فن

فؤاد قاعود.. (2-2): شاعر الرفض والاعتراض

ونواصل ما كنا قد بدأناه في الجزء الأول من هذا المقال عن فؤاد قاعود، ذلك الشاعر ذي المكانة الخاصة والمتفردة فى تاريخ شعر العامية المصرية، في هذا الجزء الثاني والأخير نعرض لمحطات كثيرة ومختلفة فى تجربته الشعرية شديدة الثراء والخصوصية.

استمر قاعود يقدم باب «صباح الفل» داخل مجلة صباح الخير لأكثر من 14 عاما، أبدع خلالها عددا من الشخصيات الشعرية مثل: «جوعان بن هفتان» و«نكد الدولة سخطان» و«فرقع لوز».. وكان لكل من هذه الشخصيات الشعرية طابعه الخاص وتميزه، وإن اشتركوا جميعا في كشف سلبيات المجتمع..

كان قاعود يرى أن شعر العامية لا يقل شأناً عن شعر الفصحى، وكان لا يمل من منازلة كل من تسول له نفسه الهجوم علي «العربية المصرية»، فهو يرى أن العامية ليست سوى قراءة مصرية للغة العربية، وطريقة في نطقها فحسب، ويري أن اللهجة المصرية أكثر بساطة، بل أكثر تطورا، وهي اللهجة المفهومة عن غيرها لكل العرب، و أن السبب الرئيسي في أنها أكثر تطورا إنما يتمثل في حجم الممارسة الضخمة المستعملة يوميا لهذه اللهجة من قبل أكثر الشعوب العربية عددا، «فاللغة تصنع في السوق».. إن هذا الانحياز من جانب قاعود للهجة المصرية ليس وليد توجهات شوفينية ضيقة.. وينفي ذلك عنه أن محاججته لا تستهدف إلا كشف الوجه العربي للهجة المصرية، مما يستبعد بما لا يدع مجالا للشك، أية شبهة للتعصب، فكما يقول قاعود: لا فضل للمصريين على أشقائهم العرب في هذا الأمر، إذ لم تكن لهم يد في وضعهم الجغرافي والسكاني فهذا من صنع الله.

https://youtu.be/w-Fbktf21GQ

روح مصرية ساخرة

اعتبارا من عام 1986 بدأ قاعود تقديم باب «الفرازة»، الذي كان يكتب في ترويسته: «الفرازة.. مجلة لا دورية ولا شهرية يملكها ويرأس تحريرها ويملك فصل أي محرر فيها.. أحمد فؤاد قاعود»

هذه الترويسة تحمل روح قاعود، تلك الروح المصرية الساخرة، وفي الوقت نفسه فلا يخلو الأمر من الإشارة إلى ما كان يحاول شاعرنا المتفرد التأكيد عليه كلما سنحت الفرصة، وهو الاعتداد بنفسه والحفاظ على قيمه ومبادئه، وعدم التنازل عنها مهما كانت الظروف.. وقدم قاعود في «الفرازة» العديد من المواهب الشعرية.

وقد رفض قاعود كتابة الأغاني بكل ما تحمله من مغريات، كان يقول: إن الأغنية رغم أهميتها وقوة تأثيرها، لكن مناخها لا يناسبني، وأنا لا أحب دخول مثل هذا العالم. ورغم أن قاعود كان أحد الذین ساھموا في خلق تجربة الشیخ إمام، وشارك في تقديم عدد من الأغنيات معه، إلا أنه لم يقدم سوى عدد محدود جدا من الأغنيات للإذاعة المصرية، أشهرها أغنية المجموعة «عمال ولادنا والجدود عمال»، وأغنية «زرع الشراقي» للمجموعة أيضا والأغنيتان لحن سيد مكاوي.

أبو الشمقمق

أبو الشمقمق شخصية عربية تاريخية ساخرة لم تأخذ حقها فيما كتب عن تراثنا العربى لجأ إليها قاعود، وبعث فيها الحياة، ليقول علي لسان هذه الشخصية مقامات اسماها «مقامات أبي الشمقمق».

في إحدى المقامات وهي بعنوان:

ألا ليت الشباب يعود يوما / ويرجع مرة عهد الشباب

يقول أبو الشمقمق بلسان فؤاد قاعود:

يظن المرء أن الذكريات تموت بمضي السنوات، ولكن هيهات، خاصة إذا كان الذي غرس تلك الذكريات في القلب، قصة من قصص الحب، يا للإنسان من مخلوق عجيب، ليس له بين الكائنات ضريب، ومن العجب العجاب، أن الإنسان مهما شاب، وظهر عجوزا في عيون الناس، يظل هو محتفظا داخله بنفس الإحساس، ولم أكن أظنه أمرا يجوز، حتى تيقنت منه وأنا عجوز، وهذه قصة حب حدثت لي في شبابي، وكان ذلك تقريبا في أيام عرابي

نسيم أهاج الشوق يمّم من شبرا / تجاوز رمسيسا وجاء إلى غمرا

أعاد لقلبي عطر «بتعة» بعدما / نسيت هواها فاستعاد لي الذكرى

و«بتعة» كانت بدر تم منورا / بإكليل تبر حاط أعينها الخضرا

وكانت إذا جاءت وهل هلالها / يغرد قلبي مثل مطربة الأوبرا

وقد قابلت صدفة أحد جيرانها في احتفال، وسألته عنها فقال: لقد بدل الزمان في «بتعة»وأحال، فهي الآن أم لست عيال، وأصبحت تخينة كالشوال، فسبحان مغير الأحوال!

وأبو الشمقمق الذى ابتعثه فؤاد قاعود من التراث العربى شاعر عاش نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، كان شاعرا هجّاءا، عاصر شعراء عدة وهجاهم جميعا، كبشار بن برد وأبي العتاهية، وأبي نواس، وابن أبي حفصة وله هجاء في يحيى البرمكي وغيره. وكان يلقب نفسه: «أشعر الفقراء وأفقر الشعراء».. وليس من باب المصادفة أن يختار قاعود هذا الشاعر تحديدا، يبعث فيه الحياة، ليبث على لسانه مقاماته الساخرة.

https://youtu.be/w-Fbktf21GQ

رؤية كافكاوية

وعدت لجل أنام

لكنهم حاوطوني بالمباخر والمسوخ

وحيسحروني كلب

حيسحروني كلب

************

في كل يوم وانا في طريقي للجبل

يقابلني من رفاق اللعب في الصباح وفي المسا

اتنين تلاتة م الصحاب

متحولين كلاب

********

ازي حالك يا عمر؟

هو… هو… هو…

ازي حالك يا سعيد؟

هو… هو… هو…

مافيش طريقة ترجعوا بشر؟

هو… هو… هو…

عاجبكم الشكل الجديد؟

هو… هو… هو….

يقول الناقد الراحل فاروق عبد القادر: «في هذه القصيدة يتم تحول أصدقاء الشاعر ورفاق صباه إلى كلاب، لا يجيبون على أسئلته إلا بالعواء والنباح، إنها رؤية كافكاوية بغير جدال، وفي قصيدة «التصورات» وحين يعرف أنه مقتول لا محالة يهيب بقاتله قائلا :

مش زي كلب

مش زي كلب تقتلوني

وترموا جتتي على الطريق

لابد تندبوا نفر

يزقني في حفرة

ويهيل على جسمي التراب

Image result for ‫الناقد الراحل فاروق عبد القادر‬‎

الناقد الراحل فاروق عبد القادر

كأنما لم يبق للقتيل من مطلب سوى أن يكرموا جثته بالدفن. وهكذا فالقهر ضارب أطنابه حول كل شيء وكل إنسان، قهر عنيف طاغ غير مبرر، غير أن الاستسلام للقهر ليس السبيل الوحيد للخلاص من القهر، ثمة سبل أخرى أيسرها أن يرى الشاعر نفسه مغايرا للآخرين، مختلفا عنهم، ومن ثم يدير لهم ظهره، منعزلا هناك بعيدا حيث يقف نظيف اليدين من غبار الممارسة، لا تعلق بثيابه أدران صراع السوق حول الأسلاب والمغانم، وهنا يُنشد النسر بكائيته…

ضربت بجناحي الرياح صوتت

ومرقت زي السهم نحو النجوم

لجل الهوا الطلق الجميل

يخش صدري العليل

وينقي ريشي من تراب السفح

وفي تقديمه لديوان «المواويل» لفؤاد قاعود، يقول فاروق عبد القادر: «الحقيقة التي بجب قولها هنا ودون تردد، ھي أن الشاعر لم يفقد الأمل أبدا في أن تشرق یوما الشمس التي توزع الدفء والضوء على الجمیع، وھذا ما یرجح عندي القول بأن ھذا القھر لیس قهرا كونیا، لكنه قھر موضوعي مرتبط بعوامل محددة في الواقع الاقتصادي/ السیاسي/ الاجتماعي، قھر لا یتعالى على قدرة الإنسان على الفعل والتغییر»

إنزل عن الفرس الهزيل
لشخص آخر
يجر بيه ف الفجر حمل الخضار
من الضواحي لحد سوق المدينة
يضمن مواعيد العلف لكن …
الوجبة مخلوطة بهوان
ويغيض على مر الزمن
نبل الجواد اللي كان
ماهوش مناسب سيفك الأثرى
على فخدك الضامر
لكن مكانه معرض العاديات
يتأمله بطل الزمان الجديد
صاحب مخازن السلع
ويتمنه بدينارين
ويحلى بيه حيط شقته المترفة
كذكرى م الماضي

نُشرت لقاعود عدة دواوين مثل: «الاعتراض» و«المواويل» و«الخروج من الظل» و«الصدمة» و«ضمير المتكلم» وفي عام 2002  صدرت الأعمال الكاملة، وقدم قاعود لهذه الطبعة برأيه في النشر، وامتنانه لصاحب الدار التى أصدرت أعماله الكاملة.

ونلاحظ هنا أن كل دواوين قاعود التي نشرت لم تصدر إلا عن طريق مطابع خاصة، وليست مؤسسات ثقافية حكومية، وبعد وفاته قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بطباعة ونشر أعماله الكاملة في ستة مجلدات.

في 18 يناير 2006، رحل فؤاد قاعود كعادة العظماء في صمت وبلا ضجيج عن عمر يناهز السبعين عاما…

اتحلل الجسد النبيل
واتنفسوا الصعداء
لكن حيفضل لك برغم الفناء
نوع م الموجود
ف غنوة حبلى بالشجن ترثيك
وتسجلك..
كمثال مغاير
لجل المحايدين اللي رح يتولدوا
يلقوا قصادهم …فرصة للاختيار .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock