الحرب العالمية التي تندلع قبل أذان المغرب، كل يوم من أيام شهر رمضان المعظم، للظفر بكيس الطرشى أو «المخلل» تثبت إننا شعب صاحب ذائقة «حادة»، أي أننا ربما نترك ديكا روميا وتلالا من اللحوم، وتتجه أصابعنا إلى قطع اللفت والجزر وقرون الفلفل وحبات الزيتون وشرائح الليمون والبصل «المخللة»، مشكلة طبق الطرشى الذي يتوسط المائدة الرمضانية، إنه الأمل والبهجة التي يتفنن كل شخص بإبداء رأيه فيه.
ويسكى «الصالحين»
إنه «الطرشي»، سلطان مائدة رمضان، وفاتح الشهية العظيم، والذي نقطع من أجله المشاوير، لأننا اعتدنا على شرائه من محل معين، أو من طرشجي ذائع الصيت يقبع مكانه في آخر الدنيا. والغريب أن ارتفاع أسعار «الطرشي» حاليا لا يحول – رغم الظروف الاقتصادية الصعبة – دون الإقبال الواسع عليه، فربما يكون- الطرشي- هو السبب في قدرتك على الأكل بعد صيام ساعات طويلة، وربما بسببه يتغير مزاجك وتمتنع عن تناول أي شيء آخر. فالطرشي يعتبر من أكثر فواتح الشهية المفضلة لدى الشعب المصري، والذي لا تخلو مائدة من أطباقه الملونة خلال شهر رمضان الكريم.. قطعة منه، نضعها في فمنا بشغف، وتذوق، واستمتاع، وكأنه قطعة كراميل، أو «بنبوني شعبي» يذوب في الفم، مع «دقته» المميزة، وقد نشرب «كأسا» من مياهه اللاذعة الحارقة.
الدقة السحرية أو «ويسكي الصالحين» هذا هو التعبير الذي ذكرته الفنانة «تحية كاريوكا» في فيلم «شباب امرأة»، حيث كانت تقصد «مياه الطرشي الحامية»، فهو يُعرف في الأحياء الشعبية باسم «ويسكي الصالحين». وكأن المزاج الشعبي المصري، مصمم على اختراع مشروبه الروحي الذي يسكره بلا ذنب ويدفئه ويفتح شهيته بلا معصية.
الطرشى والحضارة المصرية
منذ أزمنة بعيدة ومبكرة، اعتقد الناس أن المخللات ضرورية لصحة جيدة، وأنها تساعد على الحفاظ على التوازن الصحيح للأحماض في الجسم. لذا فإننا نجد «الطرشي» أو المخلل، ضاربا في جذور الحضارة المصرية القديمة، وكأنه كان مشاركا في صنعها منذ آلاف السنوات. فالمخللات كانت موجودة خلال العصور القديمة، في الحضارة المصرية وفى غيرها من الحضارات، وعلى الرغم من وجود بعض الاختلاف في التاريخ الذي بدأ فيه الناس يأكلون المخلل، إلا أنه يُعتقد أن أول مخلل تم صنعه في بلاد ما بين النهرين (العراق) في عام 2400 قبل الميلاد، ويقول آخرون إنه كان في عام 2030 قبل الميلاد. كما يُذكر أن الملكة «كليوباترا» كانت تحبه وتعتقد أن تناوله هو أحد أسرار جمالها، ومن الأشياء التي تساعدها على البقاء جميلة. ويذكر أيضًا أن «نابليون بونابرت»، قد رصد مكافأة مالية ضخمة لأي شخص يمكنه العثور على أفضل طريقة لاستخدام التخليل للحفاظ على الغذاء لقواته في الحروب.
ويذكر العلامة «أحمد أمين» في كتابه «قاموس التقاليد والعادات الشعبية»: «أن المخللاتي من يصنع المخلل، ويسمونه أيضًا الطرشجي. ويكاد يكون في كل حيّ من أحياء القاهرة دكان أو معمل للطرشي هذا، مما لم أر له مثيلا في البلاد الأخري، وهم يخللون فيه اللفت والخيار والجزر والبصل وهو أكثرها لأنه أرخصها.. والناس يذهبون بسلاطينهم (مفردها سلطانية) أو مواجيرهم الصغيرة ليشتروا منه بقرش أو نصف قرش، فيضع في القاع اللفت لأنه أكثر، ثم قليلا من الأصناف الأخري، ثم يضع عليه مرقًا مخللا لوَّن بلون أحمر يسمي الدقة.. والفقراء يعيشون كثيرًا على الأكل منه».
مهنة رمضانية مزدهرة
لا تكتمل مائدة رمضان إلا بوجود طبق «الطرشي أو المخلل»، حيث تقوم الأسر المصرية بالإقبال على شرائه قبل ساعات من مدفع الإفطار ليزين مائدتها .فمن بعد صلاة العصر، وحتى أذان المغرب، ستجد زحاما، أمام محلات الطرشي والمخلل، خاصة المحلات ذائعة الصيت، فالجميع يرغب في كيس طرشي «على مزاجه»، ورغباته، والموضوع هنا ليس في كيس الطرشي فقط، وإنما الأساس هو ما يحتويه هذا الكيس من أصناف مختلفة.
ويعود عشقنا للطرشي والمخلل في رمضان، لسبب أساسي، هو إننا نفقد الكثير من المياه والأملاح من أجسادنا طوال ساعات الصيام، فيقوم الطرشي بتعويض تلك المياه والأملاح، وهو السبب الذي يجعله إحدى العادات الرمضانية المزدهرة والمتأصلة والمرتبطة برمضان، والرائجة خلال أيامه المباركة. ورغم أن طريقة صنع المخلل طوال أيام العام واحدة، إلا أنه وخلال شهر رمضان، يضيف أصحاب المحلات، بعض النكهات الاضافية إلى الطرشي، فضلا عن الاهتمام بـ «الدقة» ليزداد الإقبال عليه، حيث تصبح له لذة لفتح شهية الصائم.
هذه الدقة أو اللذة، هي التي تمنح بعض المحلات سمعة ذائعة، فالمحلات ذائعة الصيت، تقوم بعمل «دقة» مميزة جميلة الطعم، كما أن النظافة وطريقة تكوين كيس الطرشي، من بعض الأصناف من الخضروات، المحببة كالليمون المعصفر والبصل واللفت والبنجر والجزر، كلها عوامل تجعله أكثر رواجا عند الناس. لكن يظل سر الخلطة في صناعة الطرشي، مثل الأسرار الحربية عند كل محل للطرشي، فالخلطة ذات النكهة المحببة هى سر شهرته وتميزه وإقبال الناس عليه، والخلطة هى هذه الدقة وتكويناتها مع الكثير من التوابل الأخري.
وتبدأ محلات الطرشي الكبيرة الاستعداد لشهر رمضان، قبل مجيئه بشهور طويلة ربما تبدأ بعد انتهاء رمضان المنقضي مباشرة، فيبدأ تخليل الخضروات، من بصل وفلفل وخيار عقب انتهاء الشهر الفضيل استعداداً لرمضان الذي يليه، أي أن هذه المحلات تستعد قبلها بعام كامل تقريبا .يتم استخدام البراميل الضخمة المصنوعة من الخشب والتي تبلغ سعتها أكثر من طن من المخلل. كما أنه يتم تخليل الزيتون الأخضر لمدة لا تقل عن ستة أشهر، وهناك أنواع مخللات تتم خلال شهرين أو ثلاثة أشهر مثل «الفلفل – الخيار – الجزر»، حيث أن هناك مواسم للمخللات على حسب مواسم إنتاج الخضراوات.
التخليل
المخلل من التخليل، ويقال (خلّله) أي وضعه في مادة تتخلّله، فالخيار مثلاً ينقع في الماء والملح في إناء مضغوط ومسحوب منه الهواء لفترة أسبوع مثلاً، وبعدها يصبح هذا الماء الموجود في الإناء بنكهة الخل والخيار، يصبح طريًا شهيًا. ومن فوائد عملية التخليل إضفاء النكهة والطعم الرائعين، ورفع القيمة الغذائية للخضار أيضًا وجعله سهل الهضم. فالتخليل هو شكل من أشكال التخمير، وعندما تخمر الخضروات والفواكه، تساعد البكتيريا الصحية على كسر السليلوز الصعب الهضم في الأطعمة. ويقال إن تناول المخلل قد يساهم في مكافحة السرطان، على الرغم من أن المخللات قد تكون مصدراً فقيراً للفيتامينات والمعادن، إلا أنها مصدر غني للبروبيوتك.
ولأننا لا نستطيع الاستغناء عنه، ولسهولة صنعه، فقد نشأ بين الأسرة المصرية وبعض أصناف الخضروات، نوع من الألفة التي جعلت المصريين يقومون بصناعة بعض أنواع المخلل في منازلهم، بل وارتبط التخليل بمواسم حصادهم، وأسهل تلك الخضروات فى التخليل هي: الخيار، واللفت، اللذان لا يحتاجان إلى دراية كبيرة، بينما نجد أن الليمون والزيتون والبصل كلها اصناف تحتاج إلى خبرة خاصة في صنعها، كما أنها تأخذ وقتًا طويلا حتى تنضج.
السلطانية والبرميل
يظل طبق أو «سلطانية الطرشي»، تعبيراً شعبياً يرن في الأذن المصرية، ففي الماضي كان يتم شراء الطرشي في سلطانية، وهي وعاء مصنوع من الصاج، وهي خاصة به ولها غطاء، مثله مثل الفول المدمس. فالمائدة لا تكتمل إلا وقد توسطتها: سلطانية الطرشي. أما برميل الطرشي، فهو تعبير يقال لبعض الأشخاص الكسالي، أو الأشخاص فاقدي الحركة أو «التنابلة»، والسبب في هذا التشبيه يعود إلى أن الطرشي يتم صنعه في براميل خشبية ضخمة جدا، تصل سعة الواحد إلى نحو خمسة أطنان من الخضروات والمياه، ولأنه لا يتحرك من مكانه مطلقًا، ويظل هكذا، فقد أطلق هذا التعبير على بعض الأشخاص على سبيل السخرية. فهو تعبير يطلق على فاقدى الروح والحركة، الذين يعيقون حياتنا اليومية بكسلهم.