قد يرى البعض أن العلاقات المصرية مع المعسكر الشرقي وعلى رأسه بالطبع الاتحاد السوفييتي السابق، كانت مجرد علاقة بين مسيطر وتابع، ويراها البعض الآخر الفرصة التي سنحت لدولة مثل مصر للحاق بركب الصناعة الثقيلة والتحديث. وبينما يؤكد كثيرون أنها كانت ضرورة طبقا للظروف الدولية في ذلك الوقت، التي كانت تفرض الاختيار بين قطبي العالم حينها، يرى فريق آخر أنها كانت اختيارا حرا للسلطة المصرية في ذلك الوقت.
لكن أغلب الآراء تتفق على أنها كانت علاقة سلسة لم تحمل الكثير من الشد والجذب خاصة في عصر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وحتى انقلابها التام في عصر السادات.
حجر في بحيرة العلاقات الغامضة
ويغلب على كل هذه الآراء أنها تستند إلى تحليل تلك العلاقات، في ضوء المعلن والمنشور على ألسنة المسئولين المصريين والسوفييت حينها، أو من خلال مذكراتهم ومن حولهم، والتي كشفت القليل من أسرار وخفايا هذه العلاقات وما مرت به من محطات ومنعطفات. لكن الدكتور سامي عمارة الكاتب والإعلامي والباحث المصري الذي يعيش في موسكو منذ عقود طويلة كان خلالها شاهدا على الكثير من التطورات والأحداث التي شهدتها العلاقات بين القاهرة وموسكو، ألقى بحجر كبير في تلك البحيرة الغامضة بكتابه الصادر حديثا عن دار الشروق تحت عنوان «القاهرة- موسكو.. وثائق وأسرار».
د. سامي عمارة وكتابه «القاهرة- موسكو.. وثائق وأسرار»
وأيا يكن موقفك أو رأيك، سواء في الاتحاد السوفييتي، أو في طريقة إدارته للعلاقات الدولية حينها، أو في أنظمة عبد الناصر والسادات ومبارك وعصورهم، بل ورأيك في مؤلف الكتاب، إلا أن ذلك المجهود المبذول فيه يستحق أن يجد مكانا في كل مكتبة لأي مهتم بالشأن السياسي المصري. فالكتاب يحمل بين ضفتيه وثائق من قلب الأرشيف السوفييتي، تتعلق بالفترة ما بين 1952 وحتى 1986، تتوزع كما يقول المؤلف.. ما بين تضاريس «سري» «سري للغاية»، وتحفظات «بدون حق النشر»، وإلى جانب تلك الوثائق هناك مقابلات شخصية أجراها المؤلف مع مسئولين سوفييت سابقين، ومذكرات بعضهم، في محاولة منه لرسم الصورة الكاملة بين المعلن و الخفي في هذه العلاقات.
المركز الثقافي الروسي بالقاهرة عقد ندوة قبل أيام لمناقشة كتاب الدكتور سامي عمارة، قدم خلالها المؤلف تلخيصا لأهم محاور الكتاب التي قسمها إلى أربعة محاور.. الأول يتناول بداية العلاقة المضطربة بين مصر والاتحاد السوفيتي في أعقاب ثورة يوليو، وثانيها هو صفقة الأسلحة التشيكية، والمحور الثالث حول رؤية الاتحاد السوفييتي لتأميم قناة السويس وبناء السد العالي ثم الخلاف الذي نشب بين ناصر وخروتشوف، وموقف السوفييت، أما المحور الرابع فكان عن موقف السوفييت من هزيمة يونيو 1967، والذي تناول فيه أيضا قضية طرد الخبراء الروس من مصر علي يد السادات وأخيرا عودة العلاقات السوفيتية المصرية في عام 1984.
وعلى هامش هذه الندوة وردا على سؤال لـ«أصوات أونلاين» حول العلاقات السوفيتية المصرية وما إذا كانت اختيارا أم اضطرارا، قال الدكتور سامي عمارة «إن العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي، وبناء على الواقع كانت علاقة اضطرار في لحظات، ومن الجانب المصري بالدرجة الأولى». وحول تحور تلك العلاقة إلى علاقة تبعية قال عمارة «لم أتحدث عن تلك القضية في الكتاب، ولكن بالفعل بعد عام 67، تغيرت الظروف بعض الشيء وطُلب من عبد الناصر إنشاء قاعدة عسكرية سوفيتية في مصر، ورفض عبد الناصر القاعدة ولكنه قبل ببعض التنازلات غير المعلنة، مثل التسهيلات والامتيازات المقدمة للأسطول الروسي ولكن مع عدم توقيع أي اتفاقية بإنشاء قواعد عسكرية سوفيتية في مصر».
شكوك وعلاقة مضطربة
يبدأ الكتاب ذو الفصول العشرة، بالفصل المتعلق بكيفية تحول وجهة السياسية الخارجية المصرية من الغرب إلى الشرق بعد سنوات قليلة من ثورة يوليو، وذلك تحت عنوان «كيف اعتبر ستالين ثورة يوليو انقلابا عسكريا؟». فرغم أن مصر بدأت بإقامة علاقات ديبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي في عام 1943، إلا أن التحول الحقيقي في هذه العلاقات كان في عام 56 وبين هذين التاريخين هناك العديد من المحطات التي كشف الكتاب جزءا من أسرارها.
فمع النظرة السلبية التي اعتنقها النظام السوفييتي وعلى رأسه ستالين، الذي اعتبر أن ما حدث في مصر، ليس سوى انقلاب عسكري، نجد أن السلطة المصرية حينها هي الأخرى لم تكن تهتم في البداية بإيجاد علاقة أعمق مع الجانب السوفييتي ،وكان أبرز دليل على ذلك هو اختيار عزيز باشا المصري، رئيس أركان القوات المسلحة في أواخر الثلاثينيات، والمعروف بميوله النازية والتقارب مع تلك الأوساط، سفيرا لمصر لدى الاتحاد السوفييت. رؤية السوفييت لما حدث في مصر آنذاك تتجلى فيما ذكر على لسان خروتشوف في الكتاب والذي قال: «لم نكن نستطيع تحديد ماهية اتجاهات السياستين الداخلية والخارجية لحكومة عبد الناصر خلال الأيام الأولى لتوليها السلطة في مصر، وكنا أقرب إلى الميل إلى اعتبارها وعلى ما يبدو، نتاج واحد من الانقلابات العسكرية المشهورة التي طالما عرفناها وتعودنا عليها؛ ولذا فلم نكن ننتظر منها شيئا يذكر. وعموما فلم يكن أمامنا إلا أن ننتظر لنرى ما يمكن أن تتخذه القيادة المصرية الجديدة من قرارات».
وفي فقرة من أبرز فقرات الفصل الأول، والتي ترصد التعرجات والتباينات في طريق الخطوات الأولى للعلاقة بين السوفييت ومصر، نجد بين ملفات حملت عنوان رسائل سفير الاتحاد السوفييتي في القاهرة وقتها «دانييل سولود» رسالة حول لقائه بعزيز باشا المصري في الشهور الأولى من عام54 والتي اطلع عليها سامي عمارة ضمن أرشيف وزارة الخارجية الروسية. في هذه الرسالة يقول السفير السوفيتي: «إن المصري حاول وحسب التقاليد الشرقية،تصوير القيادة المصرية وكأنها نصيرة للتقارب مع الاتحاد السوفييتي، لكن الواقع يقول أن الطغمة العسكرية الحاكمة تستنسخ كل شيء من الفاشية الألمانية والإيطالية، وكان وزير الشئون الاجتماعية كمال الدين حسين قد قال منذ بضعة أيام، إنه يعتبر هتلر هو أعظم قيادات القرن العشرين».
جمال عبد الناصر في اجتماع مع نيكيتا خرتشوف في موسكو أوائل مايو 1958
وقد تكررت اللقاءات بين سولود وعزيز المصري الذي ألمح إلى رفض القيادة السياسة في ذلك الوقت لمقترحاته بالتقارب مع الجانب السوفييتي. واللافت هنا ما يقوله «سولود»:من «إن أكثر أعضاء مجلس قيادة الثورة عداء للسوفييت، هو البكباشي جمال عبد الناصر نائب رئيس الحكومة، الذي أعلن عن عدم موافقته على دعوة الحكومة المصرية للخبراء السوفييت لأنهم سيعملون على تجنيد كل من يتعامل معهم».
صفقة الأسلحة التشيكية
ومع ذلك فقد خطت العلاقة بين البلدين خطوة للأمام بتنفيذ صفقة الأسلحة التشيكية التي لم تكن سوى ستار لتزويد الجيش المصري بصفقة سلاح سوفييتي في أواخر عام 1955، وحسب رسالة سولود لبلاده التي جاء فيها: «بموجب تعليمات المركز، التقيت بصبري (علي صبري) في مقر السفارة وطلبت منه إبلاغ رئيس الحكومة (عبد الناصر) وأعضاء الحكومة المصرية، بأن حكومة السوفييت استجابت لطلب الجانب المصري بشأن مشتريات السلاح الروسي في إطار ما يلي، 1- يوافق الجانب السوفييتي على أن يتم سداد حسابات صادرات الأسلحة إلى مصر من خلال الصادرات السلعية مع تقديم قرض مالي بنسبة فائدة 2% سنويا، 2- يوافق الجانب السوفييتي على توريد الدبابات إلي مصر على أن يتم الاتفاق حول طراز هذه الدبابات في براغ مع الوفد المصري، 3- يوافق الجانب السوفيتي على توريد شحنات الأسلحة في أقرب وقت ممكن».
تقارب وخلاف
وفي الفصول الثلاثة التالية يركز سامي عمارة على الوثائق الخاصة بالتقارب الوليد بين البلدين، وبين عبد الناصر وخروتشوف على الأخص، دون إغفال لما نشب بينهما من خلاف ونشوء أزمة بينهما قبل انحسارها. وقد حاول عمارة في أحد تلك الفصول دحض الانتقادات التي وجهت لناصر حول قراره بتأميم قناة السويس في حين أن امتياز استغلالها كان سينتهي في عام 66، فيقول على لسان ديمتري شيبلبوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي في كلمة ألقاها في أغسطس 56، خلال مؤتمر لندن بشأن مسألة قناة السويس: «إن بعض الدول الغربية حاولت قبل إعلان الجمهورية المصرية، إقناع الحكومة المصرية «قبل يوليو 52»، بمد امتياز قناة السويس من عام 1966 إلى عام 2008، إلا أن مصر رفضت كل هذه الاقتراحات«، بالإضافة بالطبع لإنذار السوفيت حول العدوان الثلاثي والتهديد بفتح باب التطوع للمواطنين السوفييت للسفر والقتال في مصر وبعض الضغط الدبلوماسي المبطن بالتهديد بأن ذلك الهجوم قد يؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة.
السوفييت وإسرائيل
ومن الملفت ما تقوله الوثائق عن طلب ديفيد بن جوريون رئيس وزراء الكيان الصهيوني في ذلك الوقت، توطيد العلاقات مع الاتحاد السوفييتي بعد شهور من زيارة ناصر الأولى لموسكو في 58، بل إن هذه الوثائق تكشف عن أن بن جوريون طلب وساطة الاتحاد السوفييتي للقاء ناصر. ففي برقية حملت ختم سري، وأرسلها فلاديمير فاسيليف النائب الأول لوزير الخارجية السوفيتي إلى أعضاء اللجنة المركزية، «أبلغنا سفير الاتحاد السوفييتي في تل أبيب بأن ديفيد بن جوريون رئيس الحكومة الاسرائيلية يطلب أن تطرح على الحكومة السوفيتية القضايا التالية، 1- هل يمكن للاتحاد السوفييتي أن يبيع لإسرائيل 23 مقاتلة من طراز ميج و32 قاذفة من طراز إيليوشن، و20 من الدبابات السوفيتية وغواصتين.. 2- هل يمكن للاتحاد السوفييتي أن يأخذ على عاتقه مبادرة إعداد لقاء بين عبد الناصر وبن جوريون لإجراء مباحثات حول تسوية الخلافات العربية الإسرائيلية في الوقت والمكان المناسبين؟.. ونحن نعتقد أن طلب بن جوريون يستهدف على ما يبدو إفساد العلاقة بين الاتحاد السوفييتي والبلدان العربية(..) وترى وزارة الخارجية السوفيتية أنه من الأفضل عدم الرد على طلبات بن جوريون».
موسكو والوحدة المصرية السورية
وفي فصل كامل من الكتاب يتطرق المؤلف إلى الأزمة التي اندلعت بعد شهور من إعلان الوحدة المصرية مع سورية والتي رأى السوفييت أنها كانت متعجلة ومندفعة، وبعد زيارة ناصر الأولى لموسكو ، والتي رافقت قيام حملة اعتقالات للشيوعيين المصريين في ذلك الوقت والتي بالطبع شهدت رفضا من خروتشوف الذي قال في بداية عام 1959، أمام المؤتمر العام للحزب الشيوعي: «إن بلادنا شأن البلدان الاشتراكية الأخرى دعمت وتدعم حركة التحرر الوطني. ولم يتدخل الاتحاد السوفيتي ولا يعتزم التدخل في الشئون الداخلية للبلدان الأخرى،. لكننا لا نستطيع التزام الصمت تجاه ما يحدث في بعض الدول وما يجرى من حملات ضد القوى التقدمية تحت شعارات زائفة معادية للشيوعية، ولما كانت صدرت في الجمهورية العربية المتحدة منذ زمن غير بعيد أفعال مضادة للأفكار الشيوعية، وجرى توجيه الاتهامات ضد الشيوعيين، فإنني وكشيوعي في مؤتمرنا للحزب الشيوعي أرى أنه من الضروري إعلان أنه من غير الصحيح توجيه الاتهام للشيوعيين بأنهم يعملون من أجل إضعاف أو فرقة الجهود الوطنية في النضال ضد الإمبريالية. وعلى العكس.. فليس هناك أناس أكثر ثباتا وصمودا من القوى الشيوعية في النضال ضد المستعمرين، كما أنه لا يوجد من هو أكثر ثباتا وصمودا في النضال ضد الامبريالية من القوى الشيوعية». وقد وظل هذا الخلاف والتلاسن بين ناصر وخروتشوف لفترة من الزمن، ألقى خلالها بظلاله على العلاقات بين القاهرة وموسكو.
( يتبع)