ثقافة

ينحت مثلما يرسم.. التشكيلى صلاح عنانى: الحارة المصرية مادة إلهام تمنحنى مغامرة الحياة مع الناس

«إن الفن لعبة ولكنه لعبة جادة ولكي نصبح أكثر جدية علينا القيام بكثير من اللعب، وهو مافعلته بمعرضي» إلعب يلا «فى محاولة مني لإحياء عالمي الفني المصري الممثّل في أبطاله الشعبيين» هكذا يرى الفنان التشكيلى المعروف صلاح عناني معرضه الفني الجديد، الذى تغلب على أعماله العلاقة الوطيدة بين الفن التشكيلي والنحت وسائر الفنون الأخرى، من موسيقي وشعر وقصة ورواية.. يظهر هذا الارتباط واضحا  جليا في عالم عناني التشكيلى، ومرد ذلك يعود إلى تاريخ قديم بدأه هذا الفنان المبدع بالاشتباك مع راهن المشهد الإبداعي في العالم العربي.

عناني وليد مرحلة الستينيات، يمكن أن تقول عنه إنه السائر اليقظ في حواري نجيب محفوظ، العاشق لرباعيات صلاح جاهين، القريب من عالم يوسف إدريس، والعارف بأمل دنقل.. يرسم كأنه ينحت، الغاوي اللعب مع الألوان والاشتباك مع الكتلة الصلبة ليحررها من فراغها.

بعد انقطاع ما يزيد عن العقد ونصف العقد من العرض في صالات العرض في مصر والعالم، يخرج عناني بمعرضه تحت عنوان «العب يلا» ليصنع تماثيل الدهشة ويقبض علي اللحظة الراهنة.. عناني لا يمكن أن تصفه إلا بالثائر على النمطية وعلى كل ماهو معتاد، فهو المنفلت والمتمرد علي كل قديم رغبة في التغيير. في هذا الحوار يفتح لنا عناني قلبه المنغمس بالألوان.

عن انقطاعه الطويل عن اقامة معارض له في صالات العرض الفنية في مصر وأسباب ذلك يقول صلاح عناني:

«في حياتي.. لم يكن هناك أي انقطاع عن ممارسة الإبداع، لكن ثمة قرارا قديما بالعزوف عن العرض حتى أُنجز ما أتمنى وما أريد من خلال الفن..»

ويضيف: «كان علي استثمار الوقت خلال كل هذه الفترة، لجأت إلى النحت كواحد من أهم أدواتي التي كان يجب عليَّ أن أقدمها بصورة مختلفة. للفن التشكيلي أدواته؛ وأهم تلك الأدوات التعبير، حيث كان علي أن أختلف عن كل ما هو سائد لكي أخلق عالمًا موازيًا».

«أنحت مثلما أرسم»

وفيما يخص تجربته الجديدة في النحت والتي يقدم فيها تمثالا لمطرب ما يوضح صلاح عناني أنه يقدم معالجة  مختلفة للأفكار، «فهناك خلقٌ وتصورٌ جديد للإبداع، ليس فقط مجرد تحرير.. في الكتل الصلبة من الفراغ ،ولكن ثمة روح تشغلها، هذا ما أحاول دوما إضافته، فتتحول الفكرة التي تشغل ذهني إلى لوحة مرسومة أو منحوتة، أحرص أن أنفخ فيها من روحي.. وأن تكون الحالة التعبيرية هي الأساس والمنطلق الذي أبدأ منه وأن أصل بالفن إلى الحالة القصوى من التعبير.. ولديَّ منحوتتان جديدتان هما العاشق والمطرب، لم أنشغل بأن أنحت وجهًا لاسم بارز، بل جعلت الوجه حالة تعبيرية عامة تشغل الناس بحال العاشق وحال المطرب».

ويلفت عناني الانتباه إلى أن داخل كل عمل مراحل طويلة تنتهي بوضع البصمة الأخيرة، وهنا يقفز عناني على منطق التشريح؛ حيث ثمة مدرسة جديدة يدشنها قائمة على الاختلاف، على كسر حاجز المنطق في اللون والشكل، من خلال أدوات للغة التعبير لا يقف عندها بل يضيف عليها رؤية مغايرة، وعلى مدار ما يزيد على العقد والنصف، اختار أن يبتعد عن عرض أعماله ليفاجئ نفسه والجميع بالنحات القديم الجديد، الذي لا تعرفه من قبل المدرسة التعبيرية في الفن.. إنها ثورة يشعلها في مجسماته تنطق بالدهشة والغرائبية.

مهمة الفنان

يرى عناني أن مهمة الفنان هى إثارة الدهشة والتي بدورها تثير في المتلقي تأويلات وتساؤلات عن الحياة.. فى وسط هذا الزحام ينشغل الفنان بتفكيك وبناء الوجود بالدهشة، ليخلق للوجود معنى، فإعادة صياغة بنية العقل بشكل جديد هي في حد ذاتها قفزة به، وهناك مسافة يقطعها الفنان لصناعة هذه القفزة التي تضع المتلقّى في إطار حيّز استعادة ذاكرة بصرية من الوجود وربطها بما هو مطروح من فن.. الفنان يطرح تصوره للعالم وعلى المتلقي هنا الاشتباك مع هذا التصور، وإن لم ينجح الفنان في صناعة هذا الاشتباك مع المتلقّي لا يمكنه أبدا خلق حالة الدهشة..

ويشير عناني إلى أن الفن ليست مهمته أبدا أن يريحك، لأنه في حد ذاته ابن شرعي لدهشة الفنان ووليد تساؤلاته واشتباكاته مع العالم ومحيطه، إنها مغامرة بصرية في الشكل وتطوير أدوات التعبير، وعلى الفنان أن يقدم جديدا من  هذه الأدوات لتصنع دهشة المتلقّى وتستقطبه للاشتباك مع اللوحة التي من خلالها ينطلق إلى العالم، فالفن ليس مجرد تكثيف للقيم من جمال وخير وحق  ولكن دوره أكبر في تعميق التواصل مع هذه القيم.

كائن استثنائي

وحين سألته إن كان مع مقولة إن «الفنان كائن استثنائي بطبعه»، قال صلاح عناني:

«كل فناني العالم الذين أدهشونا كانوا استثنائيين بعمق تجاربهم وقدراتهم على التعبير عنها.. باختصار شديد؛ لا يمكن تقييم لعبة الفن، إن لم يفعل الفنان الجريمة الكبرى، بتوريط ذاته في استحضار الحدود القصوى للتعبير، وبضرب بعين المتفرج عرض الحائط..»

ويشير عناني إلى أن بيكاسو كان  يقول في توصيفه للحظة إقدامه على الرسم «إنه أشبه برجل يقفز من فوق بناية عالية لا يعرف كيف سيكون سقوطه لكنه في النهاية سيسقط».. الإبداع إذا لم يكن له معنى وظيفي وأداة تضيف للناس فهو ليس له أي أهمية، وعلى الفنان أن يسعى في هذا، ما تزال مشكلة البشرية تكمن في تنمية الوجدان، والدور الأصيل للفن هو تنمية هذا الوجدان، إذا لم يحدث هذا سنصاب بالركود.

ويشرح عناني وجهة نظرة  في هذا الصدد فيقول إن ثمة نقلات تاريخية، فلا يمكن لي أن أعبر مثل إدجار أو فان جوخ أو بيكاسو، لا يمكن أن أحيا معاناتهم، أنا أعيش أزمتى الإنسانية على طريقتي، وإعطاء أبعاد جديدة للتعبير غير موجودة هو بمثابة تحرير للفنانين من فكرة الثبات والتنميط.

الحارة المصرية

الحارة المصرية هي بمثابة الشجرة الكبرى التي زرعها عناني في حدائق الفن.. فلماذا الحارة ؟ويجيب قائلا:

«الحارة المصرية مادة خصبة للإلهام الفني، الاشتباك مع أجواء الصعلكة، الانغماس في تفاصيل الحياة اليومية..» ثمة مغامرة كبرى أعيشها وأشارك  فيها مع الناس، لست منشغلا أن أضع نفسي في مقارنات مع أبناء جيلي أو آخرين، انشغالي يكمن في التغيير، في صناعة قفزة حقيقية، وهذا لا يأتي من فراغ، يأتي من قراءة واعية وعميقة لتاريخ الفن، الرغبة في أن تصنع فارقا في تشكيل وجدان الناس.. فارق لا يأتي إلا بالاقتراب منهم، نموذج رينوار، بيكاسو، وأنجلو هي نماذج منشغلة بالتغيير  لا بالتجديد، وأنا واحد من تلك العائلة التي يشغلها التغيير، رفضي لاستئناس أعمالي وإعادة رسمها هو رغبة حقيقية في رفض الثبات والتنميط والقولبة.

العاشق

ما بين الحلم والواقع «الحالة الحلمية كتلة الدخان المنطلقة المشكّلة لجسد الأنثى.. اللون الأحمر القاني الذي يشغل خلفية اللوحة، والأخضر الذي يشغل جسد العاشق، يخلق حججا وتبريرات وبدائل تقفز على المنطق لصناعة الدهشة..» يقول عناني: «ما شغلني تحديات اللون ، وتكريس اللون لحالة بعينها كان مهمة وظيفية اشتغلت عليها في لوحة العاشق، لتخرج من اللوحة بانطباعات مغايرة ومختلفة».

 وعن  أسباب  النقد التشكيلي وهل يرجع إلى غياب الثقافة البصرية لدى الشعوب العربية، يرى صلاح عناني أن  حالة الركود والغياب الراهنة هى بمثابة اتجاه عام بمختلف الفنون، غياب نقدي، ومن قبله غياب إبداعي، هذه حالة عامة «وهذا في رأيي نتاج لحظات فاسدة ومهزومة وعارضة في تاريخ الأمة المصرية».. يصمت عناني متفكرا.. ثم يقول: «ما زلت أعيش المغامرة وسأظل ما دمت حيًّا أعمل على استعادة الروح القديمة للأمة المصرية».

 

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker