رؤى

20 عاما على قصف يوغوسلافيا (1 – 2): كيف نجحت أمريكا فى «تفكيك الدولة اليوغسلافية»؟

*مايكل تشوسودوفسكي- أستاذ الاقتصاد في جامعة أوتاوا

*ترجمة وعرض أحمد بركات

يعيش العالم في هذه الآونة الذكرى العشرين للحرب التي شنها حلف الناتو على يوغوسلافيا على مدى 78 يوما، وبلغت أوجها في عمليات قصف المدن التاريخية والبنية التحتية تحت لافتة «التدخل الإنساني» لتتحرك آلة الحرب الرأسمالية الغربية بعد ذلك صوب العراق ثم ليبيا عبر خريطة لا يعرف أحد حدودها أو منتهاها. الملفت أنه يتزامن مع هذه الذكرى المؤلمة لقصف يوغسلافيا تشكيل تحالفات جديدة بزعامة واشنطن لضرب فنزويلا لعدم خضوعها لسيطرة الشركات العالمية التي تقودها واشنطن.

  وفي هذا الإطار يخلص البروفيسور مايكل تشوسودوفسكي، أستاذ الاقتصاد في جامعة أوتاوا، في كتابه الذي يحمل عنوانThe Globalization of Poverty and the New World Order (عولمة الفقر والنظام العالمي الجديد) إلى أن «إبادة الاشتراكية هي المنطق الخفي لسلسلة جرائم الحرب التي ترتكب حتى اليوم باسم القانون الدولي من أجل زعزعة الاستقرار المالي والاقتصادي وتدمير اشتراكية السوق في كل قطاعات البنية التحتية الاجتماعية». وفي هذا المقال يقدم موقع «أصوات أونلاين» ترجمة ة لأهم الفقرات التي وردت في هذا الكتاب.

مايكل تشوسودوفسكي

قتل الاشتراكية

«بينما فرضت القوات العسكرية التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة الأمريكية السلام في البوسنة، صورت الصحافة والسياسيون على السواء التدخل الغربي في يوغوسلافيا السابقة على أنه رد فعل نبيل على المذابح الإثنية وانتهاكات حقوق الإنسان التي اجتاحت البلاد. وفي أعقاب «اتفاق دايتون للسلام» في نوفمبر 1995، إبان فترة حكم الرئيس الأسبق «بيل كلينتون» كان الغرب حريصا على تصدير صورته إلى العالم باعتباره ’المخلص‘ للسلاف الجنوبيين، ومواصلة إعادة بناء دول جديدة ذات سيادة».

«بناء على خطة تم وضعها مسبقا، تم الترويج لأزمة البلقان على أنها ناجمة عن توترات إثنية ودينية تضرب بجذورها في عمق التاريخ. وبالطريقة ذاتها، تم استغلال لعبة السلطة في البلقان، وصراعات الرموز السياسية، حيث قام تودجمان وميلوسوفيتش بتمزيق البوسنة الهرسك إلى أشلاء».

«في خضم وابل الصور والتحليلات غير الموضوعية التي كانت تهدف بالأساس إلى خدمة المصالح الذاتية للقوى الغربية، ضاعت الأسباب الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية التي أدت إلى نشوب الصراع؛ حيث تناست هذه التحليلات المغرضة الأزمة الاقتصادية المتجذرة التي سبقت الحرب الأهلية مثلما غضت الطرف عامدة عن المصالح الاستراتيجية لألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية في وضع أساس عملية تفكيك يوغوسلافيا، وعن دور الدائنين الخارجيين والمؤسسات المالية الدولية. ولم تُحمّل وسائل الإعلام العالمية القوى الغربية أي مسئولية عن إفقار وتدمير أمة بأكملها يقطنها 24 مليون نسمة. وبهذه الطريقة، تُركت الدول التي خلفت الاتحاد اليوغوسلافي والتي دمرتها آلة الحرب الغربية تحت رحمة ’المجتمع المالي‘ الدولي».

«بينما صب العالم جام تركيزه في هذه الآونة على تحركات القوات العسكرية، وتابع عن كثب اتفاقات وقف إطلاق النار، كانت المؤسسات المالية الدولية تجمع بحماسة ودأب ديون يوغوسلافيا الخارجية مما تبقى من دولها، وتحول البلقان إلى ملاذ آمن للتجارة الحرة. وبالتزامن مع فرض تسوية سلمية على البوسنة عُقدت تحت فوهات مدافع الناتو، كان الغرب قد كشف في أواخر عام 1995 عن برامج ’إعادة إعمار‘ جرّدت تماما تلك الدولة، – التي رزحت تحت نير مذابح وحشية طوال فترة الحرب- من سيادتها إلى درجة لم تشهدها أوربا منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في نهاية النصف الأول من القرن العشرين».

مشاهد من قصف حلف الناتو ليوغسلافيا

المذبحة

«أسلم الدستور الجديد، الذي تم تضمينه كملحق في «اتفاق دايتون للسلام»، مقاليد السياسة الاقتصادية إلى مؤسسات «بريتون وودز» الأمريكية و«البنك الأوربي لإعادة الإعمار والتنمية» (EBRD) بلندن. كما تم تفويض صندوق النقد الدولي سلطة تعيين أول محافظ لـ «بنك البوسنة المركزي»، الذي -على غرار المندوب السامي-  قرر ألا يكون المحافظ من مواطني البوسنة والهرسك، أو أي دولة مجاورة.. ويجوز ألا يقدم قروضا عن طريق إيجاد أموال، بما يجعله يعمل في هذا الصدد كمجلس عملة‘».

«بينما كان البنك المركزي يعمل تحت وصاية صندوق النقد الدولي، كان «البنك الأوربي لإعادة الإعمار والتنمية» يترأس «اللجنة المعنية بالشركات العامة»، التي تشرف منذ عام 1996 على العمليات التي تقوم بها جميع مؤسسات القطاع العام في البوسنة، بما في ذلك قطاع المياه والطاقة والخدمات البريدية والاتصالات والنقل. وكان منوطا برئيس«البنك الأوربي لإعادة الإعمار والتنمية» تعيين رئيس اللجنة كما كان مسئولا عن إعادة هيكلة القطاع العام، مثل بيع الأصول المملوكة للدولة والمملوكة اجتماعيا، وشراء صناديق استثمار طويلة الأمد. كان الدائنون الغربيون قد أنشأوا «البنك الأوربي لإعادة الإعمار والتنمية» لإعطاء بعد سياسي للإقراض».

«بينما أعلن الغرب دعمه الكامل للعملية الديمقراطية على أرض البوسنة، بقيت القوة السياسية الفعلية في يد ’دولة‘ بوسنية موازية يشغل مناصبها التنفيذية أفراد غير بوسنيين، كما ضمن الدائنون الغرب مصالحهم في دستور كُتب على عجل. ولم يكن الاستعمار الجديد ’النيوكولونيالي‘ للبوسنة سوى إنجاز منطقي للجهود الغربية لإفساد التجربة اليوغوسلافية في ’إشتراكية السوق‘ والإدارة الذاتية للعمال، ولفرض إملاءات ’السوق الحرة‘».

سياسة الاستهداف

«كانت يوغوسلافيا الاشتراكية متعددة الإثنيات، قوة صناعية واقتصادية إقليمية.. ففي خلال عقدين قبل عام 1980، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي 6.1%، وازدهرت الرعاية الصحية المجانية، وارتفعت معدلات التعليم إلى 91%، كما وصلت متوسطات الأعمار إلى 72 عاما. لكن، بعد عقد من ’المساعدات‘ الغربية، وعقد آخر من انفراط العقد الفيدرالي والحرب والمقاطعة والحصار، ضعفت اقتصادات يوغوسلافيا السابقة، وتعرضت القطاعات الصناعية للتفكك».

«بغض النظر عن سياسة عدم الانحياز التي كانت تتبعها بلجراد،وعلاقاتها التجارية القوية مع الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، عمدت إدارة الرئيس الأسبق، رونالد ريجان، إلى استهداف الاقتصاد اليوغوسلافي عبر توجيه سري لوكالة الأمن القومي في عام 1984، حمل عنوان «السياسة الأمريكية تجاه يوغوسلافيا». وفي عام 1990 رُفعت السرية عن نسخة كانت خاضعة للرقابة تتعلق بتوجيه سري لوكالة الأمن القومي صدرت في عام 1982 بحق أوربا الشرقية. وقد دعا هذا التوجيه إلى ’زيادة الجهود وتوسيع نطاقها لدعم ثورات تطيح بالحكومات والأحزاب الشيوعية، وتسعى إلى إعادة دمج دول أوربا الشرقية في منظومة دول الاقتصاد الموجه نحو السوق‘».

«كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد انضمت في وقت سابق إلى مجموعة الدائنين الدوليين في فرض المرحلة الأولى من إصلاح الاقتصادات الكلية في يوغوسلافيا في عام 1980، وذلك قبل موت المارشال جوزيف تيتو بفترة قصيرة. وقد حددت هذه المرحلة الخاصة بإعادة هيكلة الاقتصاد المسار الذي تبنته القوى الغربية بعد ذلك في تقويض الإقتصاد اليوغسلافى اكتسبت التوجهات الانفصالية التي كانت تعتاش على الانقسامات الاجتماعية والعرقية زخما كبيرا؛ حيث تسببت الإصلاحات الاقتصادية في إحداث فوضى سياسية واقتصادية عارمة.. كما أدى تباطؤ النمو وتراكم الدين الخارجي وبخاصة سعر خدمة هذا الدين وانخفاض سعر العملة إلى تراجع مستوى المعيشة إلى درجة كبيرة.. وكادت الأزمة الاقتصادية الطاحنة أن تعصف بالاستقرار السياسي.. كما هددت أيضا بتفاقم التوترات العرقية».

إضعاف المؤسسات

«لعبت هذه الإصلاحات التي تزامنت مع توقيع اتفاقات هيكلة الديون مع الدائنين الرسميين والتجاريين دورا محوريا في إضعاف مؤسسات الدولة الفيدرالية؛ ما أدى إلى خلق انقسامات سياسية بين بلجراد وحكومات الجمهوريات والمقاطعات ذاتية الحكم. وخضعت البلاد لترسانة ريجان الاقتصادية. وعلى مدى ثمانينيات القرن الماضي، فرض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي جرعات زائدة على الدولةالاتحادية بصورة دورية في الوقت الذي دخل فيه الاقتصاد اليوغوسلافي فيما يشبه الغيبوبة».

«منذ البداية، سرّعت البرامج المتلاحقة التي قدمت برعاية صندوق النقد الدولي وتيرة تفكيك القطاع الصناعي في يوغوسلافيا، فهبط إلى مستوى الصفر في عام 1987 – 1988، ثم إلى معدل نمو سالب 10% في عام 1990. صاحب هذا الهبوط السريع تفكك تدريجي لحالة الرفاهية اليوغوسلافية مصحوبا بكل تبعاته الاجتماعية. في هذه الأثناء، زادت اتفاقات إعادة هيكلة الديون من حجم الدين الخارجي، كما أثر التراجع الإجباري لقيمة العملة بقوة على مستوى المعيشة في يوغوسلافيا».

(يتبع)

يمكنك مطالعة نص الكتاب من هنا ?

 

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock