تردد عن محافظة الإسكندرية أنها صارت عاصمة السلفيين في مصر، رغم التعددية الثقافية والدينية لمجتمع هذه المدينة الساحلية والذي كان حتى وقت قريب، يوصف بأنه مجتمع متعدد «كوزموبوليتاني». فقد كانت عروس المتوسط دائما مركزا لثقافات البحر المتوسط، حيث عاشت فيها جاليات تركية ثم يونانية وإيطالية، واستوطن بعض أفراد هذه الجاليات المكان وتزاوجوا وأنجبوا جيلا من المصريين من أصول متوسطية متنوعة.
أكبر تجمع سلفي
اليوم تضم الإسكندرية أكبر تجمع للسلفيين – خاصة في الشريط الجنوبي لأحيائها الفقيرة الأبعد عن الشاطئ الأكثر تمدينا ُ شمالا، ولذلك يراهن عليها السلفيون دائما في أي انتخابات يخوضونها باعتبارها مكان قوتهم الضاربة الأولى بين المحافظات المصرية.
فلماذا انتشرت السلفية في الإسكندرية بالذات؟ وهل يمكن تفسير الأمر بنظرية رد الفعل الثقافي المحلي المتشدد الخائف من ذوبان الهوية تحت تأثير تيار الحداثة الخارجي، وفقا لنظرية تأثير المجال العمراني في التوجهات الدينية لسكان بعض المناطق؟
في محاولة للعثور على تفسير لهذه المفارقة، طرحت «أصوات أونلاين» هذه الأسئلة وغيرها على عدد من الخبراء في التيار الإسلامي، وخاصة السلفي، وفي السطور القادمة حصيلة إجاباتهم عليها.
المد الديني.. من الجامعات الكبرى إلى الشارع
يرى أحمد الشوربجي، الباحث في شئون تيار الإسلام السياسي أنه يجب عدم فصل الاسكندرية بمفردها عن السياق العام الذى تمخض عنه حضور لافت للتيار السلفى وقت ظهوره وبروزه فى الاسكندرية وغيرها ثم استمراره بعد ذلك، حيث كان هناك خروج لموجة جديدة من موجات التيار الاسلامي، والتي كانت ولادتها وخروجها للعلن مختلفة تماما عما عرفته مصر من قبل.. فلأول مرة يكون وراء هذا الخروج جهات رسمية في الدولة وعلى أعلى مستوياتها متمثلة في رئيس الجمهورية بالاتفاق مع أمين عام الإتحاد الاشتراكي بأسيوط في ذلك الوقت محمد إسماعيل عثمان – والذي أصبح محافظا لأسوان ثم أسيوط فيما بعد – وهي الخطة المعروفة والصفقة المشهورة أيام الرئيس السادات بهدف ضرب التيار اليساري في مصر، حيث كانت قناعة السادات أن الأقدر علي مواجهة هذا التيار داخل مصر هو التيار الديني، فأفسح له المجال خاصة داخل الجامعات وركزت الدولة علي أكبر الجامعات في مصر في ذلك الوقت وهي جامعات القاهرة والاسكندرية وأسيوط، من خلال ما سُمي بالجماعة الاسلامية.. تلك العباءة الفضفاضة التي كانت تحوي جميع الاتجاهات والميول الدينية وكانت معينا أستمد منه كل تنظيم أو جماعة ما يريد، وكان من ضمنها محمد إسماعيل المقدم وأحمد فريد، أول من أسسا للاتجاه السلفي في مصر وبالتحديد في الإسكندرية ثم لحق بهم آخرون أمثال ياسر برهامي.
ياسر برهامي
ويضيف الشوربجي في حديثه لـ «أصوات أونلاين»: «كل هذا أثّر على محافظات كبرى مثل القاهرة والإسكندرية وأسيوط قلب الصعيد، وقد نجح هذا السياق في فرض نمط ثقافي واجتماعى جديد، ظلّل بالفعل مدينة كبري مثل الأسكندرية، التي رغم الثقافة الغربية الحديثة التي تملأ جنباتها، إلا أنها أصبحت عاصمة للفكر السلفي المعروف عنه التشدد.»
فراق عن الجماعة الإسلامية
ويقول محمد يسري، الباحث في الشأن السلفي، عن أسباب انتشار الدعوة السلفية في الإسكندرية، إن ثمة اتجاها عاما لانتشار السمت الإسلامي في المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو اتجاه عام ينطبق على التيار السلفي كغيره من التيارات الإسلامية، ولكن ربما كان لطبيعة الإسكندرية التي تتميز تاريخيا بالطابع الثقافي المنفتح منذ نشأتها تأثير كبير فى ظهور الدعوة السلفية.
محمد يسري
ويضيف: «الدعوة السلفية خرجت في الأساس من عباءة الجماعة الإسلامية، التي تبنت العنف خاصة في إقليم الصعيد المشهور بالفخر باقتناء السلاح والخصومات الثأرية والتقاليد العائلية التي تبرر استخدام العنف بل تفرضه فرضا على أفرادها، وهى التقاليد التي لا تناسب مجتمعا تعدديا منفتحا متسامحا تاريخيا في الإسكندرية، وبالتالي فخطاب العنف الذي أنتج رموز الجماعة الإسلامية في الصعيد، وتولدت عنه شخصيات مثل شكري مصطفي مؤسس جماعة التكفير والهجرة وغيره، لم يجد له موقعا في البيئة الثقافية السكندرية، لذلك كان البحث المبكر لإسلاميي الإسكندرية عن خطاب «أكثر ليونة» و«أقل عنفا» هو المقدمة الطبيعية لانشقاق هؤلاء سريعا عن الجماعة الإسلامية من أجل الحصول على قاعدة شعبية ذات لون مختلف يتناسب مع طبيعة هذا الإقليم.
شكري مصطفي
بداية التمايز
ويشير محمد يسري إلى عامل آخر مهم أسهم في استقلال سلفيي الإسكندرية ككيان وكفكر، وهوعلاقة الدعوة السلفية بجماعة الإخوان المسلمين، وهي الجماعة الأم لكل تلك الجماعات، التي تربى الكثير من قياداتها في بيوت الإخوان مثل الدكتور ياسر برهامي، وكانوا شهودا على ما وقع للإخوان جراء الصدام مع الدولة، في فترة الستينات. فرغم الرابط الفكري الذي يجمع كل الجماعات مع جماعة الإخوان، إلا أن رغبتها الدائمة في الاستحواذ والهيمنة وتفضيلها للأتباع لا الشركاء، أدت إلى صدامات معها داخل جامعة الإسكندرية عام 1980 انتهت برفض رموز الدعوة السلفية بيعة مرشد الجماعة وتفضيل العمل الدعوي بشكل مستقل.
وفي سبيل ذلك، كما يقول يسري، اختار مؤسسو الدعوة السلفية الجانب العلمي الذي وجدوا ضالتهم فيه من خلال العودة إلى كتب السلف، وشرحها وعلى رأسها كتاب «شرح العقيدة الطحاوية» لمؤلفه الإمام الطحاوي المصري بشرح ابن أبي العز الحنفي، وكذلك كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وبدأت الدعوة تلمس الدعم الفكري لدعوتهم في جامعات ومعاهد المملكة العربية السعودية التي كان يسيطر عليها الإخوان، والذين لبسوا رداء السلفية في فترة الستينات والسبعينات، فنقلوا إليهم مؤلفات السلف ولا مانع معها من وضع بعض اللمسات الإخوانية عليها، وقد جذبت هذه المدرسة أنظار مشايخ السلفية في السعودية الذين رأوا أنها يمكن أن تكون نواة لنشر الدعوة السلفية الحقيقية متناسين المشتركات الفكرية للدعوة السلفية مع جماعة الإخوان وجماعات العنف والتكفير. وبالفعل في عام 1986 زار إمام الحرم المكي الشيخ أبو بكر الجزائري الدعوة السلفية بالإسكندرية وحاضر في مساجدها، وكان لهذه الزيارة التي جاءت بعد عام تقريبا على إعلان اسم «الدعوة السلفية» أثر كبير عليها مما جعل الإسكندرية قبلة للتيار السلفي العلمي في مصر.
ويضيف يسرى قائلا: وليس معنى ذلك أن الدعوة السلفية بعيدة عن الجماعات الأخري أو أنها منفصلة تماما عنها بدليل الدعم والمساندة القويين لجماعة الإخوان ولحركة حازمون التي كانت الإسكندرية واحدة من أهم معاقلها بعد مسجد أسد بن الفرات بالدقي، حتى وإن وجدنا استنكارا رقيقا من قيادات الدعوة السلفية لعمليات العنف التي تمارسها الجماعات الأخرى ويزول العجب بخصوص هذه المسألة إذا قرأنا القاعدة الذهبية لهذه الجماعات والتي وضعها حسن البنا، وهي «نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه»، وكذلك في الدستور الخفي الذي كشفه- دون قصد- القيادي الإخواني صلاح الصاوي في كتابه «الثوابت والمتغيرات» وهو: «عدم التورط في إدانة الفصائل الأخرى العاملة للإسلام إدانة علنية، تحت شعار الغلو والتطرف، مهما تورطت هذه الفصائل في أعمال تبدو منافية للاعتدال والقصد والنضج، فإن كان لابد من حديث للتعليق على بعض هذه الأعمال الفجة، فليبدأ أولاً بإدانة الإرهاب الحكومي في قمع الإسلام، والتنكيل بدعاته والذي كان من نتائجه الطبيعية هذه الأعمال، التي تبدو غالية وحادة، والتي تمثل رد فعل متوقع لما تمارسه الحكومات من تطرف في معاداتها للإسلام وغلو في رفضها لتحكيم شريعته. وأنه لا سبيل إلى حسم هذه التداعيات، وسد الذريعة إلى التطرف من الفريقين إلا بتحكيم الشريعة وإقامة كتاب الله في الأمة، فيردع الغلاة والجفاة».
الأصل السكندري للمؤسسين الستة
ويلفت سامح عبد الحميد حمودة، أحد قادة الكيان الدعوي، أنظارنا إلى أن المؤسسين الـستة «للدعوة السلفية» كانوا جميعهم من محافظة الإسكندرية. فهؤلاء أسسوا الكيان ودعوا له داخل جامعة الإسكندرية، فجمعوا المئات بل الآلاف ثم الملايين حتى أصبحت الإسكندرية هي عاصمة السلفيين وقبلتهم في مصر، قبل أن تنتشر الدعوة السلفية بعد ذلك في مختلف المحافظات، وخاصة المحافظات ذات الحدود مع الإسكندرية مثل محافظة البحيرة وهي المحافظة التي وُلد بها الدكتور يونس مخيون رئيس حزب النور، وكذلك محافظة مطروح نظرا لرحلات مشايخ الإسكندرية المستمرة لتلك المحافظة والتي أصبحت عاصمة ثانية للدعوة السلفية. إذ تعتبر محافظة مطروح المجتمع الأكثر بعدا عن التحديث وعن التنمية التي ترتبط بالقرب من العاصمة، القاهرة، وتضم قطاعاً ذا ثقافة قبلية من البدو أشهرهم قبائل أولاد علي.
سامح عبد الحميد حمودة
في هذا المناخ الاجتماعي التقليدي لم يكن غريبا أن تصل ظاهرة المحاكم الشرعية – لا الحديثة ولا العرفية حتى – إلى ذروتها بين محافظات البدو الحدودية إلى جانب سيناء، ولم يكن غريبا أيضا أن يحصل المرشح الإسلامي عبدالمنعم أبوالفتوح على أعلى أصواته في محافظة مطروح بعد أن اختارت العديد من التجمعات السلفية التصويت له في أول انتخابات للرئاسة بعد ثورة يناير.
إنفوجرافيكس: عبد الله إسماعيل