تفتقر المكتبة المصرية، خصوصا في السنوات الأخيرة، و التي قد تقترب من الثلاثين عاما، إلى الكتابات المهتمة بالاقتصاد السياسي، في حين تنتشر بدلا منها الكتابات المهتمة بالتحليل الاقتصادي الجاف والأكاديمي المحمل بالأرقام والنظريات. ويتصور البعض أن تلك الكتابات خالية من السياسة نظرا لأن أصحابها يصبغون عليها صفة الحيادية، رغم كونها فعليا وسيلة لترسيخ نمط اقتصادي معين «النيوليبرالية». من هنا تأتي أهمية كتاب «مًلاك مصر.. قصة صعود الرأسمالية المصرية» الصادر عن دار مرايا، والذي يحاول أن يقدم إجابات مختلفة عما نعيشه اليوم من ظواهر وأوضاع اقتصادية واجتماعية، وكيف بدأ، من خلال لغة ليست بالبسيطة ولكنها أيضا ليست بالمعقدة، لغة موجهة للقارئ العادي غير المتخصص، وقراءتنا تلك لهذا الكتاب المهم تتكامل بشكل أكبر مع قراءة سابقة لموقع «أصوات أونلاين» للكتاب الصادر عن نفس الدار بعنوان «أ- ب العدالة الاجتماعية».
صناعة الرغبة.. صناعة الجوع
في هذا الجزء الثاني من قراءتنا لكتاب «ملاك مصر» نجد أن الفصل الثاني من الكتاب يعتبر استكمالا للفصل الأول الذي ركز على كيفية صناعة فكرة المجتمعات العمرانية المغلقة «الكومباوند» كثقافة استهلاكية تم ترويجها داخل المجتمع، لكننا في الفصل الثاني والذي كتبه، محمد جاد، تحت عنوان «الغذاء.. صناعة الرغبة.. صناعة الجوع»، نجد أنفسنا أمام وجه أخر لترويج الثقافة الاستهلاكية.
إذا كنت من مواليد الأعوام الأخيرة من السبعينات ومعظم الثمانينات، ستجد نفسك مرتبطا بشكل أو بأخر بالحنين إلى سنوات وعيك الأولى، وستجد أن إعلان كيمو كونو أو سفن اب يا لذيذ يا رايق، مرورا ببستك بستك نو شيكولاتة جيرسي واكلة الجو، وكوتشي أميجو، وربما لبان هارتي أو كيكة نايتي، هي أجزاء مشتركة لنوستالجيا هذا الجيل.. حسنا كان ذلك العصر أوج ترويج ثقافة الاستهلاك.
يبدأ محمد جاد الفصل الثاني بسرد ملخص لبداية ظهور العادات الاستهلاكية الجديدة في عصر السادات، وكيف أن دولة ما بعد الانفتاح قد شجعت تلك العادات حتى وإن كانت مضرة بالاقتصاد الكلي. وقد أختار جاد للتدليل على بزوغ الثقافة الاستهلاكية الجديدة، الطريقة التي تم بها تقديم آيس كريم كيمو بناء على شهادة سابقة للرسام الراحل هاني المصري مصمم الدب الأزرق «كيمو»، حيث يقول جاد: «هاني المصري كان من جيل الانفتاح الاقتصادي وخلال سنوات عمله المبكرة في مجال التسويق عُرضت عليه مهمة إعادة تصميم الشعار التجاري للآيس كريم الذي تنتجه مطاعم جروبي الشهيرة».. «يقول المصري إن الشعار التجاري القديم كان عبارة عن صوره بقرة والهدف منه كان التأكيد على أن الآيس كريم مصنوع من لبن طبيعي، وهي رسالة موجهة إلى الأهالي بالأساس، لكي يطمئنوا على صحة أبنائهم، وبعد تفكير طويل في تيمة تجارية تناسب العصر الجديد، إبتدع الدب الأزرق الشهير بكيمو».. «ما يهمني في قصه كيمو أنها تعبر عن مرحله تحول كبيره في عالم تسويق من حقبة كان فيها الطلب على المنتج نابع من أسباب عقلانية، كأن يكون الآيس كريم مصنوع من ألبان طبيعية غنية بالعناصر المفيدة، إلى حقبة جديدة يكون الإلحاح الإعلاني فيها على صورة جاذبة للجمهور المستهدف (مثل الأطفال)».
ويشير جاد إلى ملمح مهم أخر في تلك القصة وهو الخاص بأن قطاع الأغذية والحلوى ظل لفترة طويلة يسيطر عليه صغار المنتجين وهو ما يعني أن علاقتها المباشرة مع المستهلك كانت تضمن استمرار جودة المنتج إلى حد كبير.
ويرى جاد أن تلك الفترة كانت دليلا على بداية استخدام الدعاية لإعادة تشكيل الميول الاستهلاكية للمواطنين، حتى وإن كان ذلك عكس ما يدعي منظرو الاقتصاد الحر من كون القانون الأساسي هو العرض والطلب «فالدعاية الجديده تقوم بربط المستهلكين بعلامة تجارية تنتمي إلى كيانات رأسمالية ضخمة ودولية في كثير من الأحيان، لا يعرف المستهلك أين تم إنتاج هذه السلع ولا يهتم بالسؤال عن مكوناتها، ومدى فائدتها له ولأسرته، وقد لا يكترث تحت تأثير الدعاية حتى بالسعر الحقيقي لهذه المنتجات وعدالة التكلفة التي تباع بها، الأهم هو تلبية نداء الشعار التجاري والإستجابة لغريزة التسوق التي ينميها طوال الوقت رجال الدعاية والإعلان».
ثم ينتقل جاد إلى مثال أخر في التحول الاستهلاكي في الغذاء وهو قطاع صناعات الألبان والتي يراها تعبيرا أمثل عن صناعة الطبقة الرأسمالية الجديدة بعد الانفتاح. فبعد المرحلة التي حاولت فيها الدولة في عصر ناصر تطوير تلك الصناعة وبروز اسم «مصرللألبان» كامبراطورية مهيمنة على تلك الصناعة وتابعة للقطاع العام حتى أواخر الثمانينات، جاءت مرحلة الخصخصة خلال التسعينات لتكون تلك الشركة مترامية الفروع والأصول على رأس الشركات التي تمت تصفيتها بشكل أو بأخر، وتواكب ذلك كما يشير جاد مع تغير النمط الاستهلاكي للمواطنين وبداية دخول أطعمة غربية تحتاج أنواع أخرى من الجبن مثل المودزريلا التي طرحتها شركة دومتي لأول مرة في السوق المحلي في بداية التسعينيات، لينتقل جاد للشراكة التي تمت بين شركة دومتي التي تأسست في 1984 مع شركة «تتراباك» للتعبئة والتغليف.
ويبرز هنا دور شركة التغليف تلك في إعادة توجيه نمط الاستهلاك، من خلال حملة الدعاية التي شجعت استهلاك منتجات الألبان المعبأة تحت شعار «صحتك في العلبة دي»، تلك الحملة أدت إلي تخفيض مستخدمي اللبن السائب بنسبة 57%، أما تترا باك فقد وصل حجم العبوات التي تبيعها في السوق المصري خلال 2014 إلى 3 مليارات عبوة.
في ختام هذا الفصل يشير جاد إلي أن مرحلة إعادة تشكيل رغبات المستهلكين، أدت إلى انه في عام 2016 حققت شركة «إيديتا» للمعجنات 288 مليون دولار كمبيعات في ذلك العام، وشركة «نسلة» صاحبة علامة «كيمو» 469 مليون دولار.