«لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذ لم يكن ديني إلى دينه داني.. وقد صار قلبي قابلا كل صورة.. فمرعى لغزلان ودير لرهبان.. وبيت لأوثان وكعبة طائف.. وألواح توراة ومصحف قرآن.. أدين بدين الحب أنى توجهت.. ركائبه فالحب ديني وإيماني» هذه الأبيات بعض من فيض محيي الدين بن عربي، ذلك الصوفي الذي لقب بالشيخ الأكبر، صاحب التأثير الصوفي الكبير، ليس على العالم الإسلامي فحسب، وإنما على العالم المسيحي أيضا.
الأندلس.. أرض الميلاد
ولد أبو عبد الله محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الشهير بـ «ابن عربي» بمدينة مرسية، إحدى المدن الكبرى ببلاد الأندلس(اسبانيا حاليا)، سنة 560 هجرية الموافقة لسنة 1165 ميلادية. حفظ «ابن عربي» القرآن صغيرا، ثم درس القانون والفقه بمدينة «لشبونة»، من ثم انتقل إلي «إشبيلية» التي مكث بها نحو ثلاثة عقود، حيث درس علوم القرآن والحديث، وانطلق بمعية الصوفيين فأنشد الشعر الذي أكسبه مكانه خاصة لدى الصوفيين وصفوة المجتمع الإسباني على حد سواء.
في كتابه «الصوفيون» والذي صدرت ترجمته إلى العربية عن المركز القومي للترجمة، يقدم المؤلف «إدريس شاه» الشيخ «ابن عربي» بوصفه أعظم رجل عرفته بلاد الأندلس، وقد حمل ضمن ما حمل من ألقاب لقب «الأندلسي»، ويرجع نسبه إلى «حاتم الطائي»، الذي اشتهر بأنه أكرم أهل الجزيرة العربية في العصر الجاهلي.
ويشير إدريس شاه إلى أن مؤرخى السير يربطون بين نشأة «بن عربي» الصوفية وبين علاقة والده بالصوفي الكبير «عبد القادر الجيلاني» الملقب «بسلطان الخلان»، الذي كان قد تنبأ بأن «ابن عربي» ستعلو هامته بمواهبه البارزة منذ صغره.
جولات.. في طلب العلم
لم يكتف بن عربي بطلب العلم في بلاد الأندلس فقط، وإنما انطلق جوالا بعدة بلاد طلبا للعلم والمعرفة. وعن تلك الجولات يستشهد الدكتور نبيل حنفي محمود في كتابه «أئمة وشعراء غنائيون»، بما ذكره المستشرق الإيطالي دكتور جوزيبي سكاتولين في كتابه «التجليات الروحية في الإسلام.. نصوص صوفية عبر التاريخ»، عن أن بن عربي تنّقل بين مدن كثيرة في بلاد المغرب ليحصل على المعارف من شيوخها، وكان من بين هؤلاء الشيوخ، الشيخ أبو مدين التلمساني.
كما مر «بن عربي» سريعا على مصر وفلسطين، وتوجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ومن مكة سافر إلى اليمن، ومنها رحل إلى العراق، وتنقل في بلاد آسيا الصغرى «تركيا حاليا»، وانتهى به المطاف في الشام، ليستقر بدمشق.
يضيف الدكتور نبيل حنفي أن ابن عربي التقى في كل بلد زاره بالعلماء ومشايخ الصوفية والأمراء، وحين استقر به المطاف بدمشق أتم نسخته الأولى من كتابه «الفتوحات المكية» سنة 629 هجرية، والذي كان قد بدأ في كتابته بمكة سنة 599 هجرية، من ثم أخذ ينقح تلك النسخة حتى فرغ منها تماما سنة 636 هجرية. وإلى جانب هذا الكتاب المهم، فإن مؤلفات ابن عربي في مجال العلوم الصوفية تعددت حتى بلغت أكثر من ثلاثمائة مؤلف، كان آخرها كتابه في تفسير القرآن.
بين الإتهام بالهرطقة.. والحقيقة الجوانية
اتُهم بن عربي في مراحل مختلفة من حياته بالهرطقة، إلى حد أنه تعرض لمحاولة قتل من قبل أحد المتطرفين، لكنه نجا منها بأعجوبة. غير أن ذلك لم يمنعه من أن يستمر في التعبير عن مشاعره الروحانية والتعبير عن الجمال الإنساني الذي كان يرى أنه متصل بالحقيقة المقدسة، لذا احتفت قصائده بتناول الجمال الأنثوي و في هذا السياق، يروي إدريس شاه عن زيارة «ابن عربي» لمكة ومقابلته لمجموعة من النازحين الإيرانيين، ممن ينتمون إلى الصوفية الباطنية وكان رئيس هذه المجموعة يدعى «مكين الدين»، وكانت له ابنة جميلة تسمى «نظام» أهداها «ابن عربي» العديد من قصائده التي كتبها بمكة وتتضمن الكثير من طروحاته الرمزية للدرب الصوفي الباطني في قصائد حب أو غزل.
يضيف إدريس شاه، أن البعض تعامل مع ديوانه «ترجمان الأشواق» على أنه مجرد مجموعة من القصائد الغزلية المكشوفة «الشبقية»، إلى حد أنه حين وصل «حلب» بسوريا، تعامل معه بعض علماء الدين، بوصفه مجرد مدعي، يحاول أن يسوغ الأشعار المكشوفة عن طريق الإدعاء بوجود معاني أعمق وراءها. غير أن الصوفيين في تعاملهم مع هذه القصائد يرون أن الحب المألوف الذي يعرفه الجميع ليس سوى جزء محدود، لا يستطيع الشخص العادى، تحت الظروف المعتادة، أن يمضي إلى ما هو أبعد منه، غير أن المتصوفة يرون أن هذا الحب يعد إمتداداً «للحقيقة الجوانية».
أشعار بن عربي وعالم الغناء
«بين التذلل والتدلل نقطة.. فيها يتيه العالم النحرير
هى نقطة الأكوان إن جاوزتها.. كنت الحكيم وعلمك الإكسير»
ردد المنشدون المتصوفون قصائد ابن عربي على إختلافها، غير أن أكثر ما أشيع عنه كان قد جاء في قالب الموشح، والموشح هو إبتكار أندلسي خالص أشار إليه أبن خلدون في مقدمته بقوله: «وأما أهل الأندلس، فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنا سموه بالموشح».
أخذت تلك الموشحات والمقطوعات الشعرية تجد طريقها إلى مجالس الصوفية وقصور الحكام واحتفالات الموالد، على حد سواء، وكان منها:
«الحق صورني في كل صورة.. كمثل بسملة من كل سورة.. أقامني عند حشر الناس سورة.. بجنة وبنار.. على اختلاف الذراري.. فأنا بين حي.. وميت في تبارى»
«ليت شعري هل دروا.. أي قلب ملكوا.. وفؤادي لو درى.. أي شِعْبٍ سلكوا.. أتراهم سلموا.. أم تراهم هلكوا.. حار أرباب الهوى.. في الهوى وارتبكوا»
وقد لعبت الإذاعة المصرية دورا في حفظ بعض موشحات بن عربي، حيث أقدم عدد من الموسيقيين والمشايخ المصريين على تلحين وإنشاد تلك الموشحات، كان منهم الشيخ على محمود، والشيخ أبو العلا محمد، وزكريا أحمد، ودرويش الحريرى وسيد مكاوي، والشيخ يوسف كامل البهتيمي الذي أنشد قصيدة بن عربي:
«فؤداي غدا من شدة الوجد في ظما.. إلى نحو من فوق السماوات قد سما
ولولاه ما اشتقت الحطيم وزمزما .. شغفت وقلبي مات في الحب مغرما
بأكرم خلق في البرية قد نشا»
https://youtu.be/eshh1cjp1CY
توفي محي الدين بن عربي في دمشق سنة 638 هجرية، الموافق لسنة 1240 ميلادية، ودفن بمقبرة القاضي محمد محيي الدين بن إبراهيم بن الزكي بجبل قاسيون. غير أن ما أبدعه في مجال الشعر والموشح مازال باقيا ليروي للعالم كيف أن أئمة الإسلام كانوا ومازالوا دعاة بهجة ومحبة وتراحم.