بقدر ما يقبل المصريون على الدين، بقدر ما يقبلون على الدنيا، فهم لا يهجرونها ولا يهملونها. كان هذا الأمر من أكبر الأسباب التي لم تسمح للتيارات الدينية المتشددة بالتوغل في الوطن وتحويله إلى معسكر كبير بائس ترفرف عليه الأعلام السوداء للخلافة الموهومة التي تجعل بلدا عريقا ذا حضارة عبقرية تابعا لبلاد أدنى، تستهلك طاقته وتُفني موارده وتسخر إنسانه لمنافعها الخاصة كما جرى في زمن العثمانيين. ولعل أبلغ شاهد على تمسك المصريين بدنياهم، في قلب الدين، هو الأجواء الرمضانية الحافلة بالمشاهد التي تشير، بقوة، إلى هذا المعنى وتؤكده ولا تترك مجالا للريبة في محبة هذا الوطن وأهله للحياة وحرصهم على مظاهرها..
رمضان المصرى
صنع المصريون، عبر تاريخهم الطويل منذ دخول العرب إليهم بالإسلام، ما يمكن تسميته بـ «رمضان المصري» وهو نفسه الشهر الكريم الذي يصومونه كما يصومه غيرهم وينتظرون عيده بالبهجة من بدايات عشره الأواخر كما ينتظره الآخرون. غير أن المسحة المصرية الخاصة لم تغب عن أيامه في بلادهم قط، بل سيطرت عليه وتحكمت فيه وأعطته خصوصية قلما وجدها الراصدون في بلدان أخرى، بل إن كثيرين من المنتمين إلى البلاد العربية والإسلامية الشقيقة والصديقة يؤثرون «رمضان المصري» على رمضان الذي عندهم؛ فيغادرون بلادهم ويقيمون في مصر طوال أيام الشهر الكريم وإلى نهاية عيده.
https://youtu.be/rWgm5Hwrl1A
من منتصف شهر شعبان، تنتشر الزينات والفوانيس في شوارع المحروسة انتشارا كثيفا، من الشوارع الهامشية إلى أكثرها ازدحاما وصخبا، يجمع الصغار للزينات نقودا من البيوت ويقومون بشرائها جاهزة وتعليقها بعرض الشوارع تتوسطها المصابيح الكبيرة العملاقة والصغيرة – على حد سواء – بأشكالها المتنوعة وزهوها البراق، وقد كانوا يصنعون الزينات بأيديهم في أزمنة أقدم، ويفخرون بصبغاتها الملونة التي لا تفارق بصماتهم بسهولة، لكنها صارت تباع جاهزة بمرور الوقت. ومع ذلك ظل كثيرون إلى لحظتنا الراهنة حريصين على صناعتها بأيديهم؛ ففي الأمر متعة شخصية، ويرون فيه أجرا أيضا لأنهم يصنعون شيئا بريئا طيبا لأيام بريئة طيبة.
وفي متن الأيام الرمضانية تحتضن الدنيا الدين في مصر ببلاغة آسرة؛ فالابتهالات الدينية تعانقها كلمات الأغاني وألحانها، ورائحة البخور تتداخل مع دخان الشيشة (النارجيلة) للساهرين بالمقاهي من بعد مدفع الإفطار حتى دقات طبلة السحور. أما الدعوات الحارة الصادقة إلى الله، في التراويح، بمحو الذنوب وقبول التوبة ومباركة الأعمار والأعمال فدعوات مجردة من الصراخ والعويل والأسى الطويل الوافر في بيئات أخرى تحاول إقحامه علينا.. تجلل الوداعة الملامح، ويملأ الاطمئنان القلوب، ويتجلى اليقين الهائل بالمغفرة وتبدو الثقة في عفو الله وصفحه غالبة.
وفي أيام رمضان المصري تشيع الموائد في الساحات العامة ويدعو الناس بعضهم بعضا للجلوس والإفطار؛ فلا جوع ولا عطش.. لكن لا تخلو الجلسات من الأحاديث الفكهة المرحة التي تتصل بسير الحكام والمحكومين، وبالشؤون الدنيوية في الصميم، لكنها لا تخالف الدين مع ذلك لطغيان سذاجتها وعفويتها.. وكم يتمنى الناس كلهم أن تمتد هذه الموائد بطول العام وليس في رمضان فقط لما يجدونه عليها من دفء الصحبة وكرم الضيافة، إلا أن الوطن، للأمانة، في مناسبات شتى وفي مواقع كثيرة منه كصعيده ودلتاه، عامر بها فعليا ولا يبخل على مواطنيه بأمثالها البتة.
شهر القرآن
القرآن لا ينقطع صوته، بعدد أيام الشهر، في كل الأماكن والأوقات في مصر، وهو الذي لا ينقطع أصلا في الشهور العادية. ولعل المصريين بالذات أكثر شعوب الأرض اعتزازا بقرائهم الجهابذة المشاهير الذين غزت أصواتهم البلدان جميعها واستقرت فيها بالاستحسان الكامل. وفي تعليقاتهم على أصوات قرائهم ما يجعل الأرواح تنتشي، نشوة على نشوة الإحساس بالقرآن نفسه، ففي التعليقات (بألفاظنا العامية الحميمة) ما فيها، من رسوخ الإيمان ورفعة الذوق والشوق للجنة ونعيمها ومديح الحق والخير والجمال. وكلها صور حيوية تعكس جملة من الصفات الإيجابية يتحلى بها المصريون الذين لا يصح حسابهم سوى على الوجود الزاخر النافع.
رمضان كريم
يقول الرجل ببلادنا لصاحبه إذا لقيه في رمضان أو على مشارفه: رمضان كريم.. ويرد الثاني: الله أكرم.. فرمضاننا كريم (مبتدأ وخبر)؛ تجتمع الأسر المصرية، أكثر ما تجتمع، في أيامه على الأطعمة والأشربة والحلويات والمادة الدرامية الدسمة التي يتم إنتاجها خصيصا له، بجانب الفوازير والبرامج الخفيفة والبرامج الدينية وبرامج المسابقات، بخلاف ليالي الشعر الحاضرة وحلقات القصص وسماع السير الشعبية.. وتجري بين الناس حوارات بشأن ذلك كله تفتح أبوابا للوعي وتنبه المجتمع لأزماته المعاشة وقد تطرح له حلولا أو تتركه يجتهد لخلقها، وهي عملية تفاعلية مستمرة لثلاثين يوما فحواها اغتنام النفحات الدينية في ترتيب دنيا الناس..
تنتقد جماعات بشرية عديدة وفرة أنواع الطعام والشراب وأصنافهما في رمضان، ويعدون ذلك إسرافا مقيتا في شهر هو للزهد لا الإنفاق وللعبادة لا الأكل والشرب.. وقد يكون لها بعض الحق فيما تذهب إليه، إلا أنها لا تنظر إلى الموضوع بعمق مطلوب؛ وهو أن الناس يعتبرون الشهر شهر سعة فيتبسطون فيه ويبسطون الأيدي ولا يقصدون إفساد مضمونه قطعا، وعطاؤهم يكون لغيرهم، مودة وصلة، فوق ما يكون لأنفسهم.. كما أن الشهر الكريم، فرصة لإبراز المواهب في صناعة الأكلات المشبعة وابتداع مزيد من السوائل المثلجة، وهذه القائمة تزداد عاما بعد عام متجددة متطورة، ولا بأس بها في نطاق الفلكلوريات التي تمنح الشعوب علامات تميزها.
بقي أننا ينبغي ألا نفرط فيما اكتسبناه بمدى الدهر؛ لأننا أمة بين الأمم قدرت دنياها على أن تستوعب الدين، ببساطة، فلم يتصارعا قط، وإنما تواصَلا.. تواصُلا يحفظ لتدين المصريين وسطيته المحبوبة، ولأمور دنياهم ومعاشهم، قدرتها على إشاعة البهجة فى نفوسهم.