سيظل يوم الجمعة الخامس عشر من شهر مارس من عامنا هذا 2019 يومًا فارقًا في تاريخ الإرهاب العالمي، ففي ظهيرة ذلك اليوم قام مجرم ينتمي لدولة استراليا بمهاجمة مسجدين من مساجد دولة نيوزيلندا، فقتل وأصاب العشرات من المصلين، بينهم أطفال ونساء. هذا المجرم لم يترك الناس فريسة للحيرة والتخمين، لأنه قبيل الإقدام على ارتكاب جريمته كان قد كتب بيانًا من اثنتين وسبعين صفحة، يشرح فيه أفكاره العنصرية المجرمة التي تلزمه بقتل المسلمين الغرباء الذين يغزون أرض أوربا.
ولم يكتف المجرم بهذا البيان، فقد كتب على سلاح الجريمة الآلي تواريخ ومناسبات معارك قديمة جدًا جرت بين المسلمين ومناطق من أوربا. أما خطوته الثالثة في كشف أي غموض قد يحاول البعض إلقاءه على جريمته، فكانت بثه على الهواء مباشرة لوقائع جريمته، عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك».
عبارات كتبت على السلاح المستخدم في مذبحة نيوزيلندا
إذن لا حيرة ولا تخمين ولا غموض بشأن مرتكب هذه المذبحة، فنحن أمام مجرم عنصري، لديه بنك معلومات، ولديه خطط تنفيذ، ولديه يقين ثابت راسخ يفرض عليه التخلص من أكبر عدد ممكن من المسلمين.
الموقف من تلك الجريمة غير المسبوقة على مستوى التنفيذ أو عدد الضحايا، كان فارقًا أيضًا، فقد كشفت المعالجة الابتدائية للجريمة عن وجود قسمين من بني الإنسان: القسم الأول تمثل في الإدانة العالمية السريعة والقوية والمباشرة للجريمة، وقد ذهبت نيوزيلندا وهى الدولة الصغيرة لما هو أبعد من حدود الإدانة، فقد رأينا رئيسة وزراء هذا البلد البعيد الواقع جنوب غرب المحيط الهادئ، وهى تضع على رأسها حجاب المسلمات، وتزور بيوت الضحايا مقدمة التعازي لعائلاتهم، ثم أخبرتنا وكالات الأنباء بما نصه: بدأ البرلمان النيوزيلندي، يوم الثلاثاء التاسع عشر من مارس، جلساته بتلاوة آيات من القرآن الكريم، وذلك تكريماً لضحايا الحادث الإرهابي الذي استهدف المصلين في نيوزيلندا. ووقف جميع أعضاء البرلمان أثناء قراءة القرآن داخل القاعة.
وتلا الإمام طاهر الحق الآيات التي تقول: «وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ». وقام بعدها الإمام بترجمة الآيات إلى اللغة الإنجليزية لكي يفهمهما الحاضرون، وختم قراءته بالدعاء للضحايا بالرحمة والمغفرة، وإلى عائلاتهم بالصبر والسلوان، وكذلك المصابين بالشفاء العاجل، وأن يعم السلام نيوزيلندا والعالم، وسط هدوء والتزام الحاضرين بالقاعة الذين رددوا خلفه «آمين».
هذا كان مسلك القسم الأول، وليس لأحد أن يحلم (الآن) بأكثر من المواساة التي قدمها هذا القسم.
أما القسم الثاني والأخير، فصدق أو لا تصدق، فهو قسم عربي مسلم. بدأ تعاطي هذا القسم مع المذبحة فور وقوعها صانعًا مظلة عملاقة من الأكاذيب التي تبدو من فرط أحكامها وإتقانها حقائق لا تقبل الشك. راح أنصار هذا الفريق يقصفون رئيسة الوزراء النيوزيلندية ويتهمونها بنفاق المسلمين، لأنها غطت شعرها كما تفعل المسلمات. وقد وصل هذا القصف إلى مسامع الحكومة النيوزيلندية، لأن أحد مسئولي الخارجية النيوزيلندية قال: ليس في مسلك رئيسة الوزراء أي نفاق، لأنها كانت ذاهبة للعزاء ولم تكن ذاهبة إلى حفل رقص.
وبعد أن قصفوا رئيسة الوزراء، هاجموا البرلمان النيوزيلندي الذي سمح بتلاوة القرآن في قاعته الرئيسية، بل وقصفوا الشيخ الذي تلا الآيات الكريمة بزعم أنه من الخلايا الإرهابية النائمة التي «يتمسكن أفرادها حتى يتمكنوا». ثم بعد ذلك طوروا الهجوم لاكتساح العدو، وما عدوهم إلا الضحايا. فراحوا ينشرون وبكثافة مروعة البيان الصادر قبل عام عن مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2018. والمعروف أن تقارير المؤشر يقوم بإعدادها معهد الاقتصاد والسلام الدولى الذي يقع مقره الرئيسى بمدينة سيدنى الاسترالية، وله فروع في كل من نيويورك ومكسيكو سيتى ولاهاى.
فقد وجد أنصار القسم الذي نتحدث عنه بغيتهم في تقارير المؤشر التي رصدت مقتل ما يقرب من ١٩ ألف إنسان على يد جماعات مسلمة. كما رصد المؤشر أن نصف الضحايا قد لقوا مصرعهم على أيدي أربع منظمات رئيسية وهى داعش وطالبان والشباب الصومالية وبوكو حرام. وأشار إلى أن النصف الثاني من الضحايا قتل على أيدي جماعات أصغر حجما وأضعف تنظيما، وأغلبها جماعات مبايعة لداعش أو لطالبان مثل جيش الإسلام في سوريا وأنصار بيت المقدس في مصر.
فما الرسالة التي يريدون بثها في عقول وقلوب الناس؟.. إحداهن كانت صريحة وقالت تعقيبًا على مذبحة المسجدين: «هذه بضاعتنا قد ردت إلينا».. هذه هي إذن الرسالة، أن القتل صناعة المسلمين، والإرهاب بضاعتهم وليس من حقهم البكاء على أشلاء أولادهم، وليس من حقهم مناشدة العالم بأن يتعاطف معهم، بل ليس من حق العالم التعاطف مع المسلمين الذين يحترفون القتل ويجعلونه دينًا يتعبدون به.
سألت أحدهم عندما رأيت كثرة مرات نشره للتقرير على حسابه بموقع فيس بوك: هل هذا التقرير منزّل من السماء ولا يخضع لأي اعتبارات سياسية وثقافية؟..
قال: لماذا تشك في تقرير دولي؟
قلت: بل لماذا لا أشك، وأنا أرى المؤسسات الدولية تفعل بالمستضعفين ما تفعل. قال: لا تنكر أن المسلمين يقتلون.
قلت: يقتل المسلمون كما يقتل غيرهم، وهذا ليس تبريرًا لأي تصرفات إرهابية، ولكن هذا هو الواقع، ثم أن «داعش» التي تحاولون أنتم أسلمتها لا تقتل إلا المسلمين، ونادرًا ما قتلت غيرهم، ثم أين المذابح التي ترتكبها إسرائيل بحق أهل فلسطين؟
قال: التقرير لا يتحدث عن الدول، إنه مقصور على المنظمات فقط.
قلت: هل ما تفعله إسرائيل إرهاب أم لا؟
قال: لا يمكن علميًا أن تسميه بالإرهاب، تسميته العلمية هي «عنف دولة».
قلت: يعني القتل يصبح مجرد عنف لو قامت به دولة، أليست هذه هي القسمة الضيزى؟.
قال: أتحدث عن تسميات علمية.
قلت: مَنْ الذي أخترع لنا «داعش» وغيرها، مَنْ الذي دربهم وأمدهم بالسلاح ونشر عليهم حمايته، حتى تمركزوا وقويت شوكتهم في أكثر من بلد عربي مسلم؟
قال منهيًا النقاش: أنت تجادل بالباطل لكي تحمي ظهر قومك.
فسكتُ لإيماني بأن الله يسمع ويرى ويعلم مَنْ منا الذي يجادل بالباطل لكي يحمي ظهر قومه.