ربما كانت نشأتها استجابة لحاجة طائفة دينية مسيحية إلى دار للعبادة، لكنها بمرور الزمن صارت أكبر من مجرد كنيسة، وأهم من أن توصف بالتحفة المعمارية، وأوسع زخما من ضيق الطائفية. فهي شاهدة على جزء كبير من تاريخ الإنسانية، ومرآة انعكس على واجهتها الكثير من أحداثه وفجائعه، ومٌلهمة لعباقرة الفنون على مرور الزمن، وقد انعكست تلك الأهمية البالغة في ردود الأفعال العالمية إزاء الحريق الذي تعرضت له الكنيسة بأبراجها التاريخية وما ألحقه بها من أضرار.
سيدة باريس
هي واحدة من أكثر الرموز الحضارية والثفافية المعترف بها على نطاق واسع لمدينة باريس والأمَّة الفرنسية، وتقع كاتدرائية نوتردام باريس (سيدة باريس) في الجانب الشرقي من جزيرة المدينة على نهر السين و في قلب باريس التاريخية، وتعتبر واحدة من أفضل الأمثلة على فن العمارة القوطية الفرنسية، وتتميز عن الطراز الروماني القديم باستخدامها المبتكر للقبو في الأضلاع والدعامة الطائرة، ونوافذها الوردية الهائلة والملونة، والواقعيَّة ووفرة زخارفها النحتية.
وتقوم في مكان بناء أول كنيسة مسيحية في باريس، وهي «بازيليك القديس استيفان» والتي بنيت على أنقاض معبد جوبيتير الغالو-روماني، كانت النسخة الأولى من نوتردام كنيسة بديعة بناها الملك شيلدبرت الأول ملك فرنسا عام 528م، وأصبحت كاتدرائية مدينة باريس في القرن العاشر بشكلها القوطي.
وترتفع قبة الكنيسة إلى 33 متراً، أما عن زمن نشأتها ففي عام 1160م بدأت أعمال إنشائها تحت قيادة الأسقف موريس دي سولي واستغرقت أعمال التشييد بها وزخرفتها نحو مائة عام تالية، إلا أن العديد من التطويرات والإضافات المعمارية ألحقت بها على مدار القرون التالية.
أحدب نوتردام
ازدهر الإهتمام الشعبي بالكاتدرائية بعد وقت قصير من نشر رواية فيكتور هوجو الشهيرة «أحدب نوتردام» في عام 1831، والتي تدور قصتها حول شخصية (قارع الأجراس) الأحدب الذي ظل قابعا خلف جدران الكاتدرائية، منعزلا عن العالم عاجزا عن أى اتصال خارجي، كرمز لعاهة تبعده عن العالم، وكاتهام لمجتمع يعزل العاهة ويخفيها ويحتقر الضعيف وينهش المحرومين.
وقع الأحدب في حب شابة جميلة محاولا التضحية بحياته عده مرات من أجلها، وبدا أنه حب رجل لامرأة وارتفع الكاتب بمستواه بالقدرة على التصوير، لكن الواقع أن الأحدب بعاهته والنكران والقمع الذين عانى منهما، وقع في حب دفء الجمال الإنسانى المحروم منه (والموجود أيضا بأعماقه الداخلية)، جمال ظهر أمامه في صورة امرأة عطفت عليه ولم تسخر من عاهته أو تشويه جسده، وليس مجرد حب رجل لامرأة.
كان هدف تضحياته من أجلها إبقاء هذا الجمال الإنسانى في الحياة فلا يحرم الوجود منه، لقد أدرك بعظمه (وهو الأحدب) أن فناء جسده القبيح يعنى استمرارية أعماقه الإنسانية الجميلة بالبقاء.
وقد انعكست الشهرة الواسعة التي حققتها الرواية، والاهتمام الشعبي بكاتدرائية نوتردام التي شكلت مسرح أحداثها في توجيه الملك لوي فيليب بمشروع ترميم كبير للكاتدرائية التاريخية بدءا من عام 1844 وحتى عام 1864، وهي الفترة التي أضيفت فيها أبراج الكاتدرائية الشهيرة، والتي سقط بعضها نتيجة احداث الحريق الأخيرة.
شاهدة على التاريخ
كانت كنيسة نوتردام شاهدة على العديد من الأحداث التاريخية، ففى العام 1185 كانت الدعوة إلى الحملة الصليبية الثالثة من خلال الكاتدرائية، وفى 16 ديسمبر 1431 توج هنرى السادس ملك إنجلترا ملكا على فرنسا، ولقرون كان يتم تتويج ملوك فرنسا في الكاتدرائيَّة.
وفي خضم الحروب الدينية التي شهدتها فرنسا في القرن الـ 16، ووسط التوترات بين الكاثوليكيين والبروتستانت، تعرضت بعض تماثيل الكنيسة للإتلاف على أيدي البروتستانت، الذين عرفوا باسم الهوغونوتيون الذين اعتبروا تلك التماثيل أصناما تعبد وتستحق التدمير.
كما كانت كاتدرائية نوتردام شاهدة على أحداث الثورة الفرنسية التي كانت بمثابة بوابة ولوج الإنسانية لمرحلة جديدة من التاريخ حيث تعرضت للتدنيس، وأتلفت ودمرت الكثير من لوحاتها الدينية، وفي في عام 1804، كانت الكاتدرائية الموقع الذي شهد تتويج نابليون بونابرت كإمبراطور فرنسا، وشهدت معمودية هنري كونت تشامبورد في عام 1821، وجنازات العديد من رؤساء الجمهورية الفرنسية الثالثة، ومع أحداث الحرب العالمية الثانية، تعرضت الكاتدرائية لأضرار إبان عملية تحرير باريس من أيدي النازيين، وأقيم في كاتدرائية نوتردام قداس خاص في ثاني أيام تحرير العاصمة بحضور الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول. وبداية ً من عام 1963، تم تنظيف واجهة الكاتدرائية وإعادتها إلى لونها الأصلي. وتم تنفيذ مشروع تنظيف وترميم آخر بين عام 1991 وعام 2000 لتصبح واحدة من أهم معالم ومزارات باريس التاريخية حيث يصل عدد زوارها سنويا لنحو 12 مليون زائر.
أساطير وحكايات
منذ بناء الكاتدرائية خلق التراث الشعبي الفرنسي حولها العديد من الأساطير الدينية، ففى أثناء عملية البناء الهائلة كان هناك صانع أقفال اسمه «ديسكورنيه»، وقد أنجز الرجل مهمته فى ليلة واحدة وصنع أقفالا غريبة وجميلة لكل أبواب الكنيسة، ما أثار الأقاويل حول استعانته بالسحر والشياطين فى تنفيذ ذلك، خاصة أنهم عثروا على «ديسكورنيه» بعد يوم من إنجاز عمله ميتاً فى سريره بعد تشنجات رهيبة، معتقدين أن الشيطان قد سلب روحه منه مقابل مساعدته فى إبداع الأقفال.
بالإضافة إلى ما أثير من تساؤلات وأساطير حول التماثيل والمنحوتات الغريبة التي لها ذيل كذيل الأفعى، ولا علاقة لها بشخصيات الكتاب المقدس، كما توجد على جدران الكنيسة تماثيل لوحوش خرافية على جدرانها يقال إنها تستيقظ ليلاً.
كما تحتوي الكنيسة التي أدرجت منذ 1991 ضمن لائحة التراث العالمي، على مئات من اللوحات الفنية والقطع الأثرية النادرة، وهو ما جعل منها إرث فني مميز يتخطى بها فكرة الكنيسة كموقع للعبادة.