في الجزء الثالث من قراءتنا لكتاب «مُلّاك مصر.. قصة صعود الرأسمالية المصرية»، والذي يحاول أن يقدم إجابات مختلفة عما نعيشه اليوم من ظواهر وأوضاع اقتصادية واجتماعية نعرض القسم الثاني من الكتاب والذي ركز علي كيفية حلول القطاع الخاص بدلا من القطاع العام، وكيف انتقلت عملية التراكم من ذلك القطاع إلى الآخر؟ وما رافق ذلك من تغير شروط ذلك التراكم ليصب في مصلحة النخب الصغيرة.
اقرأ أيضا:
كيف زحفت العناكب على الصناعات الهندسية؟
القسم الثانى الذى نعرض له مكون من ثلاثة فصول تضرب مثالا بثلاث صناعات هي الصناعات الهندسية، والنسيج، والاتصالات، كتب الفصل الثالث، عمر غنام، تحت عنوان «طقوس العناكب.. حلول القطاع الخاص مكان الدولة في الصناعات الهندسية».
المراحل الرئيسية الثلاث للصناعات الهندسية في مصر كما يقول الكاتب، هي بداياتها كاستثمار أجنبي مباشر، ثم تحولها إلى رمز للاستقلال والتحرر الوطني، وأخيرا وضعها كصناعة متباطئة تحت سيطرة رأس المال الخاص المحلي.
يشير غنام إلى أن الصناعات الهندسية شهدت العديد من التحولات في عصر السادات مثل باقي القطاع الصناعي، وقسمها إلي ثلاث مراحل هي «التحجيم، والتعطيش، وخلق الأسطورة»، وقبل الدخول في أمثلة لتلك المراحل اعتبر غنام أن مفهوم الصناعات الهندسية شمل عدداً من الصناعات المختلفة مثل السيارات والمراجل البخارية، والسفن، والسكك الحديد والكابلات البحرية والاليكترونيات، وهي الصناعات التي كانت تراها الدولة في عهد ناصر المحرك الأساسي للاقتصاد، وللنهضة الصناعية المستهدفة.
ويشير غنام، إلى أن الدولة في أواخر الخمسينيات، رغم خلقها لقطاع الصناعات الهندسية كمؤسسة تابعة لها إلا أن الباقي من الاقتصاد المصري كان يقع تحت يد القطاع الخاص، وأن جمال عبد الناصر قرر إنشاء الغرفة الهندسية داخل اتحاد الصناعات المصرية بهدف التعاون بين الرأسماليين الصناعيين والحكومة، «فحتى هذ الوقت كان عبد الناصر مازال يحدوه الأمل في أن تسارع البرجوازية الوطنية إلى الإسهام فى التنمية الاقتصادية».
وشهد القطاع بداية من الستينات، ضمن الخطة الخمسية الأولى في هذا الوقت، إنشاء العديد من المصانع مثل النصر للسيارات، والنصر لصناعة التليفزيون والإليكترونيات، النصر للمراجل البخارية، ويقول غنام «إنه خلال الخطة الخمسية الأولى والثانية شهد قطاع الصناعات الهندسية، نموا متسارعا، وتحسنا مذهلا، حيث تضاعف نصيب القطاع من القيمة المضافة الصناعية من 3.1% في عام 1960 لأكثر من 6.5% عام1967».
بداية التخلص من القطاع العام
ويرى غنام أن البداية الحقيقية للتخلص من القطاع العام كانت في عام 1971، مع صدور القانون رقم 60 لنفس العام الذي أعطى الأولوية داخل شركات القطاع العام لتحقيق أهداف ربحية، بدلا من كونه استثماراً تنموياً بالأساس، ثم قانون 65 لنفس العام، لتشجيع الاستثمار الأجنبي، ثم تلاها العديد من القوانين خاصة بعد الإعلان عن سياسة الانفتاح الاقتصادي في أكتوبر 1975 وبنهاية عام 1978 كان القوانين السابقة قد أتت ثمارها ويصاب القطاع العام بالترهل وهو ما يعتبره الغنام نهاية المرحلة الأولى للقضاء على القطاع العام وهي «التحجيم».
ثم يضرب غنام مثلا بعدد من الشركات من قطاع الصناعات الهندسية وهي الشركة العربية «تليمصر»، و«النصر-فيليبس» التي كانت في منتصف الثمانينات تنتج بما قيمته 94 مليون دولار وهي الشركة الأولى في الشرق الوسط في قطاع الأجهزة الكهربائية، لتصبح مجرد مصنع لمبات «نيازا» وتنتج ما قيمته 6 مليون دولار في 2007، بالإضافة لشركة النصر للسيارات التي كانت تستهدف صناعة سيارات بمنتج محلي 100%، وصعود شركات خاصة على أنقاض القطاع العام مثل «العربى» و«غبور أوتو» و«منصور» وبدايتهم أصلا كموزعين مستفيدين من شركات القطاع العام.
ويقول غنام في الختام أننا نعيش الأن المرحلة الأخيرة وهي «الأسطرة»، أي خلق أسطورة حول القطاع العام تختلط فيها الحقائق بالأكاذيب، «للترويج إلى أن الوضع الحالي هو أفضل ما في الإمكان».
اقرأ أيضا:
صناعة النسيج.. بعد وهم الانفتاح
في الفصل الرابع وتحت عنوان «صناعة المنسوجات في مصر.. تطوير أم تعميق للتخلف؟»، يحاول كريم مجاهد الإجابة على سؤالين، «كيف ساعد الانفتاح الاقتصادي في عملية التراكم الاقتصادي لصالح القطاع الخاص على حساب المصلحة العامة، وما هي أسباب فشل جهود القطاعين العام والخاص في إحداث طفرة كبيرة في صناعة الغزل والنسيج»”، عبر سرد لتحولات تلك الصناعة منذ الانفتاح وحتى الان.
حافظ مجاهد على تيمة الفصل السابق، لتأكيد وتوضيح، سياسات الحكومات المتعاقبة بعد الانفتاح الاقتصادي للتخلص من القطاع العام ومساعدة القطاع الخاص، عبر رصد لتطور حالتين في هذا المجال وهما، عرفة جروب والنساجون الشرقيون.
شركة النصر للغزل والنسيج بالمحلة
ومن أبرز فقرات ذلك الفصل، ما حدث في عام 1991 خلال تنفيذ ما سمي ببرنامج الإصلاح الإقتصادي تطبيقا لشروط صندوق النقد الدولي، وإقرار القانون 203 الخاص بقطاع الأعمال بتحويل شركات القطاع العام إلي شركات مساهمة خاضعة للشركات القابضة، على أن تقوم تلك الشركات بتمويل نفسها عبر القروض من سوق رأس المال دون أية ضمانات من الدولة، كما سمح بوجود رجال أعمال من القطاع الخاص ضمن مجالس الشركات القابضة وما تخضع لها من شركات، وهو ما أدى – مع العديد من سياسات الدعم المقدم بشكل أطلقت عليه الدولة «تحفيزي» إلي القطاع الخاص -إلي انهيار العديد من الشركات التابعة للقطاع العام وقطاع الأعمال ومن ثم بيعها مثل «النصر للمنسوجات – كابو» و«النيل لحلج الأقطان» دون أي اشتراطات بالحفاظ على تطوير تلك المصانع أو حتى عدم تصفيتها، وهو ما أدى إلى استغلال تلك الصفقات لتصفية الشركات واستخدام أراضيها لصالح النشاط التجاري.
ويرى مجاهد في ختام الفصل أن السبب الرئيسي للتخلف الاقتصادي في هذا القطاع، هو أن الاقتصاد المصري هو اقتصاد تابع، يقبل بما يفرض عليه من قبول نموذج الانتاج من أجل التصدير ويقول أن هذا النموذج «لا يترك مساحة للانتقال من تصنيع السلع البسيطة، إلى السلع المعقدة كالماكينات والتكنولوجيا».
الاتصالات.. وسياسة جنى الأرباح
في الفصل السابع والأخير من القسم الثاني حاولت آلاء مصطفى، شرح الطريقة أو المسار الذى مضت فيه الدولة للحفاظ على سيطرتها التامة على المعلومات في مجال الاتصالات منذ عصر رأسمالية الدولة والاقتصاد الموجه مع جني الأرباح بعد مرحلة الخصخصة والمضي قدما في التحول للنيوليبرالية في عصرنا الحالي، عبر دراسة حالة لقطاع الهاتف المحمول.
تقسم آلاء مراحل تطور قطاع الاتصالات إلى مرحلتين، الأولى من 57 إلى1997، وتطلق عليها مرحلة سيطرة الدولة على القطاع، والثانية من 98 إلى 2011 وهي مرحلة تحرير القطاع.
تعامل الدولة مع هذا القطاع شهد بعض الاختلافات عن ما رأيناه في الفصول السابقة، فرغم أن الاتصالات كانت في قلب عملية الخصخصة وفي مرحلة التحول النيوليبرالي، إلا أن الدولة لم تترك زمام السيطرة يخرج من يديها مثلما حدث في قطاع الصناعات الهندسية أو النسيج بشكل أو بآخر، وأكبر دليل على ذلك كان ما حدث أثناء ثورة 25 يناير، عندما قامت الدولة بقطع الاتصالات، وفرض ذلك على مقدمي خدمة المحمول من القطاع الخاص، كما سعت الدولة إلى دخول السوق كمنافس يسعى للربح، فقررت رفع ضريبة القيمة المضافة على الاتصالات من 15% إلى 22% عام 2016، وفي ظل تضارب الأخبار عن الرخصة الموحدة للإتصالات، فإنها حتى الآن لا تزال مقتصرة على ما تم من طرح الجيل الرابع في عام 2014.
وأشارت آلاء خلال ذلك الفصل إلى الطريقة التي قامت بها الدولة من أجل تسليع خدمة الاتصالات وجعلها خاضعة لما يطلق عليه سعر السوق والعرض والطلب كما حدث مع باقى القطاعات مع حقبة الخصخصة، وكانت الذروة هي وصول أحمد نظيف لكرسي رئاسة الوزراء، لكن ذلك أيضا جعل القطاع يشهد نموا كبيرا في ذلك الوقت وإن كان شهد تراجعا حادا بعدما أصبح القطاع بعيدا عن رعاية الدولة.
«أحمد نظيف» رئيس الوزراء الأسبق
ومن خلال ذلك الفصل نرى أن الدولة بكل الدعاية للنيوليبرالية منذ التسعينات لم تؤمن سوى بالأرباح الناتجة عن المرحلة الجديدة لكنها لم تؤمن يوما بحرية الاتصال أو بحماية البيانات الشخصية.
في ختام الجزء الثالث من قراءتنا لكتاب «ملاك مصر» تقول لنا الفصول الثلاث أن السياسات التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ الانفتاح الاقتصادي كانت تهدف لتغيير تعامل الدولة مع الاقتصاد بصفتها راعيا وقائما على عملية التراكم الرأسمالي الموجه بكلٍ أو بآخر لمحاولة التنمية واللحاق بركب اقتصاديات العالم الأول، إلى الوقوع في فخ التبعية وفرض نظام سوق حر من قبل صندوق النقد ونقل التراكم لنخبة قليلة من القطاع الخاص دون حتى أي تدخل توجيهي أو تخطيطي من قِبَل الدولة.