يؤشر مسلسل العنف غير المتناهي بكل من مالي ونيجيريا، على وجود أزمة في بنية الدولة؛ ما يمنح فرصاً كبيرة لانتشار الجماعات المتطرفة وبروز قيادات إرهابية، تحت يافطات عرقية ودينية.
وفي سياق هذا التناحر العرقي القائم، قُتل يوم 8 أبريل (نيسان) 2019 ما لا يقل عن 20 شخصاً، في أحدث هجوم قام به رعاة يشتبه في أنهم من الفولاني في قرية أنغوان أكو، بمنطقة كاجورو للحكم المحلي بولاية كادونا. ويعد هذا الحدث الدموي واحداً من المؤشرات المبرزة للتشابك العضوي بين الصراع العرقي والظاهرة الإرهابية، التي تعيشها دول الساحل وغرب أفريقيا.
جغرافيا المجازر
تأتي هذه العملية الإجرامية، لعرقية الفولاني المسلمة ضد قبيلة أدارا المسيحية، في إطار سلسلة من عمليات الاقتتال الديني والعرقي، الذي شهد تزايداً كبيراً منذ سنة 2012 بمنطقة الساحل، وبلغ حسب الأمم المتحدة ذروته سنتي 2016 و2018 بغرب القارة السمراء خصوصاً نيجيريا. غير أن مسار الأحداث الأخيرة، بكل من دولتي مالي ونيجيريا، يدل على حصول تحول نوعي في النزاع القائم، خصوصاً أن عرقية الفولاني بمالي، تناصر تنظيم محمد ممادو كوفا، بينما تعتبر الهوسا وتوابعها من الفولاني بنيجيريا من مؤيدي تنظيم «بوكو حرام».
في سياق هذا التحول النوعي، تفاجأ العالم بوحشية العملية الإجرامية التي أودت بحياة 160 شخصاً من الفولاني المسلمة، في مذبحة مروعة نفذها مسلحون من قبيلة الدوجون، العاملة بالصيد، ضد أهالي قرية أوجوساجو، في 23 مارس (آذار) 2019. ويبدو أن وحشية هذه العملية تعيد إلى السطح، ارتباط العنف القبلي والديني، بالتطهير العرقي، والممارسة الإرهابية.
وقد أشار إلى ذلك مراسل صحيفة «لوموند» الفرنسية بالقول إن المهاجمين «لم يتركوا أحداً، وعمدوا إلى حرق كل شيء بالبنزين وقتلوا كل شيء يتحرك بالأسلحة». وكان المهاجمون قد وصلوا إلى المنطقة بدراجات نارية فجراً وحاصروا المكان، قبل أن يفصلوا الرجال عن غيرهم ويقتلوا الجميع، ويحرقوا كل الأكواخ التي كان يسكنها القتلى.
وإذا كانت الفولاني، كما أشرنا أعلاه، تناصر فرع «القاعدة في المغرب»، فإن قبيلة الدوجون التي نفذت المجزرة الأخيرة، كونت بإشراف من دولة مالي ميليشيات مسلحة، غير خاضعة للجيش الرسمي. وبدأت هذه المجموعة العسكرية في الدفاع عن الدوجون منذ تأسيسها سنة 2016 تحت اسم «دانا أماساغو»، وهذا الاسم يحمل دلالة لا تخلو من نبرة دينية، حيث يعني «الصيادين الموقنين بالإله» بلغة الدوجون.
ويشار إلى أن الفولاني عرقية وقبائل مسلمة منتشرة في دول غرب ووسط القارة الأفريقية، مثل نيجيريا ومالي الكاميرون وغينيا والسنغال وموريتانيا، وعدد أفرادها نحو 40 مليون نسمة. وما زالت الفولاني تعيش على حياة الرعي والترحال، ما يسبب لها مشاكل مع القبائل الأكثر استقراراً، التي تمارس الزراعة.
وهذا ما يفسر الارتفاع المطرد لأعمال العنف والاقتتال بين هذه القبائل وغيرها بنيجيريا ومالي، غير أن هذا العامل لا يمثل السبب الوحيد، حيث نجد أن تداخل الفولاني مع الجماعات الإرهابية، يعكس من جهة، رغبة هذه العرقية في الدفاع عن مصالحها، وضمان حرية التنقل والأمن عبر طرق الصحراء المختلفة، التي تعرف مراقبة أو إشرافاً من تلك الجماعات المتطرفة في الساحل والصحراء، ومن جهة أخرى، فإن الفولاني تعتبر الأقرب لعرقية الطوارق بزعامة إياد أغ غالي زعيم تنظيم «نصرة الإسلام والمسلمين»؛ وهذا يفسر دخول كوفا أمير «جبهة تحرير ماسينا» بمالي، في وحدة اندماجية مع التنظيم الجديد لإياد أغ غالي، في مارس 2017.
وبالعودة للعملية المشار إليها، صباح يوم الاثنين 8 أبريل 2019 بشمال وسط نيجيريا، نجد أن شهود عيان يشيرون إلى أن المهاجمين كانوا يتواصلون بلغة الفولاني، ويرتدون الزي العسكري ومسلحين ببنادق كلاشنيكوف والسواطير والعصي، وقد أطلقوا النار بشكل عشوائي ولاحقوا الفارين في الأحراش، وقتل بعضهم هناك.
ورغم أن السكان أبلغوا السلطات النيجيرية الرسمية قبل أيام من وقوع الحادث بإمكانية حدوث مجزرة في المنطقة، فإن السلطات لم تعمد لنشر قواتها في التماس بين القبيلتين، بل إن الشرطة التي وصلت إلى منطقة العملية لم تتوغل في الأحراش وفضلت العودة لمقراتها المركزية بالمدينة. وربما هذا ما دفع دانلادي ياريما، الرئيس السابق لجمعية أدارا للتنمية إلى اتهام محافظ المنطقة، ناصر الرفاعي، بالتحيز والتلكؤ في معالجة الأزمة، وبالتالي تكرار ما حدث بمنطقة كاجورو في 10 فبراير (شباط) 2019، عندما هاجم رعاة من الفولاني أنجوان باردي، وهي جماعة من أدارا، في الليل، وقتلوا 11 شخصاً.
وكان رد فعل أدارا المسيحية عنيفاً، حيث قتلت في سلسلة من الهجمات نحو 131 شخصاً من الفولاني، كما أعلن محافظ المنطقة. كما أسفر هذا الاقتتال عن تشريد نحو 4 آلاف شخص، وهو ما دفع الوكالة الوطنية للطوارئ ووكالة الطوارئ الحكومية إلى المساعدة في إعادة بناء المنازل التي دمرت خلال الهجمات المختلفة على المجتمعات المحلية لتمكين المشردين داخلياً من العودة إلى ديارهم.
مواجهة الدولة للعنف
وعلى أثر مقتل 20 شخصاً في النزاع العرقي بشمال نيجيريا تدخل مجلس الشيوخ الفيدرالي، عبر خطوات عملية. فمن جهة أولى، عبر عن إدانته جميع أعمال القتل بالبلاد وعن قلقه المتزايد، من انعدام الأمن بنيجيريا. ودعا لخطوات عملية لاستتبابه، ومنها إنشاء شرطة الولاية للقضاء على العنف من جذوره.
ومن جهة ثانية، قرر مجلس الشيوخ لمعالجة الأحداث المؤسفة، لا سيما في ولاية زمفارا، تخصيص 10 مليارات نيرة في ميزانية 2019 (الدولار الواحد يباع بنحو 160 نيرة)، كصندوق تدخل لمعالجة مشكلة انعدام الأمن في الدولة، ودعماً لتلبية احتياجات المشردين داخلياً وغيرهم من الأشخاص المتضررين من أنشطة العصابات المسلحة في الدولة. كما دعا الحكومة الفيدرالية إلى تشكيل لجنة مخصصة تُعرف باسم المبادرة الرئاسية لولاية زمفارا، لإدارة الصندوق المذكور والمخصصات اللاحقة، التي ستدفع للصندوق.
يشار إلى أن هذا التدخل من المجلس جاء كذلك للتفاعل مع مقتل 33 شخصاً في 3 مناطق حكومية محلية بولاية كاتسينا، منهم 11 قتلوا من طرف من يطلق عليهم «قطاع الطرق» المسلحون. ورغم أن جهود المؤسسات الرسمية، تعزز ببعض جهود المؤسسات المدنية مثل منتدى أريوا الاستشاري وغيرها، فإن معالجة حالة انعدام الأمن المتزايدة في البلاد، تبدو بعيدة المنال، خصوصاً أن الدولة والجيش عاجزان عن فرض السيطرة على كل المناطق الشمالية بنيجيريا.
ولذلك تتجه الدولة لجهود الوساطة، ووجهاء القبائل، والرموز الدينية، ومن ذلك ما يشير إليه، تعهد الزعيم الديني الكبير للهوسا سلطان سوكوتو بحشد الحكام التقليديين الشماليين لدعم الشرطة في مكافحة اللصوصية المسلحة، وغيرها من الجرائم في البلاد.
على الجانب المالي، اتخذت الدولة المالية، منذ اليوم التالي للهجوم الوحشي على قبيلة الفولاني يوم 23 مارس 2019، إجراءات بعضها ذات طابع سياسي وبعضها عملي؛ فقد أقال الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا في اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء، بعض الوزراء و8 مسؤولين كبار؛ بدءاً من رئيس الأركان العامة، قبل أن يزور قرية أوغوساغو التي تعرضت للإبادة من جماعة «الصيادين الموقنين بالله».
من جهتها، أصدرت الحكومة المالية قراراً يتم بموجبه حل جماعة «الصيادين». وأوضح رئيس الوزراء المالي، سميلو بوبايي ماغا، أن قرار الحل هذا الغرض منه «التوضيح للجميع أن حماية السكان ستظل حكراً على الدولة».
غير أن قرار الحل هذا فهم منه أن هناك علاقة عضوية بين الجيش المالي وجماعة «الصيادين»، حيث سبق للفولاني أن اتهمت الجيش بالتواطؤ مع الجماعات المسلحة المهاجمة لها في عدة مواقع.
ويستند زعم الفولاني هذا على سماح السلطات والجيش لميليشيا «الصيادين الموقنين بالله» باستعمال الدراجات النارية رغم أنها محظورة بالمنطقة بقرار رسمي. كما أن الأمم المتحدة أشارت سنة 2018، إلى أن ميليشيا قبيلة الدوجون، تستخدم بشكل منتظم الأسلحة نفسها والذخيرة المستعملة من طرف الجيش المالي.
ويبدو أنه من الصعب إقناع جزء من الجيش المالي وقبائل الدوجون بأن الفولاني ليست عرقية وجماعة إرهابية، وذلك ما يضعف فرص السلام بين الجانبين، ويقضي على الاتفاق المبرم بين الطرفين بوساطة الحكومة المالية سبتمبر (أيلول) سنة 2018.
ويمكن القول، استناداً على الخبرة التاريخية، إن هناك علاقات جدلية بين الإرهاب والعنف الديني بنيجيريا ومالي، وأن كلاً منهما ينعش الآخر. كما أن ضعف الدولة زاد من قدرة التنظيمات الإرهابية على التلاعب بالنسيج القبلي والعرقي وتناقضاته؛ الشيء الذي يرهق الدولة ويخلق فراغاً أمنياً ومؤسساتياً واسعاً. ومن هنا تعمل التنظيمات الإرهابية على استغلال الوضع والدفع بالعرف المحلي والفكر الديني المتشدد للواجهة.
مالي تسابق الزمن
وفي إطار تكملة الإجراءات المصاحبة لمواجهة العنف والإرهاب بالساحل، ترأس الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا يوم 8 أبريل، في باماكو، دورة طارئة للمجلس الأعلى للدفاع الوطني، الذي يضم الوزير الأول وزير الدفاع والمحاربين القدماء ووزير الأمن والحماية المدنية والمسؤولين السامين للجيش. وقد خصصت الدورة الطارئة لدراسة دور العدالة في تثبيت الاستقرار في كل من ولايتي موبتي وسيغو، وتقييم تنفيذ خطة التأمين المندمجة لمناطق الوسط، وعملية «دامبي» التي وضعت سنة 2018 وتتكون من 4 محاور: هي الأمن والحكامة والتنمية الاجتماعية – الاقتصادية والتواصل. وتهم الخطة المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة وعمليات إرهابية، بقصد القضاء عليها خصوصاً في ولايات موبتي في الوسط وبعض مناطق شمال سيغو، وتومبوكتو وغاو في الشمال وكيدال في أقصى الشمال، وكوليكورو في الشمال الغربي.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية – جامعة محمد الخامس.
نقلا عن: الشرق الأوسط