في كتابه العمدة شروط النّهضة يسائل مالك بن نبي حركات الإصلاح والتّجديد؛ على الرّغم من انخراطه فكريّاً وعمليّاً في مشروعها، واهتمامه بالتأريخ لها. فالمجتمع الجزائريّ الذي تربّى فيه مالك بن نبي، شأنه شأن المجتمعات العربية الإسلامية، كان لا يزال غارقاً في بحر الخرافات وانتظار المعجزات، إلى أن استيقظت الأمّة العربية الإسلامية على نداء موقظ الشّرق السّيد جمال الدّين الأفغاني (1254– 1314هـ / 1838- 1897م)؛ داعياً إيّاها إلى يوم جديد وزمن جديد. وهو ما عبّر عنه بالقول: «ولكنّ شمس المثالية ما تزال تواصل سيرها، وسرعان ما انبلج الفجر في الأفق الذي يدعو فيه المؤذّن إلى الفلاح كلّ صباح؛ ففي هدأة الليل وفي سبات الأمّة الإسلامية العميق، انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حيّ على الفلاح! فكان رجعه في كلّ مكان؛ إنّه صوت جمال الدّين الأفغانيّ، موقظ هذه الأمّة إلى نهضة جديدة ويوم جديد».
فمما لا شك فيه أن مشروع مالك بن نبي لم يكن بمعزل يوماً ما عن السّياقات الفكرية الأخرى التي اشتغلت على سؤال النّهوض والتّجديد: نشأة، وسيرورة، ومآلاً؛ وفي مقدّمتها: مشروع الإمام محمّد عبده بتفرّعاته المختلفة، حيث يعتبر مالك بن نبي نفسه أحد أعضاء حركة الإصلاح والتّجديد، مثلما كان مقرّباً من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ التي تمّ تأسيسها في العام 1931، برئاسة الشّيخ عبد الحميد بن باديس (1307- 1359هـ/ 1889- 1940م)؛ بهدف تعميق وعي الأمّة بالمقوّمات الحضارية والثقافية للإسلام، ودوره- بوصفه الجامع المشترك الأعظم لجميع عناصرها عبر الحقب والعصور- في حفظ الكيان الجزائري من التّدمير، الذي يتعرّض له بسبب الاستعمار، والحفاظ على ما يسمّيه الشّيخ: الذّاتية الجزائرية العربية الإسلامية.
وبطبيعة الحال؛ فإنّ سؤال النّهضة لم يكن منبت الصّلة في فكره عمّا خطّه معاصره الشّيخ طنطاوي جوهري (1279- 1358هـ/ 1862- 1940م)، في كتابه: نهضة الأمّة وحياتها، وبما سبق أن طرحه الأمير شكيب أرسلان (1869- 1964) في كتابه: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟. كما اطلع مالك بن نبي بصورة خاصّة على ما كتبه أحمد رضا في كتابه: الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشّرق، ورسالة التّوحيد للأستاذ الإمام محمّد عبده؛ حيث يعتبر أن هذين الكتابين كانا بمثابة الينابيع البعيدة والمحدّدة لاتجاهه الفكريّ؛ وذلك من خلال شواهد الكتاب الأوّل في رصد بهاء المجتمع المسلم في ذروة حضارته، وكذا مقدّمة ترجمة رسالة التوحيد، التي كتبها الشّيخ مصطفى عبد الرّازق (1304 تقريبا- 24 ربيع أول 1366هـ / 1885- 1947م)، وعرض فيها لثراء الفكر الإسلاميّ عبر العصور.
يقول مالك بن نبي في مذكراته: «وكان آخر هذه المؤثّرات كتابان عثرت عليهما في مكتبة النّجاح، أعدّهما الينابيع البعيدة والمحدّدة لاتجاهي الفكري؛ أعني بذلك كتاب: الإفلاس المعنوي للسّياسة الغربية في الشّرق، لأحمد رضا، ورسالة التّوحيد للشّيخ محمّد عبده. وقد تولّى الشّيخ مصطفى عبد الرّزاق ومستشرق فرنسي (برنار ميشيل) ترجمتها للفرنسية. هذان المؤلّفان أثّرا على ما أعتقد في أبناء جيلي من المدرّسين. أنا مدين لهما على كلّ حال بذلك التّحوّل في فكري منذ تلك الفترة. لقد رسم لي كتاب أحمد رضا- مزوّداً بالشّواهد الكثيرة- بهاء المجتمع الإسلاميّ في ذروة حضارته، وكان ذلك معياراً صحيحاً نقيس به بؤسه الاجتماعيّ في العصر الحاضر. أمّا كتاب محمّد عبده- وهنا أتحدّث عن المقدّمة الهامّة المترجمة حول غنى الفكر الإسلاميّ عبر العصور- فقد أعطاني مستنداً للحكم على فقره المحزن اليوم».
والواقع أن كتاب شروط النّهضة يلخص- أن لم نقل: يعبّر في جوهره ومضمونه- عن المشروع الفكري لمالك بن نبي برمّته. ويكفي للدّلالة على هذا؛ أن نقف على بنية شبكة المفاهيم المستخدمة في هذا الكتاب وفي مقدّمتها: التّاريخ، الحضارة، الثّقافة، الزّمن، السّنن، التّغيير، النّهضة …الخ، لندرك كلّاً من: الأصالة في العرض والتّفكير، والعمق في التّحليل والتّقديم؛ فضلاً عن الصّرامة المنهجية منقطعة النّظير على مستوى كلّ من النّقد والتّمحيص.
من جهة أخرى؛ يكشف شروط النّهضة عن تواصل مؤلّفه مع سؤال النّهضة العربية، الذي اعتنى به رجالات الإصلاح والتّجديد. وكما لاحظ الأستاذ أحميدة النّيفر؛ فإنّ ما تبرزه لنا ابتداء قراءة كتابه وجهة العالم الإسلاميّ في سلسلة: مشكلات الحضارة؛ هو هذا التّموقع الفكري الذي يحرص مالك بن نبي على إبرازه حين كان يتناول مسألة النّهضة، التي تولّى الإصلاحيون العرب تركيزها في القرن التّاسع عشر الميلاديّ. ففي هذا الأثر المنهجي- على وجه الخصوص- ندرك نوع العلاقة النّقدية التي حرص مالك بن نبي على إرسائها مع الفكر الإصلاحيّ؛ والذي يتّضح من خلال تقويمه لأبرز الوجوه الإصلاحية؛ كجمال الدّين الأفغانيّ، ومحمّد عبده، والسيّد أحمد خان (1233- 1316هـ/ 1817- 1898م)، ومحمّد رشيد رضا (1282- 1354هـ/ 1865- 1935م)، وغيرهم.
أمّا على مستوى الحياة العملية لمالك بن نبي؛ فقد لعبت الآثار الفكريّة التي خلّفتها حركة الإصلاح والتّجديد الإسلاميّ دوراً كبيراً في تصحيح المسار الفكريّ لمالك بن نبي، الذي غادر الكتّاب في قسنطينة ولمّا يتجاوز سورة الأعلى؛ على الرّغم من قضائه فيه أربع سنوات كاملة، حيث كان يجد صعوبة بالغة في الجمع بين منهج الحفظ في الكتّاب من جهة، ومنهج القراءة في المدرسة الفرنسية من جهة أخرى. وفضلاً عن ذلك؛ فإنّ تفرغه للدّراسة في المدرسة الفرنسية أوقعه في حيرة من أمره؛ بسبب انجذابه إلى عناصر الأصالة فيه: تراثاً، وتراباً، وإنساناً. وقد تحقّق له شيء من التّوازن النفسيّ أوّلاً بفضل معلّمته للغة العربية «بهيجة» في القسنطينة، وبفضل الشّيخ «مولود بن موهوب» ثانياً؛ الذي يدعوه بأستاذ المدرسة وفتى المدينة.
وعلى الرّغم من كثرة ورود اسم ابن الساعي ضمن تضاعيف مذكّرات مالك بن نبي؛ فإنّ شخصية هذا الرّجل لا تزال غامضة إلى حدّ كبير. والسّبب في ذلك ربّما يعود إلى طبيعته الشّخصية وتركيبته النّفسية المعقّدة. أضف إلى ذلك أيضاً، أن ما خلّفه من كتب وآثار لم يصلنا منها شيء على الإطلاق؛ من مثل: كتابات حول ذكريات الشباب، وفي خدمة الجزائر، وفي خدمة الإسلام، ومذكرات رجل عانى الكثير، ومحاضرات حمودة بن الساعي. وبمراجعة ما كتبه مالك بن نبي حول هذه الشّخصية الغامضة تستوقفنا مجموعة من الأمور المهمّة؛ في مقدّمتها النّقاط الخمس التّالية:
أولاً: يشترك ابن السّاعي ومالك بن نبي في عيش طفولة تعسة، حيث لم يستكمل أولهما دراسته؛ لأسباب نفسية واجتماعية تتعلّق بالفقر على الأرجح. والدّليل على ذلك أنّه بعد أن قضى حياة حافلة في فرنسا عاد ليستقرّ بمسقط رأسه بباتنة، واشتغل كاتباً عموميّاً بإحدى المقاهي الشّعبية حتّى وفاته. أمّا مالك بن نبي؛ فقد عانى من ويلات ظروف عسيرة جدّاً؛ بسبب وفاة عمّه الأكبر في قسنطينة، وكان قد تبنّاه منذ أمد طويل، ممّا اضطره إلى العودة لأهله في تبسّة؛ بسبب ضعف موارد زوجة عمّه التي لم تعد تسمح بإعالته.
ثانياً: من اللافت للنّظر حالة التّوافق في ما بين الشّخصيتين؛ على الرّغم من تفاوتهما في النّظر لواقع ومستقبل العالم الإسلاميّ، حيث كان يغلب طابع التشاؤم على شخصية ابن السّاعي، على خلاف طبيعة مالك بن نبي.
ثالثاً: كان مالك بن نبي يرى بصيص أمل في حركة الإصلاح والمنزع الوهّابي، على عكس ابن السّاعي الذي كان يتحفّظ على هذا المسار، مكتفياً بالاتفاق مع مالك بن نبي حول ما يخصّ دور الإسلام في النّهوض بالشّعوب الإسلامية. ومن بين مظاهر الاختلاف بين الشّخصيتين؛ أن ابن السّاعي كان يعاني من حالة عدم اتزان مشؤوم يجمع بين طموح جبّار وإرادة واهية. ونتيجة لذلك؛ كان طموحه يعرقله عن العمل المشترك الخاضع للإرادتين، في ما كان ضعف إرادته يعطّله عن العمل الفرديّ المتواصل. ومع ذلك؛ فإنّه كان يبدو وكأنّ شيطان المعرفة قد استولى عليه منذ صباه، لذا فإنّ بن نبي كان يدين له في اتجاهه كاتباً متخصّصاً في شؤون العالم الإسلامي.
رابعاً: يعود الفضل إلى ابن السّاعي في تعريف مالك بن نبي بأعلام الثقافة في فرنسا؛ أمثال لويس ماسينيون، فقد غلب على علاقتهما ما يطلق عليه بن نبي مسمّى «مدرسة المعايشة»؛ وهي التي يصير فيها التّلميذ أستاذاً أحياناً والأستاذ تلميذاً أحياناً أخرى. كما كان ابن السّاعي- بحسب مالك بن نبي- على مذهب الغزالي وباسكال في التّفكير، حيث رسمت محاضراته في فرنسا منعطفاً جديداً وذا دلالة كبيرة في تلك الفترة (1932م)، إذ أبرزت جيلاً جديداً من الطلبة الجزائريين بدأ يتكلّم العربية ويكتب بها، على عكس الجيل السّابق الذي كان لا يستعملها على الإطلاق: إمّا جهلاً بها، أو تجاهلاً لها.
خامساً: كان مالك بن نبي يطمح رفقة صديقه ابن السّاعي إلى وراثة جمعية العلماء بعد الانتهاء من الدّراسة، وكانا يأنسان في أنفسهما الجدارة لخوض معركة الاستقلال مع المحافظة على الخط الإصلاحيّ ونتائجه في الوطن؛ وهذا ما كان يميزهما عن بقية المثقّفين المعاصرين لهما. كما كانا يستقبلان معا الوافدين من الأزهر، ويساعدوهم في تعلّم اللغة الفرنسية؛ أمثال الشّيخ عبد اللّه درّاز، ويتعرّفون من خلالهم على أحوال المشرق الإسلاميّ.
نقلا عن: الحياة