هي في صعيدنا وريفنا المصري، شمس البيت، ومنارته، يلتف حولها الأهل والأقارب والجيران، تتدحرج وتتهلل وتتراقص في الاستعداد للأعياد والمناسبات الكبرى، وجودها دليل دفء وسلام العائلة، فهي جوهرة الأسرة، والمنبع الخالد لقوتها، وأساس ديمقراطيتها، وسر من أسرار البيت، تشارك في التمهيد المبكر للقرارات المصيرية التي تتخذها الأسرة. تبتسم وتسطع عصر يوم الجمعة، وتجلس صابرة في انتظار الغائب والمتأخر، وتصبح معلّمة لأبناء البيت بعد الفراغ من استخدامها في تناول الطعام. هكذا تسكن «الطبلية» قلب البيت المصري، وسط هالة حب عميقة، وتقيم أرجلها وقواعدها فيه، دلالة على الحب والعشرة والأصالة.
والطَّبْلِيَّةُ تنسب إلى الطَّبل، وجمعها طبالي، وتعني أيضًا الخِوَانٌ ( بكسر الخاء وضمها) وهوما يُؤكل عليه، والجمع: أَخوِنَةٌ، وخُونٌ، وأَخاوِينُ، أي ما يُوضع عليه الطَّعام وأدواته، ولا يُسمَّى مائِدةً إلاَّ إذا كان عليه طعام (مؤنثة وتذكَّر)، لذا يقال: نصَب خِوانًا كبيرًا طوال شهر رمضان، لكن يظل لفظ طبالي أجمل على طبلة الأذن لما لها من وقع في النفوس برائحة الأطعمة المشبعة التى تحملها، فتمتلئ البطون الجائعة.
قراءة البشر.. على الطبلية
والطبلية تعلمنا قراءة ما بداخل الصدور والنفوس، وقراءة من يجلس عليها، سواء كان شريفًا كريمًا أو لصًا طامعًا، فإن أخذ أحد لقمة لا تخصه دل على إنه لص طامع، وأن مد يده وقام بتوزيع الطعام على الموجودين ثم انتهي بنفسه دل ذلك على كرم العاطي وحبه للآخر وتفضيله على نفسه، تجسّد هذا الإيثار الجميل الأم التى توزع الطعام على أبنائها، وتأخذ من نصيبها و«تفرّقه» بين أبنائها وزوجها في حنان وحب.
وعلى الطبلية أيضا يمكن أن نكتشف البخيل والطماع لذا يقولون في الشام «ذوقناه الطعمية وقرمش الطبلية»، أي أننا قدمنا له الطعام ولأنه طماع ولا يكتفي، فقد بدأ في التهام خشب الطبلية بعد أن أكل كل الطعام، وعليها أيضا نكتشف الكسلان، فهناك كثيرون بعد أن يلتهموا الطعام يظلون جالسين أمام الطبلية لا يتحركون.
وإذا كانت الطبلية قد بدأت تتلاشى من البيت، ويحل محلها المائدة بكراسيها أو ما يطلق عليه السفرة، إلا أنها ما زالت في البيت الريفي من الأشياء الأساسية، بل وقطعة هامة من قطع جهاز العروس، حيث يتم تناول الطعام عليها في معظم الأوقات، وكذا تقطيع الخبيز – دقيق القمح – عليها قبل خبيزه. وفي هذه الحالة تسمي الطبلية «بالرقية» لأن الأرغفة توضع عليها في حلقة دائرية.
من تحت الطبلية
عندما تتحرك الطبلية أو تتدحرج كي يتم نصبها في صالة البيت، يبدأ طقس آخر، حين يأتي وقت الغداء أو العشاء، يصاحبها أغنية لم نعد نسمعها تقول «يا طبلية بيتنا ما يحلي الأكل عليكِ إلا إن كنا نتلم حواليكِ»، وهي هنا تعكس اهتمام أهل البيت بتناول الطعام جماعةً وليس كل على حدة.
وكانت الطبلية بعد أن تفرغ من مهامها في إشباع بطون أهل البيت، تُمسح وتُنظف، لتبدأ مهمة كبرى وهي مهمة تعليمية، حيث يجلس التلاميذ يذاكرون عليها دروسهم، وهي تستطيع أن تلم حولها كل طلاب ودارسي العلم في البيت باختلاف مراحلهم الدراسية، كل يأخذ قطعة منها، دون أي إزعاج، «لكن أمي كانت دائمًا تضربني وتقوم بتوبيخي وقرص أذني لأنني كنت أحب الشخبطة والرسم على قاعدة الطبلية الخشبية أثناء تأديه واجباتي المدرسية، والسبب في ذلك إنها كانت تخشي غضب أبي، لأنه عندما يرى هذا سيعلم أنني الذي فعلته، وربما يقوم بقلب الطبلية أثناء تناوله الطعام، وربما يقلبها بسبب مطلب من مطالب أمي لم يحن وقته أو غير مستعد للوفاء به، أو لشيء لم يعجبه في الطعام»، ومن هنا جاء التعبير الشهير «قلب الطبلية»، أو «قلب الترابيزة» أي أن كل شيء كان ممهداً للقيام على الطبلية قد انهار وضاع، وهو مصطلح سياسي يدل على عدم الوفاق أو عدم إتمام الاتفاقيات، وربما يرجع ذلك لعدم جودة الطعام على الطبلية.
ولأن الطبلية مرتفعة عن الأرض بحوالي ثلاثين سنتيمتراً، فقد استخدم أسفلها في الكثير من الأشياء التى يخشي أن تحدث فوقها أمام أعين الجميع، ويقال هنا «من تحت الطبلية»، «وكان ذلك يحدث في عصر يوم الجمعة المشهود، حيث تضع أمي طبق الزفر، سواء كان لحما أو دجاجا، تصاحبه لهفة وترقب وحيرة منا في انتظار دورنا»، لكنيِ أعتقد أن السبب الأساس لهذا المصطلح، هو الأم ذاتها، فهي عندما توزع أنصبة أفراد الأسرة من اللحوم أو كما يطلق عليها فى صعيد مصر «النوايب» ومفردها «نايب»– تقدم لزوجها قطعة كبيرة مبررة ذلك «بتعب الأب وشقاه طوال أيام الأسبوع»، وهي لا تحب أن يرى أحد من أبنائها ما قُدم لأخيه خشية أن يعتقد أنه أخذ أقل منه وتقوم معركة بين الأخوين، وبالتالي انتقل هذا المصطلح إلى الحياة العامة، فنسمع مصطلح «من تحت الترابيزة» في الكثير من شئون حياتنا، والتى نريد ألا يراها أو يعلمها أحد، وهي – دائمًا – مسائل مشينة لا نحبها أو يحبها العرف السائد.
ديمقراطية الطبلية
ومن مميزات – اللمة – حول الطبلية، تعليم أسس الديمقراطية الصحيحة، لأن الجلوس حولها لا يفرّق بين أحد، فالجميع متساوون في الجلوس عليها، والكلام لا يحلو إلا بـ «تحلق الأسرة أو الأهل حول الطبلية» و«لم يكن يوجد فرق إلا لأبي – أحياناً – أو لأحد الضيوف، عندما نضع شلتة أو كرسي الحمام له، وهو كرسي صغير من الخشب يرتفع عن الأرض مسافة صغيرة، وذلك لتميز مكانته، عدا ذلك فجميعنا جالسون على الأرض سواسية».
ولأن هذا التساوي شرط أساسي تفرضه طبيعة تكوين الطبلية، فقد تعلمنا الكثير من خلال الجلوس حولها، فبعد تناول الطعام عليها، يبدأ وقت جميل لاحتساء الشاي، ومعه كانت الحكايات تُروى ويشارك ويستمتع بها الكل في دفء عائلي وحب أسري، ومنها – أيضًا – تعلمنا تقاليد المحبة وتقدير الآخر والاهتمام به، وتعلمنا انتظار الغائب وإفساح مكان للمتأخر، والكل يشارك حول الطبلية في الحوار والكل يدلي برأيه أيًا كان عمره أو ترتيبه في الأسرة، فالطبلية هي مكان مناسب لتبادل الآراء ومناقشتها، بل وحل المشاكل في تلك الجلسات الحميمية حولها.
وإذا كانت الطبلية تفرض جوا من البهجة والحب للأسرة، فإن أجمل أيام بهجتها الكبري هى في مشاركتها في تجهيز كعك وبسكويت عيد الفطر، حيث كان يتم ربط ماكينة العجين في أحد اطرافها، وتبدأ في الدوران، ويخرج منها البسكويت ويتم رصه عليها قبل أن يوضع في الصاجات.
كما أن الطبلية قادرة على خلق متعة كبيرة إذا جاءت في الأحلام، فدلالاتها كثيرة ومتغيرة، لكن بمسمي المائدة وليس الطبلية، فهي تدل على الإسلام، وتدل على اليسر بعد العسر، والطعام الطيب على المائدة، دليل على كثرة وجودة ما يؤكل عليها، أو مشورة يحتاج فيها إلى أعوان. وسنلاحظ أن جميع هذه المعانى قد ظهرت في سورة «المائدة» في القرآن الكريم «اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».
وأحد أسباب دائرية الطبلية وصنعها من الخشب، الاعتقاد بأنّ لمس الخشب يطرد سوء الطالع، شرط أن يكون مستديراً غير مطليّ، لذا فإن الكثير من موائد المفاوضات تكون دائرية، فإذا كانت بأشكال أخري كالمربع أو المستطيل تفشل المفاوضات!
ويبدو أن الطبلية العربية لم تعد الآن دائرية، فلم تعد لمتها محببة، وأصبحت كئيبة مهملة، فادعوا لها أن تعود إلى سابق عهدها فتجمع العرب من المحيط إلى الخليج وتصبر على الغائب والمتأخر، وأن تكون ممتلئة بالزفر أيضًا.
الله عليك مقال رائع رجعنى 30 سنه