احتفل الأزهر الشريف يوم الأحد الموافق السابع من شهر رمضان، الثاني عشر من مايو 2019، بمرور 1079 عاما على تأسيس الجامع الأزهر، بحضور كوكبة من علماء وقيادات الأزهر الشريف جامعا وجامعة. وربما تكون هذه المناسبة فرصة للتوقف عند صفحات مجيدة من تاريخ عريق لهذه المؤسسة العريقة، التي لا يستطيع منصف أن ينكر دورها وتأثيرها الروحي والحضاري في حياة المسلمين عموما والمصريين خصوصا، إنْ سلبا أو ايجابا. ولعل تاريخ العلاقة ما بين السلطة السياسية والأزهر الشريف يعتبر واحدا من أخطر القضايا التي لا تزال تستحق البحث والدراسة.
جهاد ضد الغزاة
كان الأزهر عند إنشائه بمثابة أداة علمية دينية لغرض سياسي في نفس مؤسسيه، وهو نشر المذهب الشيعي في ربوع مصر. فقد كان يعقوب بن كلِس الوزير الفاطمي ومُنظّر الدولة الشيعية الفاطمية، هو أول من جلس للتدريس بالجامع الأزهر، وأجريت على حلقاته الجرايات، وبذلك جمع ما بين السلطتين الزمنية (الوزارة للخليفة الفاطمي)، والدينية (ريادة حلقات العلم في الجامع الأزهر).
وبعد انتهاء حقبة الدولة الفاطمية لم يختلف الأمر كثيرا، فبعد أن أصبح مؤسسة سنية على يد صلاح الدين الأيوبي، ومن بعده المماليك، ظل الأزهر رديف السلطة والسياسة، بحيث كان علماؤه بمثابة قادة الأمة وطليعتها ووقودها الحيوي، إذ لم يكن ممكنا لهم العزوف عن الحياة العامة والسياسية في وقت تتلقف فيه العالم العربي والاسلامي قوى الشر شمالا وشرقا ممُثلة في الخطرين الصليبي والمغولي؟ وهو ما يدفعنا للتساؤل حول ما إذا كنت تلك المشاركة في الحياة العامة وملابساتها من قبل الأزاهرة مشاركة واعية منبثقة عن رغبة في ممارسة اللعبة السياسية أم كانت مجرد استجابة لفريضة دينية هي (الجهاد) في مواجهة غزاة غرباء عن الدين والوطن؟
الرضا بالمتغلب
يحلو للبعض التأكيد على أن مشاركات الأزاهرة في القضايا العامة طوال تاريخهم اقتصرت على مجابهة الغزو الخارجي، وضد غزاة يحملون ديانات أخرى في الأساس، وبالتالي جاءت مشاركاتهم ضمن مفهوم محدد في «الجهاد الاسلامي»، وفي ركب السلطة ومسايرة لرغبتها، ولم تكن ممارسة لعمل أو فعل سياسي بأي حال من الأحوال، وهو إدعاء يصعب قبوله على عواهنه، لأن التاريخ لم يخل من مشاركات لعلماء الأزهر، حتى في الصراعات الداخلية (إسلامي- إسلامي) أثناء التحولات الكبرى في الدول الحاكمة لاسيما المملوكية والعثمانية.
إذ من الثابت تاريخيا أن فريقا من علماء الأزهر رافقوا جيش السلطان قنصوه الغوري الذي زحف نحو الشام لملاقاة الجيش العثماني، الذي رأوا فيه الفئة الباغية (وهو مفهوم ديني أيضا)، وكان على رأس هؤلاء كمال الدين الطويل الشافعي، ويحيي الدميري المالكي، وأحمد الفتوحي الحنبلي، وحسام الدين بن الشحنة الحنفي، وقد كان تحت قيادتهم جماعة كبيرة من الفقهاء والطلاب الأزاهرة والوعاظ والأئمة، لكنهم مع اندحار الجيش المملوكي ومقتل طومان باي آخرسلاطين المماليك، كانوا قد أذعنوا بالولاء والطاعة للخليفة العثماني الجديد الذي باتوا يرون فيه حامي ديار المسلمين ضد الهجمات الصليبية، وفقا لقاعدة شرعية ثالثة تتيح إمارة التغلب. فقد نقل الفقيه أبو يعلى الفراء فى كتابه «الأحكام السلطانية» ما رواه عن ابن حنبل من قوله (ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين فلا يحل لمؤمن إلا الرضا بهذا المتغلب) كذلك بالغ الفقهاء فى إقرار هذا الأسلوب فقالوا: وإمارة التغلب جائزة حتى ولو كان المتغلب فاسقا أو جاهلا.
مواقف أزهرية
قد تكون مواقف علماء الأزهر الشريف تجاه عمليات الجور السلطوي على أرواح وممتلكات وأوقاف الشعب المصري هي ما يمكن أن يوسم – في نظر البعض- بالممارسة السياسية وفقا للمفهوم الحديث، لذلك كثيرا ما تستدعى في أوقات الحاجة قصص الصدام بين أحد علماء الأزهر وأحد سلاطين المماليك أو العثمانيين للترحم على الزمن الغابر الذي كان فيه العلماء هُم ضمير الأمة وشرفها. والتاريخ يسوق لنا العديد من نماذج هؤلاء العلماء، ولعل أبرزهم كان الامام الأزهري العز بن عبد السلام والملقب بسلطان العلماء، ثم في مرحلة لاحقة لعب الدور نفسه عدد من كبار علماء الأزهر كالشيخ مصطفى البكري، وعمر مكرم، فقد قاد هؤلاء الحراك الثوري في وجه المماليك ثم في وجه حملة نابليون بونابرت الذي هاجم ساحة الجامع الأزهر بمدافعه وخيله وفرسانه.
عمر مكرم
ومع نهاية الدولة العثمانية حمل علماء الأزهر على أكتافهم مهمة الدفاع عن ممتلكات العامة وأوقاف المساجد ودور العلم والعبادة، وقادوا الانتفاضات الشعبية، وقد كان أكثر ما أتاح لهم القيام بهذا الدور هو استقلال الأزهر عن السلطة، فقد كان شيخ الأزهر – منذ استحداث منصب شيخ الأزهر في العصر العثماني- يختاره العلماء فيما بينهم، ولا يملك والي مصر العثماني ولا السلطنة العثمانية إلا مباركة هذا الاختيار، و كان من مظاهر قوة الأزهر وشيخه في ذلك الحين أن ظل القضاء في مصر تحت سيطرة علماء الأزهر في الأغلب الأعم، وكانت دقتهم في تحري العدل ونشره، وإقصاء الظلم ورفضه مما أكسبهم حب الناس، كذلك كانت جميع مناصب الافتاء بيد علماء الأزهر، وأشهر هذه المناصب إفتاء السلطنة، وإفتاء القاهرة، وإفتاء المدن الشمالية، وإفتاء المدن الجنوبية، وإفتاء الديوان العالي، وإفتاء المحاكم، وقد اشتهر المفتون في مصر بشجاعتهم ودقتهم في تحري الحق والعدل، وعدم مبالاتهم أن تمس الفتوى أميرا أو وليا أو سلطانا.
وفى عصرنا الحديث كان للأزهر دوره الكبير فى تأييد ثورة 19، وفى جمع كلمة كل المصريين ضد المستعمر الإنجليزى، ومن يستطيع أن ينسى كيف انطلقت من على منبر الأزهر كلمة الأب سرجيوس معلنا قوة التعاضد والتكاتف بين مسلمى مصر ومسيحييها ضد الغاصب الانجليزى المحتل
أدوار سياسية
ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق عاملا آخر، من العوامل التي ساهمت في تمكين الأزهر من القيام بدوره في تلك المرحلة التاريخية الحاسمة، وهو استقلال موارده عن الدولة، إذ كانت موارد الأزهر هي من الأوقاف التي أوقفت عليه منذ العصر المملوكي، وقد كانت أوقافاً ضخمة تكفل له امكانية الاستقلال عن مصروفات الإمارة وإرادتها السياسية.
وقد كفل الاستقلال السياسي والمالي للأزهر القدرة على لعب دور سياسي يتجاوز حدود الفتوى الدينية، وإمامة المسلمين في الصلاة، إلى توجيه وتقويم الإمامة السياسية في حالات الاستبداد و التغول على العامة أو التقصير في حق القضايا الاسلامية الكبرى كواجب الجهاد.
ومن رحم الأزهر خرجت أولى محاولات التنوير والاستنارة العلمية، ووضعت أولى خطوات النهوض علي أيدي الشيخ حسن العطار ورفاعة الطهطاوي ومدرسته التي امتد تأثيرها لما يربو على القرن والنصف. وبعد الف سنة ويزيد لا يزال الأزهر اليوم يتحسس خطواته نحو تجديد الفكر الديني، وإزالة مواطن الجمود، وبواعث التقوقع النفسي في تراثنا الإسلامي، ومواجهة جماعات العنف الديني التي تستند إلى نصوص تراثية مجتزئة أو مقتطعة من سياقها التاريخي والاجتماعي.
رفاعة الطهطاوي