منوعات

سليم النقاش.. اللبناني الذي أطلق «تياترو مصر» من «زيزينيا»

في عام 1875، قَدم إلى مصر الأديب والمسرحي والصحفي سليم خليل النقاش، ابن شقيق رائد المسرح العربي مارون النقاش. شاهد الزائر الشامي عرضا لأوبرا «عايدة» باللغة الإيطالية، ولاحظ اهتمام الخديوي إسماعيل بها، فعرض عليه تعريبها، وتعديل بعض خصائصها، لتحويلها إلى مسرحية بدلاً من كونها أوبرا، على أن تقدمها فرقته على مسارح مصر. عاد سليم النقاش إلى لبنان، وعرّب أوبرا عايدة ونشرها في المطبعة السورية ببيروت في ذات العام، وأهداها إلى الخديوي، فوافق إسماعيل وسمح لفرقة النقاش بالقدوم إلى مصر لتقديم عروض مسرحية باللغة العربية لأول مرة.

Related image

كان النقاش قد كتب مسرحية «مي» عام 1868، لكنها ظلت مخطوطة حتى نشر طبعتها الأولى عام 1875 في المطبعة الكلية ببيروت بعد عودته من مصر، وكتب لها مقدمة أسهب فيها في مديح مظاهر التمدن والحضارة التي وصلت إليها مصر في ظل حكم الخديوي إسماعيل واعتبر أنها مقصد لكل باحث عن المجد.

كتب النقاش في مقدمته: «لما كانت ديار مصر مستوية على عرش التقدم بين الأمصار، كأنها ملكة تتقاطر لخدمتها الأقطار، جارة ذيول الفخر في العلم والتفنن، وساحبة مطارف النجاح في التمدن، اتخذت مع الملتجئين إلى بابها نعم سبيل، وأملت من نداها إرواء الغليل، واهتدت بسنا الأفضال والإجلال، إلى باب يخفق فوقه لواء المجد والإقبال، وهو الباب المشيد الأركان المقصود من كل قاص ودان، من باب لا يخيب طالبه».

 كما كال النقاش في مقدمة مسرحيته عبارات المديح والثناء على الخديوي إسماعيل، ووصل به الأمر إلى اعتبار الخديوي أكثر شهرة من الأسكندر الأكبر، «ولي النعمة والإحسان، من لا يحصر فضله إنسان ويكل في مدحه كل لسان من ساد السود والبيض بالسمر والبيض، وقصرت عن شهرته شهرة قيصر وخفى لظهور مجده ذكر الإسكندر». وأشار النقاش إلى إن الخديوي إسماعيل سمح له بتكوين فرقة مسرحية عربية تعرض عروضها في مصر، «أخدم بعظمته بإدخال فن الروايات في اللغة العربية إلى الأقطار المصرية وهو الفن الذي أصبح في أوربا مدرسة الهيئة الاجتماعية، فأنعم علي بالقبول وجاد بالسؤال وهو خير مجيب ومسئول، فبادرت بطبع هذه الرواية التي هي من النوع المعروفة بالتراجيدية ودعوتها برواية مي وقد كنت ألفتها في بيروت من ثماني سنوات».

الخديوي توفيق

كان من المقرر أن تصل فرقة النقاش عام 1875، وبالفعل وصلت أزياء الفرقة وأدواتها قبل الممثلين، إلا أن تفشي وباء الكوليرا في مصر أَجل وصول أعضاء الفرقة، فاستغل النقاش فترة التأخير في تدريب الممثلين على المسرحيات المقرر عرضها واختار عددا من مسرحيات عمه مارون النقاش ودرب فرقته عليها.

وأخيرا وبعد طول انتظار وصلت فرقة النقاش إلى مصر في الأول ديسمبر عام1876، ونقلت صحيفة «الأهرام» التي كانت تتخذ من الإسكندرية مقرا لها نبأ وصول الممثلين والممثلات، ورحبت بوصول الدراما العربية إلى مصر.

وقالت «الأهرام»: غني عن القول أن عرض المسرحيات كان أحد الوسائل الأولية لدمج المجتمع وتقوية بنائه، وعلاوة على ذلك فإن كل البلاد المتحضرة تعطي هذا الأمر اهتماما بالغا وتشجع الوسائل للوصول بالمسرح إلى الكمال، ولذا، فإن من دواعي سرورنا أن نرى بعض شبابنا العربي قد أصبحوا مرتبطين بهذا المجال، وانغمسوا فيه وأرسوا كل جوانبه، وفهموه من خلال مثابرتهم، وقد أتقنوا بمجهودهم الذكي وعادوا إلينا في مصر وقد اكتسبوا خبرة.

ووصفت «الأهرام» سليم النقاش بأنه ألمع هؤلاء الشباب وأذكاهم «الذي تعلم هذا الفن من عمه المرحوم مارون النقاش، وبعد أن أخذ عنه هذا الفن فقد بذل قصارى جهده في أن يراجع دراسته وأن يكشف أسراره بعد دراسته في كتب الخبراء، وسرعان ما أثبت المعرفة التي اكتسبها من خلال تقديم العديد من المسرحيات في مدينة بيروت وأماكن أخرى وقد أكد مهارته وصواب حكمته كل العارفين بفنه».

وقدمت جريدة «مونيتور إيجبسيا» تفاصيل عن الفرقة المسرحية وأعضائها وقالت: «تتألف الفرقة من اثنى عشر ممثلا وأربع ممثلات، وستقوم بعرض بعض المسرحيات باللغة العربية على مسرح زيزنيا ،وقد أراد مدير هذه الفرقة أن يواصل ما بدأه عمه مارون النقاش الشهير، وكان متأثرا بعمل عمه وقد اختار ممثلين جددا وبعض الممثلات ،وهي مهمة صعبة في الشام، وبعد عامين أو ثلاثة أعوام من التدريبات الشاقة استطاع أن يحقق هذه النتيجة المرضية».

تياترو زيزينيا

ويشرح الكاتب البريطاني فيليب سادجروف الصعوبات التي سيواجهها النقاش لإقناع مصريات بالانضمام إلى فرقته كممثلات، ويقول في كتابه «المسرح المصري في القرن التاسع عشر»: مهما كانت الصعوبات التي واجهها النقاش ليجد ممثلاته الأربع في بيروت فمن الأرجح أن الأمر كان أكثر صعوبة في مصر، فأهلها لايزالون ينظرون إلى مهنة التمثيل بازدراء.

«كان المسلمون المحافظون على دينهم بكل صلابة لا يقبل ضميرهم ولا معتقداتهم بدخول المسارح الأوربية في القاهرة والإسكندرية، حيث يرون الرجال يختلطون بالنساء السافرات رأي العين بدون تمييز، فبالنسبة لمعظم المصريين كان من المشين لنسائهم أن يشتركن في الفرقة»، يضيف سادجروف في الكتاب الذي ترجمه عمرو زكريا عبدالله.

قدمت فرقة النقاش التي عُرفت باسم «التياترو العربي» عرضها الأول «ابو الحسن المغفل» على خشبة مسرح زيزينيا يوم السبت الموافق 23 ديسمبر، واستحسن الجمهور الذي ازدحمت به القاعة المسرحية، وأشادت الصحافة بأداء الممثلين، وبالكلمة التي افتتح بها سليم العرض والتي تضمنت إشادة بالخديوي إسماعيل الذي دعم الفرقة وفن المسرح بشكل عام.

وتوالت عروض فرقة «التياترو العربي» المسرحية، فقدمت «هارون الرشيد» و«مي» و«عايدة» و«السليط والحسود»، كما قدمت عروضا كان قد عرّبها أديب إسحق صديق النقاش ،ومنها مسرحية جان راسين «أندروماك» و«فيدار» و«شارلمان ملك فرنسا»، واختتمت الفرقة الموسم على مسرح زيزينا بتقديم عرض «الظلوم وعلي».

وذكر سادجروف بعض أسماء فرقة النقاش ومنهم صديقه الأديب السوري أديب إسحق ويوسف الخياط وسليمان القرداحي، فضلا عن الممثلات «باربرا»، «مريم»، «هند»، و«لبنى».

ولأن تجربة العروض المسرحية الاحترافية كانت جديدة على مصر، فقد سلّطت الصحافة الأوربية الضوء على الفرقة وعروضها، ونشرت جريدة «لا فينانسا» الإيطالية أول تقييم نقدي للفرقة جاء فيه: «أدى (الممثلون)الرجال بما يكفي من الطبيعة واللامبالاة، لكن لا يمكن للمرء أن يقول نفس الشئ عن النساء اللاتي كن تنقصهن المرونة في حركاتهن ربما لأنهن مازلن مبتدئات وتحت التدريب».

سليم خليل النقاش

وسليم النقاش هو ابن شقيق نقولا ومارون النقاش رائدىْ المسرح العربي، ولد في لبنان، ودرس في بيروت الفرنسية والإيطالية، وكان أول عمل له في مصلحة الرسوم الجمركية في بيروت، وكانت له اسهاماته في الصحافة اللبنانية، وعمل مبكرا على تأسيس فرقة مسرحية بمعاونة صديقة أديب إسحق الأديب والمترجم والصحفي السوري الذي عاش في لبنان وشارك النقاش في تحرير جريدة «التقدم».

ويقول الدكتور هشام زين الدين أستاذ الفنون المسرحية في الجامعة اللبنانية في دراسة عن هجرة رواد المسرح اللبناني إلى مصر، إن سليم هو التلميذ الثاني لعمه مارون، وقد أسس فرقته المسرحية عام 1860 في بيروت، ليسير على خطى عميه نقولا ومارون النقاش، وقد كان واسع الاطلاع على المراجع الأجنبية في الأدب والمسرح والفلسفة.

وينقل زين الدين مقالا نشره سليم النقاش في مجلة «الجنان» البيروتية سنة 1875 تحت عنوان «فوائد الروايات والتياترات» جاء فيه: لمّا رأيت الكثيرين يريدون خوض هذا الفن، هرعت إليه وكان فيه فضلة فارتشفتها، فقد ثبت ممّا تقدم أن هيئة الاجتماع من أهم أسباب تقدّم الانسان، وقد عُرف ذلك من قبلنا الأوروبيون، فأوجدوا وسائط لتحسينها عندهم، منها قاعات التشخيص المعروفة بالتياترو.

Image result for ‫الدكتور هشام زين الدين‬‎

الدكتور هشام زين الدين

ووصف النقاش المسرح بـ«المرآة»، وقال: «يظهر للإنسان تمثال نفسه، فيرى عيوبه ونقائصه فيتجنبها، إذا كان ممّن يهتدون عن غيّهم».

وعن أسباب رحيله عن لبنان وتوجهه إلى مصر قال النقاش: «ولمّا كانت وسائط بلادنا المادية قاصرة عن إنجاح مطلبي، طمحت أفكاري إلى معالجة مقصدي في غيرها، وإذ كنت أسمع بما نال مصر من رفعة الشأن بين الأمصار، إذ فاقت ما سواها من الأقطار الشرقية في التهذيب والتمدّن، ونجحت نجاحاً عظيماً في المعارف والعلوم، قصدتها، ولمّا تعرفت ببعض أعيان مصر الكرام، بسطت إليهم أمري وأطلعتهم على ما بسرّي، فأوعزوا إلي أن ألتجئ إلى المراحم السنية الخديوية، فهي ملجأ الراجي ومنية الراغب ومأمول الطالب، ففعلت، وهكذا بلغت فوق ما تمنيت من أفضال جنابه العالي، وأحسن إلي بقبول طلبي، وذلك بأن أدخل من الروايات باللغة العربية إلى الأقطار المصرية، فعدت إذ ذاك لأجهز في بيروت جماعة للتشخيص، وألفت بعض روايات، وبعد جمع الجماعة باشرت دراسة الروايات فأتقن أكثرها، وعما قليل يتم اتقانها كلّها، فأسير بالجماعة لأجري هذه الخدمة بالديار المذكورة».

بعد فترة، دفعت الميول السياسية والصحفية لأديب إسحق صديق النقاش إلى هجر المسرح والانتقال إلى القاهرة والتعرف على الشيخ جمال الدين الأفغاني وأعضاء حلقته بقهوة متاتيا، ثم ما لبث أن  جرّ خلفه صديقه سليم، بعد أن سلما الفرقة المسرحية إلى صديقهما يوسف الخياط.

أصدر الثنائي «أديب والنقاش» جريدة «مصر» في القاهرة ثم نقلاها إلى الإسكندرية بناء على نصيحة صديقهما الجديد الأفغاني، ثم أصدرا جريدة «التجارة» اليومية، وبعد أن اشتبكت الجريدتان مع الأوضاع السياسية والاقتصادية المزرية التي مرت على مصر بسبب الديون والتدخل الأجنبي، صدر قرار حكومي بإغلاقهما، ثم طلب من أديب إسحق الرحيل من مصر، بينما حصل النقاش على ترخيص جريدة «المحروسة»، ثم أصدر جريدة «العصر الجديد».

Image result for ‫أديب اسحق‬‎

أديب إسحق

  وقد حصل النقاش بصفته الصحفية على محاضر التحقيق مع الزعيم أحمد عرابي ورفاقه بعد هزيمة ثورتهم، وضّمن أوراق ووثائق التحقيق في كتاب «مصر للمصريين» أو «حوادث الفتنة العرابية»، والذي احتوى أيضا على شهادات الشهود، ومحاضر استجواب طلبة باشا، أحد الزعماء السبعة الكبار في الثورة العرابية، ونتائج لجنة التحقيق، وقد نشر الكتاب في تسعة أجزاء ،فقد منها الثلاثة الأولى وطبعت الأجزاء من الرابع إلى التاسع.

بعض الشهادات التي وردت في تلك المحاضر طعنت في وطنية الزعيم أحمد عرابي، وكالت له ولحركته الاتهامات واعتبرت أنه كان يبحث عن مجد شخصي، وأنه تحرك ضد الخديوي بدافع الانتقام لأنه منع عنه ترقيات كان يستحقها، ووصل الأمر إلى اتهامه بالتسبب في الاحتلال الإنجليزي لمصر.

وقد وصف أحمد عرابي ما كتبه عنه النقاش في كتابه بأنه افتراء الزمه به «المتبجحون والكذّابون» من حاشية السلطان، «ما كان منه إلا أن خلط مفترياتهم وبهتانهم بحقائق كتابه على غير إرادة منه، فجاء كتابا مشوها فيه الغث والثمين والصدق والكذب، ولكن الحق ظاهر وله أعلام، والباطل بيّن وله أعلام».

Image result for ‫أحمد عرابي‬‎

أحمد عرابي

ويضيف عرابي، متحدثا عن كتاب النقاش، في مذكراته التي كتبها بعد عودته من منفاه في سيلان ولم تنشر إلا بعدها بعقود طويلة،: «يستطيع كل عاقل منصف أن يفهم من عبارته الحقائق ولا يعبأ بما يجده فيها من الأكاذيب والأباطيل، فإنها ما وضعت إلا إرضاء لذوي النفوذ من خصومي، حلفاء الظلم والجور ونصراء الاستبداد والاستعباد، وهو أقرب التواريخ لمعرفة حقائق النهضة القومية المصرية، وأقرب منه وأصح رواية تاريخ المستر ولفرد بلنتت الذي ظهر حديثه باللغة الإنجليزية ،وكذلك المستر برودلي المحامي عنا في سنة 1882 م الذي ألفه مدة وجوده في القاهرة، وهي ثلاثة أشهر لغاية انتهاء المحاكمة».

كان عرابي قد تعرف على سليم النقاش وصديقه أديب إسحق في إحدى حلقات الأفغاني بقهوة متاتيا وتوطدت علاقته بهما مع الوقت بسبب إعجابه الشديد بجريدة «مصر»، والتي كان يرى إنها تعبر عن روح مصر الحقيقية في ذلك الوقت «تجلت فيها روح المجتمعين والمتحلقين حول جمال الدين الأفغاني الوطنية والحماسية».

ترك النقاش مصر لفترة قصيرة عاش خلالها في بيروت، ثم عاد ليجدد إصدار جريدة «المحروسة» عام 1884 وبعد شهور من صدورها الجديد، يشاء القدر أن يتوفى في ذات العام تاركا رصيدا كبيرا في الرواية والمسرح والأدب والصحافة.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker