«إن كان منزلتي في الحب عندكم .. ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمنا .. واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وأن يكن فرط وجدي في محبتكم .. إنما فقد كثرت في الحب آثام»
تلك الأبيات هي بعض مما نظم الإمام المتصوف عمر بن الفارض من قصائد وأشعار، في تعظيم الحب الإلهي، والذي ذاب عشقا في الله، فنظم جل أشعاره تعبيرا عن هذا العشق، ما جعله يحمل عن جدارة لقب «سلطان العاشقين».
ومن هنا فإنه لا يمكن بأي حال أن نتجاوز عمر بن الفارض، هذا الصوفي الكبير، عند الحديث عن أئمة المسلمين وعلاقتهم بالشعر.
القاهرة.. أرض الميلاد وبداية رحلة التصوف
أسمه أبو الحفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، ويعرف بابن الفارض، نسبه للقب والده الذي جاء من حماة بالشام للعمل بالقاهرة، فارضا: أي الذي يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يدي الحاكم، لذا لقب بلقب الفارض، وحمل ولده لقب ابن الفارض.
تشير دكتور سعاد ماهر محمد في دراستها المعنونة «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون»، إلى أن المورخين اختلفوا فيما بينهم حول تاريخ مولد ابن الفارض، الذي ولد بالقاهرة، وإن كان المرجح أن يكون مولده سنة 576 هجرية، الموافق سنة 1181 ميلادية، وفقا لما ذكره ابن خلكان، الذي كان معاصرا لابن الفارض.
عاش عمر بن الفارض في كنف الدولة الأيوبية، وحفظ القرآن في صباه، وتتلمذ على يد شيخه أبي الحسن على البقال صاحب «الفتح اللدني والعلم الوهبي»، وتعلم الحديث عن الحافظ بهاء الدين أبو محمد القاسم، وسلك منذ شبابه طريق التصوف.
وقد روي علي حفيد ابن الفارض بداية رحلة جده مع التصوف وعلاقته بوالده، في كتاب حمل أسم «ديباجة الديوان»، حيث يقول: «سمعت جدي يقول: كنت في أول تجريدي أستاذن والدي وأطلع إلى وادي المستضعفين بالجبل الثاني من المقطم وآوي فيه، وأقيم في هذه السياحة ليلا ونهارا، ثم أعود إلى والدي لأجل بره ومراعاة قلبه.. وكان والدي يؤمئذ من أكابر أهل العلم والعمل، فيجد سرورا برجوعي إليه، ويلزمني بالجلوس معه في مجالس الحكم ومدارس العلم، ثم اشتاق إلى التجريد فأستاذنه وأعود إلى السياحة».. كان جبل المقطم بالقاهرة مكانا يسلكه العباد والزهاد، للعبادة والتأمل والإبتعاد عن مظاهر الحياة الدنيوية وصخبها».
وفي دراسته بعنوان «أئمة وشعراء غنائيون» يوضح الدكتور نبيل حنفي محمد، أن عمر بن الفارض سافر إلى مكة المكرمة لمدة خمسة عشر عاما، قضاها مجاورا لبيت الله الحرام، عابدا متأملا ينظم قصائده، ليعود بعدها إلى القاهرة لينقطع إلى العبادة والتأمل بقاعة الخطابة بالمسجد الأزهر، حيث أكمل ديوانه الذي مثل خلاصة تجربته الصوفية، بعد أن كان قد نظم معظم قصائده بالحجاز.
ابن الفارض وعلماء عصره
امتدت حياة ابن الفارض خلال دولة الأيوبين بمصر، تلك الدولة التي تميزت بعناية ملوكها برجال العلم والأدب والدين والتصوف. في هذا السياق يستشهد دكتور نبيل حنفي بما رواه ابن إياس في القسم الأول من كتابه الشهير «بدائع الزهور في وقائع الدهور» عن علاقة ابن الفارض بعلماء عصره، حيث يؤكد ابن إياس أن ابن الفارض كان على علاقة بكبار العلماء مثل برهان الدين الجعبري، وشهاب الدين محمد بن الخيمي الملقب بحامل لواء الشعر في عصره، والذي كان يطارح ابن الفارض الشعر، وغيرهما الكثير من علماء وفقهاء ذلك العصر.
أسهم اتصال ابن الفارض بتلك الشخصيات في تشكيل تكوينه العقلي والروحي، وهو ما أنعكس فيما بعد على تجربته في الشعر والتصوف.
تجربة بن الفارض الشعرية، كما يرويها بعض معاصريه، جاءت مصحوبة بالكثير من المعاناة مع عالم الشعر والتصوف والتوحد مع المحبوب الإلهي، فكان ابن الفارض يغيب عن الوعي يومين أو ثلاثة، حتى إذا ما أفاق.. طفق يدور حول عمود بالمسجد وهو ينشد قصائده الرائعة:
«ولي في الهوى علم تجل صفاته.. ومن لم يفقهه الهوى فهو في جهل».
أشعار ابن الفارض والغناء
يعد عمر بن الفارض، واحدا من أشهر الشعراء الصوفيين الذين تغنى المنشدون والمدّاحون بأشعارهم على مر القرون، حيث شاع ديوانه وأنتشر منذ رحيله وردده المنشدون جيلا بعد جيل، وكان من أشهر هؤلاء المنشدين، الشيخ الحويجي الذي أشتهر بإنشاد أبيات لإبن الفارض يقول فيها:
«ما بين معترك الأحداق والمهج.. أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
ودعت قبل الهوى روحي لما نظرت.. عيناي من حسن ذاك المنظر البهج..
لله أجفان عين فيك ساهرة.. شوقا إليك وقلب بالغرام شجي
عذب بما شئت غير البعد عنك تجد.. أوفى محب بما يرضيك مبتهج
وخذ بقية ما أبقيت من مرق.. لا خير في الحب إن أبقى على المهج»
مع مطلع القرن العشرين سجل الشيخ علي محمود أسطوانة أصدرتها شركة أوديون بالقاهرة، وتم توثيقها بفهرس الموسيقى والغناء العربي القديم الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، حيث لحن وأنشد الشيخ علي ثلاث أبيات فقط من قصيدة ابن الفارض «ته دلالا»
«ته دلالا فأنت أهل لذاكا.. وتحكم فالحسن قد أعطاكا
ولك الأمر فأقض ما أنت قاض.. فعلى الجمال قد ولاكا
وبما شئت في هواك اختبرني.. فاختياري ما كان فيه رضاكا»
https://youtu.be/O9Od8E5QS-g
لم تكن تلك الأبيات هى الأبيات الوحيدة التي أنشدها الشيخ علي محمود لابن الفارض، حيث أنشد له قصيدة أخرى تحت عنوان «أدر ذكر من أهوى» كان مستهلها:
«أدر ذكر من أهوى ولو بملامي .. إن أحاديث الحبيب مدامي»
مع إنطلاق الإذاعة المصرية عام 1934، أقدم عدد من المنشدين على تقديم أعمال ابن الفارض، كان منهم الشيخ أحمد أدريس، الذي تغنى بقصيدة «زدني بفرط الحب فيك»:
«زدني بفرط الحب فيك تحيرا .. وارحم حشى بلظى هواك تسعرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقة .. فاسمح ولا تجعل جوابي لن تراني
يا قلب أنت وعدتني في حبهم .. صبرا فحاذر أن تضيق وتضجرا
إن الغرام هو الحياة فمت به .. صبا فحقك أن تموت وتعذرا
قل للذين تقدموا قلبي من .. بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى
عني خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا .. وتحدثوا بصبابتي بين الورى»
توالى إهتمام الإذاعة المصرية بتقديم أعمال ابن الفارض، وكان المطرب الراحل إبراهيم حموده من أشجى الأصوات المصرية التي أنشدت العديد من قصائد ابن الفارض. وتوالي المنشدون المصريون ينشدون قصائده وصولا لياسين التهامي الذي أشتهر بإنشاد «خمرية» ابن الفارض:
«شربنا على ذكر الحبيب مدامة .. سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهى شمس يديرها .. هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم»
توفي عمر بن الفارض بالقاهرة سنة 632 هجرية الموافقة لسنة 1235 ميلادية، ودُفن بمقابر سفح جبل المقطم، حيث أقيم ضريح ومسجد ابن الفارض. الذي أنشد فيه أبو الحسن الجزار قائلا:
«لم يبق صيب مزنة إلا وقد .. وجبت عليه زيارة ابن الفارض
لا غزو أن يسقى ثراه وقبره .. باق ليوم العرض تحت العارض»