مع قدوم شهر رمضان، يشهد الشارع المصري انتشاراً كبيراً لموائد الرحمن لاستقبال الضيوف الصائمين من مختلف الطبقات، في مشهد يجسد صورة التراحم والمودّة والتكافل في الشهر الفضيل، حيث تُعد موائد الرحمن عادة مصرية خالصة، حافظ عليها المصريون على مدى قرون رغم ارتفاع الأسعار والوضع الاقتصادي المتراجع مؤخرا.
وتنتشر في الشوارع المصرية، وبخاصةٍ في العاصمة القاهرة، موائد الرحمن، من أجل ثواب إفطار صائم، حيث تستقبل تلك الموائد ضيوفها من مختلف الطبقات، وإن كان أغلبهم من الفقراء وغير القادرين على تأمين قوت يومهم، بينما بعض ضيوف الموائد يضطرون للإفطار في الشارع لظروف معينة.
البداية
بدأت فكرة موائد الرحمن في مصر منذ مئات السنين، ويقال إنها ظهرت لأول مرة في عهد أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية، الذي يُعد أول من أقام موائد الرحمن في رمضان. فقد أعدّ وليمة كبرى للتجار والأعيان في أول أيام شهر الصوم، وأمرهم بفتح منازلهم ومد موائدهم لإطعام الفقراء، كما أمر بأن يعلن قراره بإقامة مائدة يفطر عليها الصائمون في كل مكان، وكانت هذه الوليمة بداية ظهور موائد الرحمن. لكن البعض يرجح أنها بدأت في عهد الفاطميين، من خلال الولائم التي كان يقيمها الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان، وكان يطلق عليها «سماط الخليفة».
روايات مختلفة
ويعتقد الكثيرون أن أول من أقام مائدة رحمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أقام مائدة للوفد الذى جاء إليه من الطائف أثناء وجوده بالمدينة، لكن مائدة الرحمن بشكلها المعتاد بدأت بعد ذلك بكثير. وبحسب كتاب «دليل الأوائل» للدكتور إبراهيم مرزوق، فإن أول من أقام مائدة في شهر رمضان هو الخليفة العزيز بالله الفاطمي، وأقامها ليفطر منها أهل جامع عمرو بن العاص. ففي زمن الخليفة العزيز بالله كان يخرج من مطبخ القصر على مدار شهر رمضان 1100 قدر يوميا، تحتوى ألوانا مختلفة من الطعام لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين عند الإفطار، وبعدها كان الخليفة يجلس في شرفة كبيرة في قصره حين يحين وقت الإفطار، ويقضى الوقت في سماع القرآن الكريم ومشاهدة حلقات الذكر. ويستمر ذلك الطقس حتى منتصف الليل، وبعدها يأمر الخليفة بتوزيع الهدايا على الفقراء حتى يحين موعد السحور، فتجد مائدة عامرة في نفس مكان الإفطار.
وقد حملت مائدة الرحمن في البداية اسم «دار الفطرة»، وبحسب كتاب «ابن تغرى بردى – مؤرخ مصر في العصر المملوكي – جزء – 4 / سلسلة أعلام المؤرخين» للدكتور محمد حسين شمس الدين، على لسان تقى الدين المقريزي، فإن دار الفطرة كانت خارج القصر قبالة باب الديلم ومشهد الحسين، ومحلها اليوم البيوت الواقعة في أول شارع فريد على يمين الداخل فيه من جهة الميدان القبلي لجامع الحسين تجاه بوابة الباب الأخضر.
مذاق مصري خاص
وكما هو واضح من اسمها فإن «موائد الرحمن» تعد من أبرز مظاهر التكافل والتراحم الاجتماعي بين أبناء المجتمع المصري، حيث يتولى الانفاق عليها والقيام بإعدادها بعض القادرين من رجال أعمال وشخصيات عامة ومشاهير وفنانين، وذلك لمساعدة الفقراء والمحتاجين بتوفير وجبة افطار تناسب الصائم، واللافت للنظر أن تلك الموائد الرمضانية لا تقتصر على الفقراء وحسب بل يستفيد منها أيضاً بعض من لا يستطيعون الإفطار في منازلهم لأسباب خارجة عن إرادتهم، وبذلك نجد أن الفقراء والقادرين يجتمعون على مائدة واحدة، ويتناولون نفس الطعام ويعيشون نفس الأجواء الروحانية.
وبعيداً عن كل ما يقال عن فوائد تلك الموائد الرمضانية، فإنها وبصدق قد تحولت إلى نبع روحاني وإنساني يفيض بالمشاعر الإنسانية التي تميز الشعب المصري، وعلى الرغم من أن موائد الرحمن تظهر في بعض المجتمعات الأخرى، إلا أنها كانت دائما وستظل مختلفة ومتفردة ولها طابع خاص في المجتمع المصري، فمصر تضفى دائما على الأشياء مذاقا خاصا يميزها عن سائر بلاد الدنيا.
ويقول المؤرخون في هذا الشأن إن مصر عرفت أشكالا متعددة لموائد الرحمن فمنها على سبيل المثال ما ذكرناه عن مائدة أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية، وهو أول من أمر بدعوة أغنياء وحكام الأقاليم في أول يوم من رمضان ووزعهم على موائد الفقراء والمحتاجين كي ينفقوا عليها، وتطورت الفكرة فعرفت في العصر الفاطمي باسم «السماط» كما تروي كتب التاريخ أن آلاف الموائد كانت تنصب للصائمين غير القادرين وعابري السبيل. أما في العصر المملوكي فكان الأمراء والأغنياء يقومون بتجهيز الموائد وإرسالها إلى الفقراء حيث كانوا يفتحون أبواب المحلات لاستقبال الفقراء وعابري السبيل فضلا عن صرف رواتب إضافية للموظفين وطلاب العلم والأيتام.
وهكذا انتشرت موائد الرحمن في مصر وتوارثتها الأجيال من خلال منظور رمضاني أصيل حتى وصلت إلى ما نراها عليه الآن. ولم تقتصر على الشكل التقليدي المعروف والذى يتمثل في تجهيز الموائد بالخيام فى الشوارع والميادين، بل اتسعت لتشمل توصيل الطعام للمنازل من موائد الرحمن في عدد كبير من الجمعيات الخيرية الإسلامية والمساجد التي يتبرع لها أهل الخير ليس هذا فحسب بل أصبح بعض أهل الخير يقومون بإعداد وجبات جاهزة، ويقومون بإرسالها إلى منازل الفقراء، حتى يمكن لهؤلاء أن يفطروا في منازلهم دون حرج أو خشية من رؤيتهم وهم يتسابقون إلى موائد الرحمن المقامة في الشارع.