حفل التراث الجغرافي العربي على مر العصور بالعديد من الرحالة الذين جابوا آفاق العالم المعمور شرقاً وغرباً، وسجلوا لنا تفاصيل مشاهداتهم عن تلك البلدان بدقة، وحفظوا لنا جزءاً مهماً من تراثنا نعتز ونفتخر به. ومن أشهر هؤلاء أبو عبدالله محمد بن إبراهيم اللواتي المعروف بابن بطوطة، الذي خرج من بلدة طنجة في شهر رجب عام 725ھ وعمره اثنان وعشرون عاماً، يحدوه شوق المغامرة والسفر لرؤية بقاع جديدة فارتحل للتعرف على بيئات مختلفة عن بيئته التي انطلق منها، ليبدأ سلسلة من الرحلات استغرقت زهاء تسعة وعشرين عاماً، جاب خلالها أقطار العالم المعمور في وقته، ورسم لنا بقلمه صورة حية بكل ما شاهده في تلك البلدان والتي دوَّنها في كتاب بعنوان: «تحفة النظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار».
اهتم ابن بطوطة برصد مظاهر الاحتفال بشهر رمضان عبر مشاهداته المباشرة للأحداث وتفاعله معها، فمن الثابت تبعاً لما جاء في رحلاته أن حكام البلاد وأعيانها كانوا يحسنون استقباله ويكرمون وفادته، الأمر الذي أثرى مشاهداته لواقع الأحداث. وصف ابن بطوطة مظاهر الاحتفال بليلة الرؤية خلال زيارته لقاضي مدينة «أبيار» في دلتا مصر، إذ صودف أن الزيارة كانت يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان (يوم الركبة) كما أسماه الرحالة، أي يوم اقتراب هلال رمضان.
ويذكر ابن بطوطة أنه جرت العادة في هذا اليوم أن يجتمع فقهاء المدينة وأعيانها بعد العصر في دار القاضي ومنها يتوجهون إلى مكان مرتفع خارج المدينة مخصص لرؤية الهلال وذلك في موكب ضخم يحفه الرجال والنساء والصبيان، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ابتهاجاً بحلول الشهر الكريم. تحدث عن استعدادات أهل مكة المكرمة في استقبال الشهر الكريم، قائلًا: «وإذا أهلَّ هلال رمضان تضرب الطبول عند أمير مكة، ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نوراً، وتتفرق الأئمة فرقاً هي الشافعية والزيدية والحنفية والحنبلية، أما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء ويجتهد كل فريق في قراءة القرآن وإحياء ليالي رمضان».
ولم يغفل ابن بطوطة وقت السحور في مكة، فأوضح أنه كان يتولى هذا الأمر مؤذن في شرقي المسجد الحرام كان يطلق عليه «المؤذن الزمزمي»؛ لأنه كان يقيم في صومعة تقع أعلى بئر زمزم، بالقرب من دار أمير مكة. ويقوم هذا المؤذن، بمهمة تسحير أهل مكة من خلال الأدعية والأذكار. ومن ضمن عادات أهل مكة الخاصة بالسحور قيام المؤذنين برفع خشبة طويلة بها قنديلان كبيران من الزجاج قبل الفجر، وهو إيذان لأهل مكة بتناول طعام سحورهم، وعندما يحين وقت أذان الفجر يطفئ المؤذنون القنديلين ليمتنع الناس عن تناول الطعام أو الشراب.
أخبرنا ابن بطوطة عن عادات تناول الإفطار في عدد من البلدان الإسلامية التي زارها، فيذكر من فضائل الدمشقيين في الشهر الكريم أنه لا يتناول أحد من أهلها الإفطار وحده؛ فالأثرياء كانوا يعقدون في بيوتهم ولائم يدعون إليها أصحابهم والفقراء يفطرون عندهم، أما عامة الناس فإنهم يجتمعون كل ليلةٍ في دار أحدهم أو في المسجد، ويأتي كل واحدٍ منهم بما عنده من طعام، فيفطرون جميعاً في شبه وليمة مشتركة. وكذلك من عادات أهل سلطنة مالي في السودان الغربي أن يفطروا في إحدى الدور، ويأتي كل واحدٍ منهم بطعامه.
ومرَّ عليه شهر رمضان في مدينة «هنور» في جنوب الهند حالياً، ووصف طريقة تقديم الإفطار لدى سلطانها، حيث تحضر مائدة نحاسية عليها صحاف مثلها، وتأتي جارية حسناء ملتحفة بثوب حريري فتقدم قدور الطعام بين يدي السلطان، فتبدأ بالأرز وعليه السمن والفلفل والزنجبيل والليمون والمانجو المملحة، يليه الدجاج والسمك ويختم الإفطار باللبن الرائب. وهَلَّ عليه شهر رمضان في بداية جولته في بلاد الروم في بلدة “أكريدور” فكان إفطاره في ضيافة سلطانها أبو إسحاق بك بن الدندار، فذكر أن أهل تلك البلاد يبدأون إفطارهم بالثريد وهو عبارة عن عدس يسقى بالسمن والسكر، تبركاً بالرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون: «إن النبي فضل الثريد على سائر الطعام فنحن نبدأ به لتفضيل النبي له».
تحدث ابن بطوطة عن دروس العلم التي حضرها برمضان خلال رحلته، فذكر أن دروس الفقه والحديث كانت تنتظم بالجامع الأموي في دمشق خلال شهر رمضان ويحضرها جمع غفير من الفقهاء وطلاب العلم، وقد سمع جميع صحيح البخاري خلال أربعة عشر مجلساً، أولها يوم الثلثاء منتصف شهر رمضان، وآخرها الثامن والعشرون منه. وكانت دروس رمضان في جامع دمشق يحضرها أيضاً عدد من السيدات اللواتي جَلَسْنَ للتدريس وأجزن رجالاً كان من بينهم ابن بطوطة الذي ذكر أن من بين مَن أجازوه إجازَة عامة الشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت محمد بن مسلم الحراني، والشيخة الصالحة رحلة الدنيا زينب بنت كمال الدين أحمد بن عبد الرحيم المقدسي.
أفاض ابن بطوطة في وصف العشر الأواخر لرمضان بمكة المكرمة وحرصهم على قراءة القرآن، وختمه في الليالي الفردية من هذه العشر الأواخر، وكان القضاة والشيوخ والفقهاء يحرصون على حضور هذه الختمات، وكانت تتم مضاعفة الإضاءة ليلاً خلال العشر الأواخر من شهر رمضان، ولاسيما في الليالي الفردية منها، ومن يختم بالناس يكون أحد أبناء كبار أهل مكة، وعندما يختم القرآن، يخطب على منبر مزين بالحرير وموقد بالشمع، وفي نهاية الخطبة، يدعو الناس إلى مأدبة كبيرة تحوي الكثير من الأطعمة والحلويات، وهذه عادة في جميع أيام الوتر. وأعظم الاحتفالات تقام في الليلة 27 من شهر رمضان، فيُختم بها القرآن، وتضاء القناديل حتى تكاد الأبصار تغشى من النور المنبعث، ثم يتقدم الإمام فيصلّي بهم فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر، وبعد الختمة والخطبة، ينفضّ الجميع، وفي المقام المالكي تكون الخاتمة بليلة 29 في منظر مختصر فيختم ويخطب.
نقلا عن: الحياة