يستأثر الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة باهتمام الرحالة العرب والمسلمين والغربيين، وتحظى مكة المكرمة بعناية خاصة في التأليف، فكتب المئات من علماء المسلمين وغيرهم مؤلفات عن تاريخها وجغرافيتها ومجتمعها، وغير ذلك من الجوانب.
تصدى الكثيرون للكتابة عن شهر رمضان من زوايا متعددة، وكتب بعضهم عن رؤية الرحالة للعادات والتقاليد والقيم في البلدان الإسلامية التي زاروها، ولهذا سيتناول هذا المقال ما رصده الرحالة من مظاهر لهذا الشهر الكريم المبارك في الحرمين الشريفين، مكة المكرمة والمدينة المنورة، فقد دون الرحالة الغربيون الذين قصدوا الجزيرة العربية ما شاهدوه من احتفالات تقام خاصة في استقبال الأشهر العربية، ورسموا في رحلاتهم صورة ناطقة حيّة عن احتفالات المسلمين بشهر رمضان المبارك، ووصفوا حياة الناس خلال الشهر الكريم بكل صدق وأمانة، في كلٍ من مكة المكرمة والمدينة المنورة، فعلى رغم ما فرضه العثمانيون على المدن المقدسة من حراسة مشددة، فإن ذلك لم يمنع العديد من الرحالين الأوروبيين من دخول تلك المدن متنكرين، بل تأدية مناسك الحج تحت غطاء إسلامي، أو على الأقل تظاهرهم باعتناق الإسلام. وبفضل أولئك الرحالة والمغامرين توافرت المعلومات الخاصة بشعائر الحج، كما توافرت أيضًا المعلومات عن الحياة في المجتمعات، وقد عبرّ هؤلاء الرحالة، من حين لآخر، عن تعاطفهم مع أولئك العرب المسلمين البسطاء، الذين يُعانون محنة صيام شهر رمضان في شهور الصيف الحارة.
ابن جبير 579هـ/ 1184م
يصف ابن جبير مشاهداته في مكة المكرمة طيلة إقامته فيها، ويذكر أنه قام بأداء عمرة شهر رجب، واصفًا زحام المعتمرين، وأن أهل مكة يحتفلون بها. كما حضر ليلة النصف من شعبان، ووصف إحيائها بالصلاة بالمسجد الحرام، والعمرة والطواف. كما سجل مشاهدات ليلة دخول رمضان، وأنه بمجرد دخوله يقع الإيذان بالصوم بضرب الدباب والطبول، ويتم تجديد الحصر الموجودة بالمسجد الحرام، والإكثار من إشعال الشموع والقناديل حتى تلألأ المسجد الحرام وسطع ضياءً، ويتولى المؤذن الزمزمي التسحير، فيقوم في وقت السحور داعيًا ومذكرًا ومحرضًا على السحور، ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه. ويذكر اجتهاد أهل مكة في قيامه، وأن القرآن يختم في كل ليلة وتر من الليالي العشر الأواخر من قبل أحد أبناء مكة، ويقام احتفال بديع بذلك من قبل والد الصبي. ويصف ليلة ختم القرآن ليلة السابع وعشرين من رمضان بأنها ليست كسائر الليالي بقوله “وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلية سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم، وتجاه البيت العظيم وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم”. ويصف ليلة عيد الفطر المبارك بأنها من الليالي الحفيلة في المسجد الحرام، حيث جرت العادة على إيقاد مشاعله وثرياته وشموعه. وأوقدت الصوامع من الأربع جهات من المسجد الحرام، وسطح المسجد الحرام، وقضى المؤذن ليلته على سطح قبة زمزم مكبرًا ومهللًا وحامدًا، والناس كلهم على هذه الحال من طواف وصلاة وتكبير وتهليل، وصبيحة يوم العيد لبس الناس ثيابهم، وأدوا صلاة العيد في المسجد الحرام، ثم أقبل بعضهم إلى بعض بالمصافحة والتسليم، ثم خرجوا لزيارة قبور الصحابة والتابعين (أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير: رحلة ابن جبير، (بيروت: دار صادر، د. ت.)، ص 114، 115، 127-133؛ حسان حلاق: مكة المكرمة من خلال رحلتي ابن جبير وابن بطوطة، (بيروت: دار النهضة العربية، 1996)، ص 163-166).
ابن جبير
لودفيكو دي فارتيما
يتقاطر منذ بداية القرن السادس عشر المغامرون الدهاة الواسعو الحيلة، والتواقون لكشف سر وجود مكة المكرمة والمدينة المنورة، هاتان المدينتان المغلفتان بالأسرار، بشوق للتعرف عليهما خاصة، وعلى شبه جزيرة العرب عامة، وتتعدد دوافعهم وأهدافهم، فبعضهم أتى للحج كمسلم، وبعضهم الآخر أتى وهو يبطن دحض الإسلام، وآخرون جاؤوا كسائحين بهدف البحث العلمي. وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1503 يُغادر مدينة البندقية الإيطالية شاب صرّح أنه ينوي أن يكون أول رجل مسيحي يتجه إلى مكة المسلمة، هذا الشاب يُدعى لودفيكو دي فارتيما Lodvica Di Var Thema، أو الحاج يونس المصري، والذي يُعد أول حاج أوروبي، وأول مغامر إيطالي يؤدي فريضة الحج، ويسافر إلى الحرمين الشريفين برًا من دمشق، ويصف مشاهداته في الطريق، ووصوله إلى المدينة المنورة، والمسجد النبوي، والمسجد الحرام، والكعبة المشرفة، وماء زمزم بمكة المكرمة، وعلى رغم ذلك لم يعطنا وصفًا دقيقًا للمدينتين المقدستين. ومما يدعو إلى الدهشة ما يذكره من أنه رأى في جانب من جوانب الحرم اثنين من حيوان وحيد القرن لا يؤذيان أحد، ولم يذكر شيئًا عن شهر رمضان لأنه زار مكة في غير الشهر الفضيل، كما يبدو أنه لم يهتم بإيراد ما سمعه من الرواة عن عادات وتقاليد المكيين فيه (دي فارتيما: رحلات فارتيما (الحاج يونس المصري)، عبد الرحمن عبد الله الشيخ (ترجمة)، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994)، ص 58، 59؛ عبد العزيز عبد الغني إبراهيم: روايات غربية عن رحلات في شبه الجزيرة العربية، الجزء الأول 1500-1840، (بيروت: دار الساقي، 2013)، ص 78-84.
جوزيف بتس
يزور مكة المكرمة كأول رحالة إنجليزي، وثاني أوروبي في التاريخ الحديث، الرحالة جوزيف بتس Joseph Pitts، أو الحاج يوسف، وذلك في عام 1680؛ حيث زار مكة المكرمة كعبد مملوك يرافق سيده التونسي، فيصف الحجاج والمتصوفين منهم، والطقوس الدينية، ويصف الكعبة المشرفة، والحجر الأسود، ويصف المدينة المنورة، والمسجد النبوي، وينكر بعض الخرافات المتعلقة بقبر النبي صلي الله عليه وسلم، حيث كان يشيع في أوروبا أنه معلق في الهواء. وكانت جائزة رحلته تحرره من العبودية؛ بسبب أدائه فريضة الحج. وعندئذ يقرر الرجوع إلى إنكلترا، وينشر عام 1704 قصة رحلته إلى بلاد العرب. ويذكر أن المكيين “في شهر رمضان يفطرون بماء زمزم، ويقولون إنه حلو كالحليب…، وفي شهر رمضان يتم ملء مئات من أباريق المسجد الحرام بماء زمزم وتوضع أمام الناس ومعها أكواب قبيل أذان المغرب، وبمجرد أن يؤذن المؤذن من فوق المئذنة يشربون من هذا الماء بنهم قبل أداء الصلاة” (جوزيف بيتس: رحلة جوزيف بيتس (الحاج يوسف) إلى مصر ومكة المكرمة والمدينة المنورة، عبد الرحمن عبد الله الشيخ (ترجمة)،القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995)، ص 57؛ عرفة عبده علي: “جوزيف بيتس أول بريطاني يزور مكة المكرمة”، مجلة العربي، العدد 544، (يناير 2005)، ص 128-130).
جوزيف بتس
يذكر جوزيف بتس Joseph Pitts مزيدًا من التفاصيل في وصف المسجد الحرام والطواف بالكعبة، وعن مقام إبراهيم وبئر زمزم فيقول: “وعلى بعد حوالي اثنتي عشرة خطوة من الكعبة، يوجد مقام إبراهيم الذي بنى الكعبة- كما يقولون- بأمر من الله، ويحيط بهذا المقام شبكة حديدية وهي مغطاة بكسوة مزركشة جميلة، ويرنو الناس إلى هذا المقام بحب. وعلى مسافة قصيرة منه تجاه اليد اليسرى توجد بئر زمزم ويعتبرون ماءها مقدساً، ويقدرونه تقديراً فائقاً. كما يقدس الكاثوليك ماءهم، وفي شهر رمضان يفطرون به ويقولون إنه حلو كالحليب، أما بالنسبة لي، فلم أر أنه يختلف عن أي ماء آخر إلا أنه يميل إلى الملوحة شيئاً ما. ويشرب منه الحجاج بكميات هائلة عند وصولهم إلى مكة أول مرة ليس فقط ليطهروا أنفسهم، وإنما لتنفض أجسامهم كل الخطايا وليخلصوا أرواحهم من كل الآثام. وفي شهر رمضان، يتم ملء مئات من أباريق المسجد الحرام بماء زمزم، وتوضع أمام الناس- ومعها أكواب- قبيل أذان المغرب، وفور أن يؤذن المؤذن من فوق المئذنة- يشربون من هذا الماء بنهم قبل أداء الصلاة. وتوجد بئر زمزم وسط غرفة من الغرف الصغيرة القائمة إزاء كل جانب من جوانب الكعبة، وتبعد عنها حوالي اثنتي عشرة خطوة أو أربع عشرة خطوة، ويقف عند البئر أربعة رجال لسحب الماء منها دون مقابل، ويستخدم كل رجل من هؤلاء قربتين من جلد مربوطتين بحبل إلى عجلة صغيرة، وبينما تدور العجلة ترتفع قربة مملوءة وتهبط قربة فارغة لتملأ من جديد. والمسلمون لا يشربون من هذا الماء فقط بل إنهم- أحياناً- يستحمون به بعد أن يخلع الواحد منهم ملابسه ما عدا قطعة قماش رقيقة يغطي بها نصفه الأسفل، ويقوم ساحبو الماء بإفراغ خمسة أوان (جرادل) أو ستة فوق رأسه، ويجوز من الناحية الشرعية أن يغسل المرء نصفه العلوي بماء زمزم، ولا يجوز غسل نصفه السفلي به، فهذا لا يليق، فبعد غسل النصف العلوي يترك الماء ليتخذ سبيله إلى الأرض لا إلى موضع العورة (لم يرد في السنة ما يمنع استخدام ماء زمزم في أي غرض، وهذا لا ينفي قداسته أو مكانته الخاصة لدى المسلمين، فماء زمزم (لما شرب له) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) (جوزيف بتس: رحلة جوزيف بتس إلى مصر ومكة المكرمة والمدينة المنورة، عبد الرحمن عبد الله الشيخ (ترجمة)، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الألف كتاب الثاني، 1995)، ص 57، 58).
جون لويس بوركهارت
يدخل الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت John Lewis Burkhardt، أو الحاج إبراهيم، مكة المكرمة في 8 سبتمبر 1814، فيحب أهلها الذين يجدهم لماحين ودودين ومضيافين، ويشيد بذكائهم وشجاعتهم وكرم ضيافتهم، ويضطر لأن يبقى شهرًا في مكة بسبب الوضع العسكري، وحملات محمد علي باشا، والي مصر (1805-1848)، ويُقدّم وصفًا دقيقًا ومفصلًا للحرم المكي أو المسجد الأعظم كما يُسمّيه، منبهرًا ببهائه وروعته وجلاله وجماله، خاصة في ليالي شهر رمضان، ليالي النور، حيث تتلألأ آلاف المصابيح المضاءة على أعمدته الضخمة، وتتراقص تحت هبات النسيم الباردة. ويروي أنه نزل ضيفًا في ضاحية المعابدة بمنزل أحد الأعراب، تصادف أن كان مرشده يعرفه، ويذكر أنهم كانوا في ذلك الوقت في شهر رمضان، لكن الشرع يعفي المسافر من الصيام. ولهذا قامت ربة البيت التي كان زوجها غائبًا بتقديم إفطار لهم وظلوا في المنزل إلى ما بعد الظهر. ثم تمت استضافته بمكة المكرمة في شهر رمضان، ولهذا فقد صام النهار، وفي الليل كان يطلب عشاءً مستقلًا، وفي ساعة مبكرة من صبيحة اليوم التالي يطلب إفطارًا كبيرًا، قبل أن يبدأ الصيام، وكان الخدم الرجال يقومون دومًا على تلبية طلباته. فالكرم الشرقي يُحظر التبرم من السلوك الذي يكون من هذا القبيل ويشير إلى أن سكان المدينة المنورة يدفنون موتاهم في البقيع، ويجرى غرس جريد النخيل فوق القبور، ويغير ذلك الجريد كل عام، في شهر رمضان، عندما تقوم العائلة بزيارة قبور الأقارب (جون لويس بوركهارت: ترحال في الجزيرة العربية، صبري محمد حسن (ترجمة)، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2007)، الجزء الثاني، ص 86، 103، 146.
جون لويس بوركهارت
يعرض بوركهارت لشهر رمضان عند الحديث عن الحرم المكي فيقول: “أما المصابيح (مصابيح البيت الحرام) كلها فلا تضاء إلا في ليالي رمضان”. ويضيف: “في شهر رمضان، حيث أمضيت الأيام الأخيرة منه في مكة، وكان ذلك في العام 1814 الميلادي، يتلألأ المسجد الحرام تلألؤًا فريدًا. كان الحجاج في ذلك الوقت، المصادف لأشد أوقات العام حرارة، يؤدون الصلوات الثلاث اليومية الأولى في منازلهم، لكنهم يتجمعون بأعداد كبيرة في المسجد الحرام، لأداء صلاة المغرب والعشاء. كل واحد من هؤلاء الحجاج يحمل معه في غترته قليلاً من التمر، وشيئًا من الخبز والجبن، أو شيئًا من العنب، يضعه أمامه انتظارًا لانطلاق آذان المغرب، ثم يبدأ في فك صيامه، طوال فترة الانتظار هذه يتبادلون في أدب مع جيرانهم جزءًا من وجبتهم، ويأخذون جزءًا مثيلاً. بعض الحجاج ومن منطق ذيوع صيتهم في الإحسان، يتنقلون من رجل إلى رجل، ويضعون أمام كل واحد منهم قطعًا قليلة من اللحم، ومن خلفهم الشحاذون، الذين يقومون بدورهم بتلقي هذه القطع من أولئك الحجاج الذين وضعت أمامهم. وعقب نداء الإمام الموجود أعلى بئر زمزم قائلاً: “الله أكبر”، يسارع الجميع إلى بيوتهم لتناول العشاء، ثم يعودون بعد ذلك إلى المسجد لأداء صلاة العشاء. في ذلك الوقت تكون الساحة، وهي والأبهاء المعمدة قد أضيئت بآلاف المصابيح، يضاف إلى ذلك أن كل حاج يأتي ومعه فانوسه الخاص ليضعه أمامه. روعة هذا المنظر والنسيم العليل الذي يعم صحن المسجد أو ساحته، يغري جموعًا كبيرة بالبقاء في المسجد طوال الليل” (جون لويس بوركهارت: مرجع سابق، الجزء الأول، ص 172، 203، 204).
يصف جون لويس بوركهاردت John Lewis Burckhardt معاناة البدو في شهر رمضان، فيقول: “يصوم البدو رمضان بانضباط شديد، وذلك حتى في مسيراتهم في منتصف الصيف، ولا شيء يجعلهم يقطعون صيامهم إلا خشية الموت المحقق، وهناك ثلاثة أشياء يلتزم البدو بعدم أكلها وتعتبر حرامًا، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير، ويأكلون كل ما يمكنهم صيده. وفي يوم القربان- التضحية الكبرى على جبل عرفات- تنحر كل أسرة عربية عددًا من الجمال يماثل عدد الأشخاص البالغين الذين توفوا لها في السنة الماضية، ذكورًا كانوا أم إناثًا. وحتى إذا لم يكن المتوفى قد ترك لورثته سوى جمل واحد فإنه تتم التضحية به، أما إذا لم يترك جملاً فيقوم أقرباؤه بالنحر من جمالهم الخاصة. ويمكن إبدال الجمل بسبعة أغنام. وإذا لم يتمكن من نحر العدد المماثل لعدد الموتى، يتم تعويض النقص في عيد الأضحى التالي، ومن ثم فإن يوم الأضحى يمثل احتفالاً عظيمًا وسط العرب” (جون لويس بوركهارد: ملاحظات حول البد والوهابيين، محمد الأسيوطي (ترجمة)، (بيروت: دار سويدان، 1995)، ص 44).
جون فراير توماس كين
يزور الرحالة والمغامر الأرلندي جون فراير توماس كينJohn Fryer Thomas Keane، أو الحاج محمد أمين، مكة المكرمة والمدينة المنورة بين عامي 1877-1878، ملتحقًا بحاشية أمير هندي أتى لأداء الحج، فيعد واحدًا من الأوروبيين القلائل الذين زاروا الحجاز، وقضى بها ستة أشهر، إذ بقي في مكة ستة أسابيع، شعر فيها كأنه في وطنه، وكما لو كان مسلمًا طوال عمره، ثم توجه إلى المدينة المنورة، التي يقارنها بالقسطنطينية في جمالها ورونقها، ففيما يبدو أنه وصل مكة المكرمة في آخر أيام شهر رمضان المبارك، فنراه يقول: “في ذلك الوقت أذن شهر رمضان بالانقضاء، وجاء موسم العيد الذي يحل زائرًا لثلاثة أيام على كل الناس، الذين يستقبلونه بأبهى حلة، بينما ضربت المدافع من كل الحصون التركية الثلاثة إحدى وعشرين طلقة عند شروق الشمس وعند غروبها وفي وقت الظهيرة إيذاناً بأوقات الصلوات طوال الأيام الثلاثة” (جون فراير كين: ستة أشهر في الحجاز، إنعام إيبش (ترجمة)، (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2012)، ص 30، 31).
كريستيان سنوك هيروجرونجي
يختلف الهولندي كريستيان سنوك هيروجرونجي Christiaan Snouck Hurgronje أو الحاج عبدالغفار عن من سبقوه، إذ أتيحت له الفرصة في عام 1884-1885 لكي يقضي عامًا كاملاً في الحجاز، أمضى نصفه في مكة الكرمة، ونصفه الآخر في جدة، ولم تتح له الفرصة لزيارة المدينة المنورة أو الإقامة فيها، وعلى إثر عودته إلى وطنه عكف على تسجيل تجاربه وخبراته الشخصية، في مجلدين باللغة الألمانية، يقدّم دراسة ممتعة وصورًا شائقة عن حياة السكان، وللأسرة المكية في معيشتها ومساكنها، وحتى المواد المستخدمة في بنائها، إلى جانب الأوضاع الصحية وما يكتنف حياتها من خرافات وشعوذة، وأساطير، والموالد أو الأحوال التي كان يحتفل بها المكيون تأبيناً لأولياء الله الصالحين. ويتميز عما سبقوه؛ إذ لم يكن تركيزه على مناسك الحج، وإنما عمد إلى التركيز على الحياة في المجتمع المكي، إلى جانب التعريف بأحكام الدين الإسلامي من حيث الفرائض والسنن والنوافل، بما في ذلك الصلاة وصوم رمضان والأحكام الشرعية، إذ أتاحت له إقامته في مكة أن يدرس التعاليم الإسلامية بعمق. ويتضح ذلك مما ذكره من معلومات عن الدين الإسلامي وتعاليمه، وكذلك عن العادات والتقاليد في المجتمع المكي (سنوك. سي. هيرجرونجى: مكة في أواخر القرن التاسع عشر، صبري محمد حسن (ترجمة)، جمال زكريا قاسم (تقديم)، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2007)، ص 13، 17، 18).
كريستيان هيروجرونجي
يذكر هيرجرونجي أن الاستعداد لشهر رمضان في مكة المكرمة يبدأ منذ منتصف شهر شعبان، وهناك نكتة تُقال للأطفال في العشرين من شعبان، وهي: أن الشيخ رمضان قد بدأ رحلته مع القافلة القادمة من المدينة، وسيكون في مكة بعد عشرة أيام، وفي كل يوم يقطع الشيخ رمضان مسافة، ويصل إلى مكان يُسمى للأطفال، وفي نهاية المطاف يبقى الأمر غير مؤكد، فيما إذا كان سيصل في يوم أو يومين، لأن بداية شهر الصوم تعتمد على رؤية الهلال، أو على اكتمال شعبان ثلاثين يومًا فيما لو لم ير الهلال. وقبل بداية رمضان يحاول بعض الأفراد تنظيف معدته، بتناول مادة مسهلة للمعدة، تحضر من قبل الطبيب بموجب وصفة يختص بها، ويحتفظ بها سرية في العادة، مع أنه يُعطيها مجانًا. وتستعد المدافع لتُعلن بداية شهر الصوم، وتنشط الأسواق، ويتفنن الباعة في صناعة أطباق الحلوى الرمضانية، التي يقبل عليها الصائمون لتحضير وجبة السحور، لأول يوم من أيام رمضان حيث يبدأ الجوع والعطش.
يصف هيرجرونجى المسحراتي في مكة المكرمة بقوله: “بعد منتصف الليل بنصف ساعة، يعتلي المؤذنون منائر الحرم السبع، ليقوموا بالتذكير أو الاستغفار، المكون تارة من الشعر (المدائح النبوية) وأخرى من النثر المسجوع، ولمدة ساعتين”. ويواصل حديثه بقوله: “بالإضافة إلى التذكير هناك التسحير، وهو الدعوة لتناول وجبة السحور قبل الإمساك عن الطعام، والتذكير في العادة يبدأ قبل ثلاث ساعات من الفجر، ويعتبر إيذانًا بالاستعداد للسحور”. ثم ينهون ذلك بالآذان الأول للصلاة، وبعد نصف ساعة من هذا الآذان يلقون بنبرات رنانة بالإنذار الأخير، حتى لا تفاجئ خيوط الفجر الأولى الصائمين فيتفلون ما في أفواههم من طعام أو شراب. والاسم الشعبي لهذا التحذير هو “التتفية”، حيث يقولون: “أيها النائمون، اصحوا، اذكروا الله الذي سخر الرياح، أن جيش الليل قد انسحب، وجيوش الصباح تشعشع، أسرعوا بالشراب، فقد حل موعد الصباح”. وقبل ساعة من “التتفية” يسير المسحرون في الشوارع، وهم يقرعون طبولهم أمام البيوت، بطريقة تقليدية تساعد على إيقاظ الناس، يحثونهم على الاستيقاظ من النوم، ويزور هؤلاء المسحرون هذه البيوت يوم العيد، لينالوا من الهدايا والأعطيات، حيث يعطيهم البعض نقودًا، والبعض الآخر حبوبًا، وبعضهم يعطيهم صدقة الفطر أيضًا. وبعد نصف ساعة من “التتفية” يمهد الترحيم لمدة عشر دقائق للآذان. ويؤدى هذا الترحيم طوال أيام السنة، وهو مثل التذكير، والتنبيه أو الآذان الأول للفجر، والترحيم تضرع إلى رحمة الله: الصلاة يا عباد الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت أبدًا، إليه المصير وهو على كل شيء قدير. أفلح من يقول: لا إله إلا الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله”.
ثم يذكر أنه في نفس الوقت يمر خلال الشوارع الرئيسة من مكة بعض المطاوعة، ويقفون عند ركن كل شارع يحثون النائمين على الاستيقاظ، مُنشدين بصوت عال: “الصلاة يا عباد الله”، ويكتفي بعضهم بذلك، بينما يستمر آخرون في إنشاد بقية الصيغة المعهودة. وبعد نحو ساعة ونصف الساعة من الترحيم نسمع الآذان لصلاة الصبح يرفعه المؤذنون بصوت عال، ويجزم البعض أن هناك لحنًا خاصًا للآذان، وهذا زعم خاطئ، فالمؤذن قد يستعمل أي لحن معروف له شريطة ألا يؤثر اللحن على النطق الصحيح لكلمات الآذان. ونسمع في مكة دائمًا ألحانًا جد مختلفة للآذان في وقت واحد، فالمؤذن لا يُلقي بالا لما يقوم به زملاؤه. وبعد الأذان يبدأ الناس بصلاة السنة، وكذلك يصلون ما شاء الله لهم أن يصلوا، حتى تقام الصلاة. (سنوك هورخرونيه: صفحات من تاريخ مكة المكرمة، محمد محمود السرياني (وآخرون) (ترجمة)، (الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 1999)، الجزء الثاني، ص 381-389).
نقلا عن: الحياة