كلما جاءت سيرة الرواية العربية، يقفز إلى أذهاننا بعد نجيب محفوظ مباشرة، ثلة قليلة من الروائيين العرب الكبار، يأتى الطيب صالح وروايته المتفردة «موسم الهجرة إلى الشمال» فى مقدمتهم .ويطل «مصطفى سعيد»، البطل الأسطوري الخارق للرواية، من نافذة وسيعة فى بيت الإبداع العربى، راسما صورة ذهنية فريدة ومتفردة عن الإبداع السوداني، لذلك يقفز سيل من الأسئلة الكثيرة عن وحول هذا الإبداع فى البلد الشقيق، وحالة الغياب غير المبررة، أو ربما الخفوت وعدم التوهج، لخلفاء الطيب صالح، الذى فتح الباب على مصراعيه، للبحث فى الإبداع السوداني.
صحيح أن أسماء أدبية سودانية بارزة مثل أمير تاج السر، وحمور زيادة، وطارق الطيب، وهم الأقرب إلينا في المشهد الثقافي المصري لأسباب كثيرة، منها أنهم عاشوا في مصر، وكان لمصر وللمصريين دور في بزوغ نجم كل منهم، بالإضافة إلى كثيرين غيرهم، إلا أن الإبداع السودانى سواء على مستوى الرواية أو القصة القصيرة أو الشعر أو حتى الفن التشكيلى خفت كثيرا بعد الطيب صالح. فأغلب ما يتم انجازه ويصل الينا، هو نتاج منجز لكتاب ومبدعين سودانيين يعيشون بعيداً عن السودان الوطن والأرض، هم يكتبون عن واقعها من خارجها، وبذاكرة مجروحة خرجت من عزلتها لتكتب عن عزلتها «عن الألم والجرح والدم»، عن السجن والعزلة والهجرة نحو المجهول.
في هذا التحقيق عن راهن الإبداع السودانى بعد الطيب صالح يتحدث مبدعون سودانيون بمختلف تنوع مجالاتهم الإبداعية – عبر شهادات مهمة – قدموا خلالها إجابات عن الأسئلة الكثيرة التي يثيرها واقع الإبداع السوداني الآنى، سواء الرواية أو القصة القصيرة أو الفن التشكيلى، وكذلك عن أسباب حالة الغياب والصمت النقدي غير المبرر للإبداع السودانى، خاصة فى ظل المستجد الكبير الذى يطغى على كل شىء فى السودان الشقيق حاليا، وهو الثورة السودانية، التى ربما يتمخض عنها مد إبداعى جديد.
الإعلام العربى والابداع في السودان
فى البداية يقول الكاتب والروائى أسامة رقيعة: إن السودان يتمتع بوسط ثقافي غني ويشهد حراكاً محلياً جيداً الى حد ما، غير أنه يحتاج الى الدور المؤسسي و إلى الرعاية المستقرة، وهناك الكثيرون من كتاب السودان نجحوا في ربط المفردة السردية السودانية بالقارئ العربي خاصة ممن نُشرت أعمالهم عبر دور النشر العربية، بل إن بعضهم قد ترجمت أعماله الى عدة لغات عالمية حية، وبالتالي تخطوا الإقليم العربي إلى تخوم العالمية ولكن ، وعلى الرغم من كل ذلك أقر بأن كل هذه التجارب والنجاحات تظل تجارب ومجهودات فردية تحتاج إلي مؤسسية الدولة السودانية، وإلى وعي المجتمع كذلك بدور كتاب ومبدعي السودان أينما كانوا، وعبر رؤية تساعد في إيصال الصوت السوداني المبدع للعالم.
أسامة رقيعة
وفي ظل سهولة الاتصال والتواصل والثورة التكنولجية يتساءل رقيعة: لماذا يقف الإعلام العربي بعيدا عن الداخل الثقافي السوداني، فهو قد أسهم إلى حد كبير في تأطير الابداع السوداني أيضا، فلماذا لا يقوم كذلك ببعض من دوره الفاعل في عملية الربط هذه، وأظن أنها مسئولية ثقافية أخلاقية واجبة عليه.
سقف.. الطيب صالح
أما الشاعر والقاص و الروائى عادل يوسف، فيشير إلى أن المشهد الروائي السوداني يشهد تراكماً كمياً عالياً مقارنة بالسنوات التي مضت، وهذا بالضرورة يدفعنا إلى أن نمعن النظر في هذا المنتوج بغض النظر عن الشروط النوعية التي تفضي إلى استقرار الجنس الروائي وفرزه داخل السجل الإبداعي السوداني.
عادل يوسف
ويضيف: ظل المشهد الثقافي السوداني قابعاً في ظل المشهد الثقافي العربي باعتباره مشهداً تشكلت فيه مركزيات ثقافية أنجزت حضوراً قويَّاً لفترات طويلة، وهذا جزء من الإشكالية المرتبطة بالسياق التاريخي الذي شكلته الانقطاعات الثقافية على المستوى العربي وهوامشه الأخرى.. يمكننا هنا الحديث عن الرواية السودانية ما بعد الطيب صالح، وأن الطيب صالح كان استثناءً لكنه لم يعد سقفاً للرواية السودانية استناداً لجملة الأسئلة الآنية التي تعالجها الرواية اليوم، ومقترحاتها الجمالية في الشكل والمضمون، وفي ظني أن الأسئلة أصبحت في غاية التعقيد.
وبالنظر للخارطة الإبداعية السودانية اليوم -الروائية تحديداً – يرى عادل يوسف أن عدداً من المبدعين السودانيين باتوا يشكلون إضافة نوعية مميزة للرواية العربية، وأما القصة القصيرة السودانية فيمكن النظر إليها في ظل الانحسار العام للقصة القصيرة في المشهد العربي عامة لكنها مازالت موجودة.
ووفقا لعادل يوسف فإن القارئ العربي نفسه لا يعرف الكثير عن الروائيين السودانيين إلا مَنْ حالفه الحظ عبر ترجمة أعمالهم، أو الترويج لها عبر دار نشر قادرة على تسويق منتجها، «ولي تجربة شخصية في إحدى معارض الكتاب العربية، إذ لاحظت غياب اهتمام القارئ بالكتاب السوداني وعدم الالتفات له، واعتقد أن مردَّ ذلك لغياب الإعلام والتعريف به. مع أن انفتاح الفضاء الرقمي عبر ثورة الاتصالات ساهم مساهمة فاعلة في تثبيت بعض أسماء الروائيين السودانيين في السجلات العربية والعالمية.
ويؤكد الروائى الزين باتقا أن المشهد السردي السوداني يعبر عن نفسه بقوة ووضوح وهو لايعتمد في بنيته السردية إشكالية الرواية العربية على نحو مطلق، لأن الرواية السودانية تحفر بقوة لتأكيد خصوصيتها.. فالواقع الذي تعبر عنه الرواية السودانية يذهب بها بعيدا عن إشكاليات الرواية العربية التقليدية ليقارب إشكالياته.
ويضيف قائلا: أعتقد أن هذه الرواية تسير بخطى قوية صوب التعبير عن تعقيدات أفرزتها التعصبات المختلفة وربما تعطي سنوات أخرى من المداومة دلالات تعبر عن عمق الشرخ في اعتماد ثقافة سردية أحادية.
الزين باتقا
خصوصية الأدب السودانى
ويشير الروائى أمير تاج السر إلى أن الأدب السوداني هو أدب خاص جدا، أدب العرب والأفارقة في الوقت نفسه، بمعنى أن السودان بما يحتويه من تفاعل جيني بين العرب والأفارقة، حقق بيئة جيدة ومختلفة، وتصلح قطعا لكتابة لا تشبه الكتابات العربية الأخرى في كثير من الجوانب. قطعا سنجد القرية نفسها، السلوك القروي نفسه، المعتقدات نفسها، ولكن نجد أيضا قرية أخرى داخل القرية المألوفة، ومعتقدات أخرى تعيش جنبا إلى جنب مع المعتقدات المتوفرة في البلاد العربية الأخرى. والذي يعيش في السودان، ومن دون أن يشعر، يجد نفسه يعيش داخل قرية ثقافية كبرى، تشده للحياة والمشاركة فيها فالفعاليات الثقافية لا تنقطع أبدا وندوات القراءة ومناقشة الكتب تحدث حتى في الهواء الطلق، والحدائق العامة، كما يقول أمير تاج السر ، فالأجيال كلها منذ عهود إما تكتب أو تعشق الكتابة، رغم كل المحبطات السياسية والاقتصادية والمعيشية التي تلازم السودان منذ أن استقل في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
أمير تاج السر
ويرى تاج السر أن السودان من الدول العربية القليلة التي تشاهد فيها كتبا ضاعت ملامحها من كثرة ما تداولتها الأيدي في استعارات القراءة، وأيضا من الدول التي تجد فيها الأمسية الشعرية والندوة الأدبية مع كاتب، تعامل معاملة تقترب من المعاملة التي تجدها حفلات المطربين فى احتشاد المتذوقين.. لذلك فان الروائية ملكة الدار محمد، كاتبة من جيل قديم، كان يمكن أن تصبح من رائدات الأدب النسائي العربي، لو اتسع أفق إعلامنا السوداني، وكان هناك أبوبكر خالد مضوي، صاحب الروايات الاجتماعية الجيدة، مثل «النبع المر»، و«بداية الربيع»، التي كان يمكن أن تصنع له تاريخا عربيا، لو استُوعب عربيا، وكان قد نشر بالفعل في القاهرة وبيروت، في زمن صعب جدا، ثم كان الطيب صالح، الذي قفز طبعا بسمعة الأدب السوداني إلى أقصى الأماكن، ولذلك يعتبر السودانيون أن ما حققه الطيب، هو إنجاز للوطن كله، سيبقى ما بقي الوطن.
بعد الطيب جاء إبراهيم اسحق، ومحمود محمد مدني وبثينة خضر مكي، ثم جاء جيلي مع بركة ساكن وغيرنا، وجيل التسعينيات مثل أحمد الملك وغيره، والجيل الجديد مثل، منصور الصويم وكثيرين جيدين معه، وجاء حمور زيادة قويا ليحصد جائزة العظيم نجيب محفوظ بروايته الثانية المسماة «شوق الدرويش»، ويضيف كثيرا من البهجة والأمل لأولئك الذين يعانون من إحباط الكتابة، ولا يثقون في أن الأدب الجيد يمكن أن يُمنح ما يستحق، حتى لو كان كاتبه شابا، لم يشخ في سكة الكتابة.
كنوز تنتظر اكتشافها
وتقول الروائية آن الصافى: إن الإبداع نسيج أصيل في بنية الشخصية السودانية.. في السودان يوجد أجيال من المبدعين في الأدب والفنون وبأعداد جيدة ومنتوج غزير وقيم. هناك خصوصية تتعلق بالثقافة المحلية حيث تنوع فريد وفي الآخر هو سوداني البصمة، يتوفر إن صح التعبير، نوع من تمازج الأفريقانية والعربية ومعطيات حضارية أخرى تتعلق بذات الأرض.
آن الصافي
وتضيف: الساحة الثقافية السودانية زاخرة بالتجدد والتنوع والفعاليات المتواصلة من مهرجانات ومعارض وملتقيات أدبية وندوات فنية ودرامية ومسابقات في جميع الحقول تقريباً وطوال العام. ومن ملاحظاتي هناك من يكتفي بعرض منتجه محلياً وهناك من يتجاوزه للمتلقي في الغرب عبر إقامة معارض والمشاركة في مهرجانات أدبية وفنية عالمية؛ والإبداع الكتابي يعبر من خلال الترجمة للمتلقي عالمياً ولا يتوقف بالضرورة عند المتلقي العربي.. فالطيب صالح لولا عمله في بريطانيا لما سمع به القارئ في الوطن العربي.
وترى آن الصافي أن المشهد الإبداعي في السودان له بريق خاص يعرفه أهله جيداً وبعض المهتمين اقليمياً وعالمياً، كما من الملاحظ أنه في العقدين الأخيرين بفعل الجوائز الأدبية ظهرت أسماء من السودان للساحة العربية كما أتاحت تقنيات التواصل الحديثة فرصا جيدة للتعرف على نماذج إبداعية من أرض النيلين وكذلك فعل الإغتراب والهجرات لمبدعي الوطن في بقاع الأرض وهو ساعد في نقل منتجهم للساحات الأدبية الخارجية، وهذا ليس إلا القليل، فهناك الكثير من الكنوز تنتظر إكتشافها وهذه متعة لا يعرفها إلا الباحث عنها.
«يتبع»