مختارات

انتكاسة يونيو وانشطار المرجعية الفكرية للثقافية العربية

ربما يختلف الكثيرون حول لحظة انكسار النزعة التوفيقية، وإن كان التأريخ لها بهزيمة حزيران (يونيو) 1967 واحتلال إسرائيل للقدس الشرقية مع الضفة وغزة وسيناء والجولان، يبدو الأكثر موضوعية استناداً إلى عدة دوافع:

أولاً: لأن تلك الهزيمة هي التي حفزت موجة المراجعات الكبرى في الثقافة العربية، والتي سعت عبر العديد من المجالات المعرفية التي تمتد ما بين الأدب والفلسفة، مروراً بالعلم الاجتماعي والسياسي والنظرية الثقافية، إلى نقد الذات ومحاولة تقديم تفسيرات لما جرى حتى لا يتكرر. فقد استفزت الهزيمة لتوها عدة مشروعات لمفكرين كبار عمدوا إلى وضع الثقافة العربية موضع تشريح ونقد، ففضلاً عن زكي نجيب صاحب المانيفستو التوفيقي «تجديد الفكر العربي» عام 1970 وما تلاه، هناك مشروع الدكتور عبدالله العروي الذي انطلق باكراً ممحصاً (الأيديولوجيا العربية المعاصرة) عام 1967، ولا يزال مستمراً في تحليل المفاهيم المؤسسة للاجتماع السياسي العربي. ومشروع د. محمد عابد الجابري لـ«نقد العقل العربي» والممتد منذ 1984 كتب في عام 1984 كتابه التأسيسي «تكوين العقل العربي» قبل أن يبلغ ذروته في تحليل «بنية العقل العربي» عام 1986، مروراً بـ«العقل السياسي العربي» في 1991، وصولاً إلى (العقل الأخلاقي العربي) 2004. ومشروع الدكتور حسن حنفي «من التراث إلى الحداثة» في الوقت نفسه تقريباً. فضلاً عن بعض الأعمال المتناثرة لدى آخرين مثل الأستاذ السيد يسين في كتبه (الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر، والوعي القومي المحاصر). وكذلك الدكتور محمد جابر الأنصاري في أعماله (الفكر العربي وصراع الأضداد، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية، العرب والسياسة .. أين الخلل، التأزم السياسي العربي وسوسيولوجيا الإسلام»، التي تمثل في مجملها تنويعه تأملات سوسيولوجية للواقع العربي. ناهيك عن تأملات عرب المهجر وعلى رأسهم برهان غليون خصوصاً في (اغتيال العقل و الدولة ضد الأمة ونقد السياسة.. الدين والدولة)، ومحمد أركون في (تاريخية الفكر الاسلامي، والفكر الإسلامي، والأنسنة في الفكر الإسلامي، والفكر الأصولي واستحالة التأصيل).. الخ.

كما أنها هي التي ولدت ميلاً محافظاً عند كثير من المثقفين القوميين ذوى الميول اليسارية الذين صاغوا توجهاتهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في ذروة بروز الاتحاد السوفياتى كقوة عظمى من داخل فضاء الحداثة الغربية نفسه، ولكن من خارج إطار هيمنة المراكز الرأسمالية، على نحو ألهم العديدين من مثقفي العالم وأجياله الشابة لأربعة عقود على الأقل، بإمكانية نشوء عالم حديث خارج إطار المركزية الغربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجاب باللينينية والماركسية والاشتراكية الإنسانية، حيث كان النموذج من بعيد ومن خارج، يبدو جذاباً وجاذباً، ولم يكن في ذلك أي غرابة. لكن ومع الهزيمة، تحت ضغوطها النفسية، وتفسير البعض لها بالبعد عن الإسلام، لم يكن غريباً أن تشهد الثقافة العربية ميولاً رجعية، وأن يتوجه كثير من المثقفين العرب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن الأيديولوجية القومية إلى الإسلام السياسي بشتى فصائله، ومن التماهي مع الغرب والدراسة فيه أحياناً كثيرة إلى كراهيته والدعوة إلى مقاطعته أحياناً أخرى. والبادي أنهم قد وجدوا في الإسلام السياسي طوق نجاة يمدهم بـ«العقيدة الفكرية» التي يقتاتون عليها، كونهم اعتادوا الأنساق الفكرية الشمولية إن لم يكن المغلقة، وقد وجدوها لدى تيارات الإسلام السياسي التي تحوز نفس العقلية «الاعتقادية» التي كانت للشيوعية، وإن كانت تنظر في اتجاه مضاد، ذلك أن بنية العقلية الشمولية واحدة (جوهرياً) وإن اختلفت أشكالها (ظاهرياً).

وثانياً: لأن تلك الهزيمة هي التي أفضت إلى انحسار الموجة القومية، وعطلت نهائياً المسار التوحيدى الذي كان ينمو في الجغرافيا العربية على أكثر من صعيد. ورغم ما يذهب إليه الدكتور برهان غليون من «أن أزمة القومية العربية لا تكمن في نكسة عام 1967، بل قبل ذلك في انهيار الوحدة السورية- المصرية، وتفاقم النزاع بين أطراف الحركة القومية العربية بمكوناتها المختلفة، القطرية والسياسية، وفي مقدمة ذلك الصراع بين الجمهورية العربية المتحدة والسلطة الثورية الجديدة في العراق (تموز/ يوليو 1958)، ثم التعثر في حسم الحرب الأهلية في اليمن وتحولها إلى حرب عربية- عربية، حيث أصبح من الواضح أن ما تراهن عليه الحركة الوطنية العربية، ويمثل محركها الأكبر، أي مبدأ تحقيق الوحدة، قد وصل إلى مأزق تاريخي واضح، وأن فكرة الوحدة قد أصبحت شعاراً يستخدم لتغطية عملية ترسيخ الدول والأنظمة القطرية» (1). فإننا نؤكد على أن هزيمة 1967 كانت بمثابة النقطة الفاصلة على هذا الصعيد، لأسباب متشابكة سياسية وعسكرية، خصوصاً نفسية، إذ جعلت من القضية الفلسطينية حائط مبكى لعالم عربي فقد بين يوم وليلة جزءاً كبيراً من أرضه التي تنتمى إلى أربع دول مشرقية بعد هزيمة عسكرية ساحقة. ربما كان في فشل الوحدة، ثم في حرب اليمن، إمارات قلق وعلامات تآكل في قلب الفكرة القومية، وربما أفضت الخيرة إلى الهزيمة أو أسهمت فيها بنصيب قل أو كثر، ولكن الهزيمة العسكرية أمام العدو القومى كانت ضربة قاصمة لعصر ورجال وأحلام وكبرياء أمة كاملة، أثارت الشكوك حول مدى كفاية فكرتها المركزية في الدفاع عنها، وطرحت أسئلة مريرة حول ماهية البديل الذي يستطيع حمايتها، حيث كان التيار الإسلامي جاهزاً ينتظر لحظة الوراثة.

وثالثاً: لأن تلك الهزيمة حفزت واحدة من أعمق موجات التأسلم في المجتمعات العربية إلى درجة مكنتها من أن تلوي عنق الثقافة العربية نحو الإسلام السياسي. فقبل عام 1967 لم تكن هناك منظمة إسلامية في فلسطين، وكانت منظمة التحرير بقيادة عرفات منظمة قومية وعلمانية لا تهدف إلا لتحرير أراضيها المغتصبة، ولم يكن هناك نظام واحد في المنطقة العربية يحكم صراحة باسم الإسلام السياسي بل كانت المنطقة تعيش عصر التحرر القومي وتبحث لنفسها عن مكان ومكانة بين الأمم قبل أن يجهض مسعاها التوسع الصهيوني، ثم التحيز الأميركي. أما بعده فقد اندفعت المجتمعات العربية إلى موجة عارمة من الغضب، تمت معها قراءة الهزيمة على عجل باعتبارها نتاجاً لضعف همة وشجاعة السلطات العربية آنذاك، ومن ثم فالحل كان بسيطاً ولا يتطلب بالضرورة عمليات معقدة من التحديث كانت مطلوبة لقلب هذه المجتمعات، وعند قاعدتها على منوال التطوير العلمي، والتحرر الثقافي، والتفتح السياسي، وواقعية الرؤية التاريخية، بل كان يكفي لتحقيقه مجرد الانقلاب على السلطة القائمة ومرجعيتها الفكرية المأزومة واستبدالها بمرجعية أخرى صلبة تثير الهمة لدى النخبة الحاكمة الجديدة لمواجهة العدو بشجاعة أكبر وحماسة أعلى.

وهكذا تم تشطير المرجعية الثقافية للكتلة العربية إلى كتلتين شبه متعادلتين رمزياً وعملياً إحداها حداثية وإن ظلت فوقية تضم التيار القومي المأزوم، واليساري المتداعي، والليبرالي النحيل. والأخرى تقليدية تجسدها التيارات الإسلامية في شتى نزعاتها المعتدلة والمتطرفة، وصولاً إلى تلك التيارات العدمية «الإرهابية» التي تلتحف بمعطفها أو تحاول ذلك، وقد نشأت بين الكتلتين حالة فيزيائية نادر حدوثها في المجتمعات الإنسانية بكل حيويتها الدافقة، تقوم على التماثل في القوة، والتضاد في الاتجاه ما أعاق عملية تكوين «كتلة تاريخية» متجانسة على نحو صار معه المجتمع العربي المعاصر، على تباينات محلية فيه، فاقداً ما يمكن تسميته بـ«حس الاتجاه» أمام عمق الانقسام وجذريته، الأمر الذي كشف عن أزمة ثقافية كبرى وانسداد تاريخي عميق.

وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أن الصراع الذي دار في أغلب عقود القرن العشرين داخل الفكر العربي بين التيارات الثلاثة الأساسية (السلفي، والعلموي، والتوفيقي)، حيث كان التيار التوفيقي يحتل الموقع الوسطى بين التيار العلموي من جانب، والسلفي من جانب آخر، يشهد الآن، في أعقاب الربيع العربي، ردة ثقافية وارتجاعاً فكرياً نحو اتجاهات ثلاثة أساسية:

في الاتجاه الأول جرى نفي التيار العلموي الذي كان يرى في الغرب نموذجاً مثالياً تاماً يسعى إلى التماهي معه. صحيح أن نفراً محدوداً لا يزال يعتقد في تلك الرؤية، ولكن الصحيح كذلك أن أولئك صاروا قلة قليلة بما لا يشكل تياراً، كما أنهم أقرب إلى حركيين مرتبطين بفضاءات فكرية، ومراكز بحثية غربية تجذبهم فلا ينغرسون عميقاً في الثقافة القومية ولا يجسدون حقيقتها. وفضلاً عن ذلك، وربما كان الأهم، أنهم لا يملكون نظرية ثقافية واضحة أو صياغة فكرية متكاملة كما كان الأمر لدى التيار العلموي أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه.

وفي الاتجاه الثاني يجرى تبلور لتيار أساسي جديد (جهادي) يقع على يمين التيار السلفي، ويمتلك أجندة سياسية يمارس العنف لأجل تحقيقها في الداخل أو في الخارج، ولعل تنظيم القاعدة يعد التجسيد الأبرز لهذا النمط الجهادي أو العدمي الذي هو أعنف صور النزعة السلفية.

وفي الاتجاه الثالث تجرى عملية تمركز للتيار السلفي بكل تعبيراته الفكرية، وتجسداته الدعوية والتعليمية والتثقيفية بل والسياسية في قلب الثقافة العربية ليصبح هو الأقرب إلى موقع الوسط الفكري، الأكثر تعبيراً عن الاتجاه العام للمجتمعات العربية. وهو بذلك يزيح التيار التوفيقي عن موقعه الذي كان قد احتله لنصف قرن على الأقل. وفي هذا الإطار نجد أنفسنا أمام صيغة ثلاثية للجدل الفكري العربي بديلة للصيغة الموروثة من القرن العشرين، فبدلاً من ثلاثية الحداثي- التوفيقي- السلفي، نجدنا أمام ثلاثية التوفيقي- السلفي- الانقلابي. فيما يعني أن الصيغة المقترحة لإقامة عقلانية عربية إسلامية، تلك المضمنة في التيار التوفيقي الذي أسهمت في صكه ونحته وتأصيله جهود النخبة الفكرية، وخطابات النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، لم تعد في قلب الفكر العربي المعاصر بل على هامشه، وهو ما يعني ردة ثقافية عن مشروع التحديث العربي المأزوم أصلاً بسلطويته.

نقلا عن: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock