حتى الجنس بتفصيل وإسهاب كالامام السيوطي مثلا ،أو في أعمق مسائل الفكر كأبي العلاء المعري، لذلك تبدو ظاهرة تكفير المبدعين مرتبطة كما قدمنا بجو عام يؤهل لفكر التطرف الاقصائي أن ينمو عبر الجهل بروح الموروث وبدروس التاريخ في آن واحد».
تحذير نبوى
و يلفت الناقد «محمد عبد الباسط عيد» إلى أن محاولات توظيف بعض الاّيات القراّنية والأحاديث النبوية بعيدا عن سياقها لإطلاق التكفير على المختلفين بدأ ت مبكرًا في المجتمع الإسلامي، وأدرك الرسول الكريم هذه القضية فحذر عليه الصلاة والسلام من الإفراط في استخدام هذا السلاح (أي التكفير) ضد المؤمنين أو من يحسبون على معسكر الإيمان، حتى لا ينتشر الشقاق بينهم، وله أحاديث نبوية شريفة فى هذا السياق وليس هناك أبلغ من قول الرسول الكريم لأسامة بن زيد بعد أن قتل يهوديا كان مطاردا من جيش المسلمين في الغزوات فنطق اليهودي الشهادتين وقتله أسامة ظنا منه أنه قالها خوفا من القتل فقال الرسول قوله الخالد: «هلا شققت عن قلبه».
الناقد «محمد عبد الباسط عيد»
لكن من الصعب هنا الحديث عن امتثال كثير من التابعين لهذا التحذير النبوى، فمع أول خلاف سياسي عقب وفاة الرسول ستنشأ النواة الأولى للمعارضة الدينية التي ترى أحقية عليّ بالخلافة، ومع الوقت ستنمو هذه المعارضة، لتغدو بناء عقديا كاملا، هي المعارضة الشيعية، وسيكون سلاح التكفير سلاحًا بارزًا في تصورها للخصوم، ومع استبداد الأمويين والعباسيين من بعدهم ستنشأ الفرق السنية المقاتلة، التي ستقاتل انطلاقًا من تقسيم الناس إلى كفار ومؤمنين.
ويضيف «عيد»: لقد استمر هذا الصراع قرونا عديدة، ونشأ عنه تراث فقهي راسخ، يمكن للمسلم (الفرد أو الجماعة) أن يستدعيه وقت الخلاف الاجتماعي والسياسي.
ويرى عيد أن هذا التراث لا يحتاج إلى فحص ومراجعة فحسب، «وإنما يحتاج في الأساس إلى قراءة تُفكّك مساراته، وتبين الطريقة التي وُّظف بها النص الكريم في الصراع حول السلطة، وكيف تقوضت المعاني الأخلاقية لحساب صراعات شخصية وقبلية. فإنجاز هذه القراءة لا يعمل على تجفيف هذا المنبع الإقصائي فحسب، وإنما سيطلعنا على طرائق تأويل العقل العربي للقرآن في حقب متفاوتة في الوقت نفسه».
فتاوى الموت
أما الباحث والشاعر المغربي «عز الدين بوركة» فيتوقف عند المفارقة اللافتة في الفرق بين التفكير والتكفير نطقا، وهو الفرق بين ترتيب الكاف والفاء، «و يا لها من مفارقة أن يكون ترتيب أحرف في كلمة يغير المعنى كليا، بل يضعنا إزاء معان متفاوتة ومتقابلة ومتضادة،. فالتكفير لا يشترط عملية التفكير، لأنه يأتي من اليقينيات والمسلمات الغيبية التي لا برهان منطقيا لها ولا علميا، بينما التفكير هو عملية تستدعي المَنْطَقة وتستدعي الشك، وهذا الأخير الذي هو نقيض اليقين والمسلمات».
الشاعر المغربي «عز الدين بوركة»
ويضيف عز الدين بوركة أن التكفير في بلادنا العربية احتل أهمية كبرى عند الحركات الدينية الرجعية التي كان التكفير سلاحها في وجه كل عقل تنويرى يفكر، سلاح فتاك يتغذى على الفتاوى التي تجد لنفسها مصادر عَفا عليها الزمن، لكن ومع مطلع القرن الماضي استطاعت حركات متطرفة أن تعيد إحياء هذه الفتاوى والدعاوى حتى تؤصل لـ أفكار الراديكالية”.
يؤكد «بوركة» إن هذه الظاهرة تجد لها جذورا قديمة جدا، إذ إن مفكرين عربا كان لهم الفضل في تقدم هذه الأمة وإغناء معارفها، تعرضوا لفتاوى التكفير ودعاوى القتل، أمثال ابن المقفع الذي اتهم بالزندقة وقتل بعدها على يد سفيان بن معاوية، وأبو بكر الرازي و يعقوب بن اسحاق (الكندي) وابن سينا والحلاج الذي قٌطّعت أطرافه على خلاف وعُلّق لثلاثة أيام، وابن رشد الفيلسوف الذي حُرقت كُتبه في مراكش (المغرب) أمام أعينه وعُذب عذابا شديدا.
ويلفت «بوركة» إلى أن من بين المفكرين التنويريين المغاربة المعاصرين الذين تعرضوا لفتاوي التكفير وهدر الدم فى عصرنا الراهن الناشط الحقوقي «أحمد عصيد» الذي تعرض لحملة تكفيرية على خلفية انتقاده لعبارة دينية واردة في المقررات الدراسية. عبارة تندد بتدريس الفلسفة وتعتبرها كفرا.
الناشط الحقوقي «أحمد عصيد»
تكفير متبادل
يقول الكاتب والروائي السوري «هوشنك أوسي»: إن ظاهرة التكفير لم تطل فقط الخارجين عن دين سماوي والداخلين في دين سماوي آخر، رغم الإله الواحد المشترك بين الدينين ،بل طالت كل مجتهد ضمن الدين الواحد، أو الطائفة الواحدة، إذا كان هذا المجتهد يحمل مشروعاً تنويريّاً أو أفكاراً تنويريّة، تفضي إلى تعزيز العقل وتثبيته.
الكاتب والروائي السوري «هوشنك أوسي»
ويضيف «أوسي»: «كل محاولات التنوير في التاريخ الإسلامي (المُحّكمة، المعتزلة، المتصوّفة…) فشلت في معالجة ظاهرة التكفير، بل وأصبحت هذه المحاولات نفسها ضحايا للتكفير، فالتكفير موجود، حتّى ضمن المؤسسات والتيّارات الدينيّة التي تزعم الوسطيّة والاعتدال والتسامح».
ويؤكد «أوسي» الحدّ من ظاهرة التكفير يتطلب اتباع ما اتبعه الغرب، عبر فصل الدين عن الدولة، فالنظام العلماني الديمقراطي المتسامح مع الأديان، والمنفتح على حريّة العقيدة والدين، والرافض لإقحام النصّ الديني في الدساتير والقوانين المعنيّة بإدارة شؤون الدولة والمجتمع ومصالح الأفراد والجماعات، هو الحل.
ومضات و انتكاسات
يلفت الناقد والأكاديمي «حسام عقل» إلى ان تاريخ المبدعين العرب في العصر الحديث، مع قضية «التكفير»، تاريخ متجذر، شهد محطات بارزة، أثارت الرأي العام، وصدَّرت للمشهد الفكري كثيرا من الإشكاليات و الأزمات، فكان هنالك من أصر على ترسيخ فكرة التقاطع بين «الحظر» الديني، من جهة، وخطاب الآداب والفنون من جهة اخرى. و لابد هنا أن نذكر أن الحضارة الإسلامية، في ذروة مدها و مجدها الحضاري، سمحت لأبي نواس بأن ينظم خمرياته، و رخصّت لأبي العلاء في أن يبث تأملاته الميتافيزيقية المتشائمة، بل سمحت لـ «ابن الراوندي» بأن يطرح فكرا إلحاديا عبر عشرة كتب، فندها المعتزلة وغيرهم و ردوا عليها بقوة و عقلانية.
الناقد «حسام عقل»
ويستطرد «عقل»: على الرغم من هذا كله فإن شريحة من المنتسبين للفكر الديني ممن لم يتثبتوا بعلم صحيح، قد تربصوا ببعض المبدعين في العصر الحديث، عن غير فهم لوظيفة الفن و آلياته في التعبير، فحكموا على بعض النصوص «حكما شرعيا متعجلا»، عن غير وعي بهذه النصوص، وآلياتها الفنية الخاصة في التعبير، فنجم عن هذا الحكم المتعجل، صدام قوي تطاير شرره، فاستنفر الرأي العام، ووصل أحيانا إلى أروقة القضاء.
(يتبع )