للفنون قيمتها الحضارية، لكنها تحتاج إلى ذائقة سليمة، تصنعها حساسية متفاوتة للجمال، وثقافة عريضة بمنجزات الإنسان، وروح تواقة للإبداع والإبتكار، وربما تكون هذه الأمور هي العوامل الحاسمة في موقف الأديان والشعوب من الفنون وتقديرها لها، أو معارضتها بمنعها وتحريمها، فلا فارق بين مسلم تهفو نفسه إلى الاستمتاع بالفنون بصريا و سمعيا، وبين آخر يحرمها ويقف منها موقف الرفض سوى قدرة الأول وملكاته في الاستمتاع بها وإدراك نقاط تميزها وقيمتها الجمالية، وعجز الثاني عن الوصول إلى كنهها وإدراك جوهرها، وقديما قال أحد الفلاسفة (إذا أردت أن تعرف مبلغ شعب من الشعوب من الحضارة فاستمع إلى موسيقاه).
كان المفكر الألماني مٌراد ألفريد هوفمان في بدايته مولعا بالفن والجمال الساكن كالرسم والنحت والعمارة والخط، وسرعان ما لفت انتباهه جمال الفن التشكيلي الذي يرى أن الإحساس به يزداد كلما زادت قدرته على الإيحاء بالحركة، وتطور هذا الاهتمام إلى انبهاره الشديد بعروض رقص الباليه، حتى صار ناقدا مرموقا في الباليه في أعمدة صحف ألمانيا وبريطانيا وأمريكا، وعمل محاضرا لمادتي تاريخ وعلم جمال الباليه بمعهد كولونيا للباليه فى الفترة بين عامي 1971 و1973.
الولع بالفن والعمارة الإسلامية
خلال وجود «هوفمان» في الجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية بحكم عمله دبلوماسيا لفتت انتباهه الأعمال المعمارية الإسلامية كالمساجد والمدارس والأبنية القديمة. ويقول «هوفمان» في هذا الصدد: «ألهمتني أعمال معمارية، مثل قصر الحمراء في غرناطة والمسجد الكبير في قرطبة بإسبانيا، اليقين بأنها إفراز حضارة راقية رفيعة» هكذا أدرك هوفمان أن وراء تلك الفنون الراقية حضارة ذات قيمة وهدف سامييْن، وأن في هذا الدين الذي أفرز تلك الحضارة، ما يسترعي الانتباه، ويدعو للتأمل في مفاهيمه وقيمه.
لقد أُعجب هوفمان بالفن الإسلامي حتى فقد الإحساس تجاه الفنون الأخرى: «صار الفن الإسلامي وطنا جماليا لي، مثلما كان الباليه الكلاسيكي من قبل. وأصبحت أرى الأعمال الفنية للعصور الإغريقية والقوطية ولعصر النهضة مثيرة وعريقة ولكنها لا تنفذ إلى داخلي، ولا تحرك عواطفي ولا مشاعري. إنني أدرك قوة جاذبية هذا الدين الآن أفضل من ذي قبل» صارت الفنون الإسلامية بالإضافة إلى ما سمحت به سنوات عمله في كل من الجزائر والمغرب كسفير للجمهورية الألمانية – وسائل للتعرف على سمات الشخصية الإسلامية التي لم تقهرها سنوات الحصار والاحتلال من قبل قوى الاستعمار الغربي في أبشع صوره ممثلا في الاحتلال الفرنسي.
https://youtu.be/22Q8pXIXYoI
قوة الإسلام الناعمة
كانت السمة الأبرز لإسلام «مٌراد هوفمان» هى قدرته كمثقف ودبلوماسي غربي على إعادة قراءة الكثير من المفاهيم الإسلامية وفق معايير جمالية ربما لا ينتبه لها أغلب مسلمي المشرق الإسلامي. ونذكر هنا تلك الواقعة التي تلت إسلام مٌراد هوفمان، وهو أمر كان له كثير من الأصداء على المستويين العربي والدولي بعدما أشهر سفير دولة ألمانيا المفكر والدبلوماسي ذائع الصيت إسلامه في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1980. فقد وجهت إليه دعوة لأداء فريضة الحج من قبل ملك السعودية الراحل فهد بن عبدالعزيز، في البداية حاول هوفمان التعرف على أحكام وشروط الحج الإسلامي من خلال القراءة في مصنفات الفقه الإسلامي. كما حاول أيضا التعرف على الحج من خلال وجهة نظر بعض المستشرقين الأوربيين الذين انتهت الرحلة ببعضهم إلى الإسلام، ولكن وفقا لهوفمان فإن أحدا لم يمكنه أن يرى أمرا مهما في تلك الفريضة العجيبة التي تجمع أجناس البشر على تفاوتهم في زي واحد متجردين من علائق الدنيا، ومتحركين في حركة دائرية حول مركز واحد للكون يقول هوفمان في كتابه الماتع «الطريق إلى مكة»: «النظر من هنا إلى أسفل يكاد يكون كالتنويم المغناطيسي، والمشهد شديد الجمال، فالكعبة تبدو كمركز ثابت لا يتحرك لأسطوانة تدور ببطء وفي سكون تام في اتجاه مضاد لاتجاه عقارب الساعة، ولا يتغير هذا المشهد إلا عند الصلاة، حيث تصير الكعبة مركزا لدوائر عديدة متحدة المركز، تتكون من مئات الآلاف من أجسام ناصعة البياض، لأناس يرغبون في، ويبحثون عن، ويفعلون الشيء ذاته، رمزا لتسليم النفس إلى بارئها..»
ومن المهم هنا أن نلفت الانتباه إلى تلك القوى الناعمة التي تمثل مصدر قوة حقيقية للدين الإسلامي ومنجزاته الثقافية والحضارية في ذاتها، فمن الخطأ الاعتقاد أن قوة الإسلام ارتبطت بتلك المقدرة على تجييش الجيوش وإلحاق الهزائم بالإمبراطوريات القديمة كالفرس والروم. قوة الإسلام تكمن في قدرته على إطلاق الطاقات الإبداعية، ومرتبطة بما قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية من منجزات علمية وفنون في النحت والتصوير والموسيقى والعمارة، وهي اللغة الأنسب لمخاطبة أبناء الحضارات الأخرى. أما تلك الآراء التي تنحو بنا نحو تحريم الفن وتحجيم الإبداع فلا هي من الحضارة ولا من الإسلام في شىء.