«شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان» مازالت تلك الموسوعة، محل إهتمام العديد من الباحثين فى مختلف التخصصات العلمية، ومازال مؤلفها الدكتور جمال حمدان (4 فبراير 1928 – 17 إبريل 1993)، مثارا للدهشة والإعجاب، ذلك العالم الذي عاش حياته ناسكا في محراب العلم، الذي شهدت حادثة وفاته العديد من الملابسات جعلت البعض يعتقد إنه لم يمت بفعل الحريق الذي شب في شقته بالدقى، بل بشكل متعمد، حيث ذهب البعض إلى أن الموساد الإسرائيلي هو الذى قتله كعقاب له على كتاباته المتعددة التي جاءت مناهضة للحركة الصهيونية ومشروعها الإستعماري الإستيطاني في المنطقة العربية.
«البينية في فكر جمال حمدان.. شخصية مصر نموذجا» كان عنوان الورقة البحثية التي شاركت بها الدكتورة فاطمة الزهراء على، المدرس بقسم الاجتماع في كلية الآداب، بجامعة القاهرة، في المؤتمر العلمي الدولي، الذي نظمته الكلية، بالتعاون مع كلية التربية الأساسية بجامعة العراق، والذي جاء تحت عنوان «البحث العلمي والدراسات البينية».
د. فاطمة الزهراء علي
إعادة تعريف الجغرافيا
تطرح الدكتورة فاطمة الزهراء في دراستها تساؤلا عن كيف وظّف جمال حمدان، المنهج البيني في دراسته للشخصية المصرية؟.. وتشير إلى أنه عمد إلى تقديم إعادة تعريف لعلم الجغرافيا، حيث تجاوز النظرة التقليدية المدرسية لعلم الجغرافيا، فجعلها تستعير بحرية من كل فروع العلوم الطبيعية والاجتماعية، وبذلك نجح في أنسنتها، فبدل أن تكون مجرد «علم للأشياء»، جعلها مدخلاً إلى التفكير الاستراتيجي، في التاريخ والأنثروبولوجيا والحضارة والسياسة، متتبعاً بالتحليل أدق تفاصيل الأحداث، في صورة أعم وأشمل ذات بعد مستقبلي، الأمر الذي دفعه إلى إعادة تعريف العلم ذاته.
وقد نجح جمال حمدان في أن ينفى عن علم الجغرافيا التهمة التى يطلقها البعض عليه من أنه علم «ناقل فضولي متطفل على سائر العلوم جميعاً، مجرد علم تسجيلي وثائقي».. فالجغرافيا وفقا لرؤيته «هى علم تَشَّرب وهضم وتمثل العديد من العلوم، وهى بوظيفتها الأساسية من الربط ورصد العلاقات تخلق جديداً، على مستوى الأفكار والأنماط، الجغرافيا إذن علم ناقل كمعرفة، خالق كفكر».
أما عن أهم وظائف علم الجغرافيا من وجهة نظر جمال حمدان، فقد تمثل في تحديد شخصية الإقليم محل الدراسة، وبهذا تصبح «الجغرافيا» علما وفنا وفلسفة، فهي علم بمادتها، فن بمعالجتها، فلسفة بنظراتها.
يؤكد جمال حمدان على أن دراسة شخصية الإقليم، لا تقتصر على التعرف على الحاضر وإنما لابد من متابعة تطور هذه الشخصية عبر التاريخ، فالبيئة كما يشير «قد تكون في بعض الأحيان خرساء، ولكنها تنطق من خلال الإنسان، ولربما كانت الجغرافيا أحيانا صماء، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها، ولقد قيل بحق أن التاريخ ظِلُ الإنسان على الأرض مثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان.. كما أن معظم التاريخ إن لم يكن، جغرافيا متحركة، فإن بعضه على الأقل، جغرافيا متنكرة».
وهنا تؤكد فاطمة الزهراء على براعة جمال حمدان، في توظيف العديد من المناهج المعرفية التي استقاها من مختلف فروع المعرفة، حيث استعان بالمنهج التاريخي والإنثروبولوجي، ومناهج علوم السياسة، ودراسات المستقبل، والمنهج الفينومينولوجي والمنهج الكيفي المقارن، والمنهج التركيبي، إلى جانب المنهج الإيكولوجي.
وتعد صفة «التجانس» صفة جوهرية للبيئة المصرية، كما قدمها جمال حمدان، ذلك التجانس الذي يتجلى في مظاهر عدة، منها الطبيعي والمادي والعمراني والحضاري، إلى جانب التجانس البشري الممتد من الحضارة المصرية القديمة، منذ العصور الفرعونية، وحتى ثورة يوليو 1952. والذي برهن عبره جمال حمدان على وحدة الجنس المصري، والذي تجلى في وحدة اللغة، حيث يقول «إن الخريطة الجغرافية وثيقة اجتماعية والخطوط التي عليها يد التاريخ»
ملكة الحد الأوسط
ينطلق حمدان في تحليله للشخصية المصرية الاجتماعية، من النظريات السوسيولوجية، مستندا إلى «نظرية الطغيان الشرقي»، التي تناولها بصورة تحليلية نقدية، ليجيب عن عدد من التساؤلات الخاصة بقضية الطغيان، وهل هو ظاهرة تراثية مصرية أم وراثية؟، وهل هو انبثاقة طبيعية من المكان أم انحرافة سياسية عبر الزمان؟، ولكي يفند آراءه ويجيب عن تساؤلاته، كان عليه أن يحلل البناء الطبقي المصري تحليلاً سوسيولوجياً عميقاً.
فالإستبداد والحكم الأتوقراطي المطلق، يعد ملمحا كبيرا من ملامح مسيرة المجتمع المصري، عند جمال حمدان، غير أن الباحثة تعود لتؤكد على ما أشار إليه حمدان من أن «ما عرفته مصر في أغلب تاريخها من الطغيان والأتوقراطية الضارية، إنما كان للأسف روح العصر وليس – لحسن الحظ- روح المكان».
وبصفة عامة فإن جمال حمدان تمكن من تفعيل وتوظيف التداخل بين الحقول المعرفية في دراسته للشخصية المصرية، مؤكدا على طبيعة تلك الدولة العريقة التي بحث عن سمات تفردها وتميزها، وأدرك تماماً صعوبة فهم وتفسير هذا التميز إلا في ضوء توليفة خاصة من العلوم والمناهج تليق بتلك التوليفة الإقليمية المصرية. فقد رأى أنه إزاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد، من حيث السمات والقسمات التي تجتمع فيها والتي جعلت منها «ملكة الحد الأوسط».
«فهي بطريقة ما تكاد تنتمي إلى مكان دون أن تكون هناك تماماً، فهي بالجغرافيا تقع في أفريقيا، ولكنها تمتُّ أيضاً إلى آسيا بالتاريخ، وهي متوسطية دون مدارية بعروضها، ولكنها موسمية بمياهها وأصولها..هي في الصحراء وليست منها، إنها واحة ضد – صحراوية.. فرعونية هي بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدماً في الأرض وقدماً في الماء. وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقاً أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأساً أكثر من ضخم، وهي بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط.. كما تمد يداً نحو الشمال وأخرى نحو الجنوب، وهي توشك بعد هذا كله أن تكون مركزاً مشتركاً لثلاث دوائر مختلفة، بحيث صارت مجمعاً لعوالم شتى، فهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الأفريقي». هكذا وصف جمال حمدان مصر «ملكة الحد الأوسط».