رغم مرور أكثر من 100 عام على رحيله، إلا أن سيرة يعقوب صنّوع الصحفي والأديب والمسرحي المصري، الذي تتبع موقع «أصوات أونلاين» محطات حياته على مدار ثلاث حلقات، ظلت مثار تشكيك وجدل من فرق النقاد والمؤرخين، فالأوراق والمقالات والدراسات التي تركها الرجل أو كتبها عنه باحثون مصريون وأجانب وجدت من يدحض ما جاء فيها بالحجج والبراهين.
البعض يجزم بأن «أبونظارة» ما هو إلا شخص زيف تاريخه بمعاونة بعض أعوانه، وصنع لنفسه مجدا وطنيا سطره في أوراقه ومذكراته قبل وفاته، والبعض الآخر قدم روايات حاول من خلالها إثبات أن صنوع شخصية برجماتية، لعب على كل الحبال، وتكسّب من هجومه على الخديوي إسماعيل وابنه، وذهب فريق ثالث إلى إنكار وجوده من الأساس، واعتبره جزءا من التاريخ الزائف الذي دسته بعض الجماعات اليهودية على تاريخ مصر الحديث.
سراب ريادة صنوع للمسرح
الدكتور سيد علي إسماعيل أستاذ المسرح بجامعة حلوان ينتمي إلى الفريق الأول، حيث نفى في كتابه «محاكمة مسرح يعقوب صنوع» الصادر مطلع هذا القرن أي دورٍ ﻟ”أبو نظارة” في صناعة المسرح المصري، بل أكد أيضاً أنه هو مَن اخترع تلك الأسطورة وصنع هذا التاريخ من الريادة الزائفة، واختلَقَ تراثاً نَسَبَه لنفسه لم يكن له يوماً وجودٌ.
ويرى إسماعيل أن جملة «صنوع رائد المسرح المصري» مقولة غلابة، غير صحيحة، سلّم الناس والنقاد بها دون دليل أو بحث، أو حتى صورة من مسرحياته التي عُرضت على مسرح الخديوي، وأن مسرح صنوع ما هو إلا “سراب غير حقيقي”.
على النقيض من ذلك يؤكد الدكتور أنور لوقا «1927-2003» أستاذ اللغة والأدب العربي بجامعة ليون، أن صنّوع هو رائد المسرح المصري، وأن سبب عدم وصول أعماله المسرحية إلينا هو تعمد الخديوي وحاشيته طمس دوره وتجاهل فنه، لأنه هاجمهم سياسيا واجتماعيا.
وقد رد الدكتور سيد علي إسماعيل، في كتابه، على هذه الفرضية متسائلا، «إذا كانت حاشية الملك عملت على طمس دوره، فهل كانت كل الصحافة حينها مأجورة؟.. ولماذا لم توثّق الصحف مسرحه وما حدث معه من الخديوي وحاشيته؟». ويؤكد إسماعيل أن الشاعر محمد عثمان جلال هو رائد التأليف المسرحي وليس صنّوع، إذ بدأ عثمان نشاطه المسرحي عام 1870، وعرّب مسرحية «لابادوسيت» و«مزين شاويلة»، وفي عام 1871 ألّف مسرحية بعنوان «الفخ المنصوب للحكيم المغصوب» ثم عرّب نصا لموليير وجعل اسمه «الشيخ متلوف» عام 1873.
صناعة تاريخ أبو نظارة
ويدعم رأي إسماعيل ما كتبه رائد الأدب القصصي والمسرحي في مصر محمد تيمور في مجلة «السفور» قبل مائة عام، حيث أغفل أي دور لـ«أبو نظارة» في تأسيس المسرح المصري، حيث يقول «أتانا التمثيل من إيطاليا عن طريق سوريا، وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين أمثال سليم النقاش وأديب إسحاق والقباني، وفدوا إلى مصر مقر العلوم والآداب الشرقية لينشروا فيها بذور ذلك الفن الجديد، وأنشأوا بأيديهم فن التمثيل في مصر بعد أن كنا لا نعلم من أمره شيئاً يذكر».
وامتدادا لفكرة «صناعة أبو نظارة لتاريخه»، نفى الباحث الألماني الكسندر شولنن، في رسالة دكتوراه عن صنوع عام 1970، تأثير صنّوع وصحفه في حركة التحرر الوطني المصري، ووجه له اتهامات عديدة من بينها أنه كان مصابا بعدة عقد نفسية، وقد نشرت هذه الرسالة في عام 1981 بالإنجليزية. وهو ما أكده أيضا الدكتور لويس عوض «1915- 1990″ في كتابه «تاريخ الفكر المصري الحديث»، الذي ناقش فيه نشأة الديمقراطية والأحزاب في مصر وصراع الصحافة والرقابة والأسباب التي أدت إلى الثورة العرابية، حيث قدم نقدا قاسيا لصنوع وسخر بشدة من إضفاء أهمية عليه، وهو لا يستحقها·
اقرأ أيضا:
يعقوب صنّوع.. مسيرة إمام الصحافة الفكاهية وزعيم المسرح المصري (1)
الدكتور محسن مصيلحي أستاذ النقد المسرحي بأكاديمية الفنون المصرية شكك هو الآخر في «الدور المزعوم» لـ«أبونظارة» في تأسيس المسرح المصري، مشيرا إلى أن المال كان هدف صنوع ودافعه في كل ما قام به من نشاط وما اتخذه من مواقف، وأن حياته كلها كانت محاولات متواصلة للارتفاع عن أصله البسيط والمتواضع، فقد نشأ في حي «باب الشعرية» لأسرة فقيرة وليس كما زعم هو في مذكراته، فلقبه «صنوّع» بالعبرية يعني المسكين أو الغلبان، ولذا فان يعقوب نفسه كان كثيرا ما يتجاهل هذا الاسم ولا يذكره، وقد حاول طيلة حياته أن يتجاوز هذه الحالة التي ولد عليها·
تزييف تاريخ صنوع
أما وزير الثقافة السابق حلمي النمنم فيشير إلى أن الرسائل التي كشفت عنها حفيدة صنّوع، أثبتت أنه كان يتلقى الدعم من السلطان العثماني الذي كان غاضبا على الخديوي إسماعيل ونجله توفيق. ويوضح النمنم أن مركز الاتصال بين يعقوب والسلطان العثماني كان صحفيا مصريا مقيما في الأستانة اسمه محمود زكي، وكان ناقما على الأوضاع في مصر، وكشفت تلك الرسائل أن يعقوب زار الأستانة مرتين سرا، وكان له راتب شهري من السلطنة، وقد تعثر الراتب فترة، وكان زكي هو الذي يتوسط في حل هذه المشكلة، ويقول له «وإليك التفصيل وما سمعته من أبي خليل لدى اجتماعي به والسلام وما جرت به العادة من افتتاح الكلام قلت له إن حضرة الأستاذ يريد أن يخبرني عما تم بخصوص اللي أخبرك عنه إن شاء الله تكون المسألة قضيت وتحقق له فيك حسن ظنه فيما يختص بأمر المعاش الذي يستحقه حضرة الشيخ، فإني عرضت في الحال لجلالة ولي النعم والشيخ يطالب بثلاثة أشهر قد جرى عليها التداخل ويمكنك ان تراجع عطوفة الباشكاتب وعنده نجد الخبر اليقين».
ويضيف النمنم، في دراسته التي نشرها عام 2005: «وفي خطاب آخر من محمود زكي يطلب إليه أن يصدر في باريس جريدة «المسامير»، ويقترح وضع اسم رئيس تحرير وهمي عليها ليحارب أعداءه وعلى رأسهم إبراهيم المويلحي الذي كان مقيما في الأستانة آنذاك، وكان موضع رضا السلطنة ويقول له«أما أنا فأعلمك بأني ما دمت على قيد الحياة لا أرجع عن المويلحي بل لو رأيت جريدة تنشر مقالاتي لأكتب في كل عدد يصدر فيها قصيدة ومقالة تزلزل الجبال حتى أقطع دابره من هذا الوجود وهذا السبب المهم الذي دعاني لانشاء «المسامير» فيجب أن تعمل الهمة في طبعها ونشر بعضها ولو لأصحاب الجرائد المصرية وأصحاب الجرائد اللي تطبع في الممالك العربية»·
وتنجح المحاولة ويتم نفي المويلحي من الأستانة فيرسل زكي إلى يعقوب مهنئا «هات البشارة يا سي الشيخ.. إبراهيم المويلحي سفروه وبالعربي الفصيح نفوه.. نعم نُفي الى مصر من يومين»·· وقد عاد المويلحي ليصدر كتابه القنبلة «ما هنالك» والذي كشف فيه فساد رجال السلطان ثم تدور الدوائر على زكي نفسه فينفى هو الآخر من الأستانة ويعود الى القاهرة ليصدر صحيفة «الكوكب» في عام 1904 ويبعث بخطاب الى يعقوب في باريس ويرسمان مؤامرة لابتزاز السلطان ماليا ويقول.. «ويا ليت تجد لي مأمورية عندك وأنا أحضر وأخدم جريدتك ويمكنك أن تطلب لي ماهية من السفارة العثمانية ويُسر السلطان جدا لكونك منعت لساني عن الذم».
اقرأ أيضا:
يعقوب صنّوع.. مسيرة إمام الصحافة الفكاهية وزعيم المسرح المصري (2)
إيزابيل إيرهارت، وهي رحالة سويسرية اعتنقت الاسلام في الجزائر واتصلت بالطرق الصوفية هناك وارتدت ثياب الرجال وتجولت في الصحراء الجزائرية إلى أن عثر عليها مقتولة في جنوب الجزائر، رسمت صورة لـ «يعقوب صنوّع» وحياته في باريس في تلك الفترة، وقد كتبت تقول «رغم غرقه أكثر أكثر في صخب الحياة الباريسية، وتخليه أكثر وأكثر عن القضية المصرية ليأسه وسأمه، كان صنوع قطبا محركا في المجتمع الباريسي، لا تخلو منه سهرة أو مأدبة فيدعى ويأتي مرتديا ثيابه الشرقية الطريفة ويروح موزعا المدائح وأبيات الشعر العربية على الحضور متحدثا بأكثر من ثماني لغات في وقت واحد، مادحا الحاضرين ذاما الغائبين ويلقي النكتة وراء النكتة، ويمازح الجميع كذلك كان يحرص على المشاركة في المآتم بل في بعضها يبكي كما لا يبكي أحد».
ويذهب الدكتور محسن مصيلحي إلى أن صنّوع أعاد في باريس صياغة مسرحياته ليخفف من الابتذال الذي تحتويه، ويتساءل عما اذا كان هو نفسه الذي قام بذلك أم أن الصحفي محمود زكي هو الذي تدخل وأعاد الصياغة؟ لأن الصياغة الجديدة تختلف كثيرا عن الصياغات المبتذلة التي كانت يكتب بها صنوع أعماله المسرحية والصحفية.
الأب الروحي للمسرح المصري
في المقابل يرى الصحفي والكاتب سليمان الحكيم، أن صنوع هو رائد المسرح المصري، ويقول في كتابه «يهود لكن مصريون»: أن أبو نظارة هو الأب الروحي للمسرح المصري بلا منازع، مستندا إلى مذكرات صنوع ولمقالات أجنبية عديدة كُتبت في هذا الشأن، من بينها ما كتبه محرر صحيفة «الساتر دي ريفيو» عام 1876 وجاء فيها أن «صنوع حاول وحده أن يصنع مسرحا عربيا.. كان يقوم بأعمال المؤلف والممثل والملقن ومدير المسرح والمخرج.. علينا ألا نسخر من هذا المسرح.. كان الفلاحون يهرعون إليها والباشوات يترددون عليها.. وأخيرا شاهدها الخديوي إسماعيل.. واستطاع «صنوع» أن يجمع شعبا بأسره».
ونقل الحكيم عن محرر صحيفة «لجيبت» الفرنسية: إنه على الرغم من سذاجة أساليبه الفنية فإنه كان كافيا لاجتذاب الجمهور. كما استعان الحكيم أيضًا بما كتبه جول باسبيه عام 1873 في جريدة الأزبكية والذي أكد أن صنّوع قدّم خلال عامين فقط 160 حفلا تمثيليا ومثّل 32 مسرحية ألفها بنفسه، بينهم «الأميرة الإسكندرانية»، «البنت العصرية»، «الضرتين»، و«العليل».
هذا ما كان من اختلاف الباحثين والمؤرخين المحدثين على سيرة ومسيرة «أبو نظارة» يعقوب بن صنوع، لكن يبقى ما أورده الدكتور إبراهيم عبده أستاذ الصحافة ومؤرخها الأبرز في كتابه الذي نشره قبل نحو 70 عاما هو الأقرب إلى الحقيقة التاريخية، فالرجل تتبع محطات حياة صنوع وجال عواصم أوربا ونبش في أرشيفاتها لتحقيق كل كلمة أوردها في كتابة الثاني عن تلك الشخصية «يعقوب صنوع إمام الصحافة الفكاهية وزعيم المسرح المصري». كما استند الدكتور عبده إلى مراجع مصرية وأجنبية، منها «التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر» لمستر ألفريد سكاون بلنت، والذي قام بمراجعته والموافقة عليه الإمام الشيخ محمد عبده، ووضع مقدمته عبدالقادر حمزة صاحب جريدة البلاغ وصدرت نسخته الاولى عام 1924، ومنها أيضا «تاريخ الصحافة العربية» للأديب والمؤرخ فليب دي طرازي مؤسس دار الكتب الوطنية في بيروت وأهم جامع صحف في عصره والذي نشر مرجعه المهم عن تاريخ الصحافة العربية عام 1913، كما رجع عبده إلى كتاب «تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده» لمحمد رشيد رضا، فضلا عن مذكرات يعقوب بن صنوع وأوراقه وصحفه ومجلاته التي احتفظت بها كريمته لولي صنوع.
وبالتالي فإن دراسة الدكتور إبراهيم عبده من حيث تاريخها ومصادرها تعد من أهم وأوثق ما كتب عن يعقوب صنوع، فضلا عن أنها فندت كما أشرنا بعض الروايات التي أوردها أبو نظارة في مذكراته، ومن ثم نستطيع القول إنها نسخت ما جاء بعدها من اجتهادات شككت في تاريخ الرجل ومواقفه وأدوراه.
وقد وصف إبراهيم عبده دراسته الهامة «قصة أبو نظارة» بأنها «قصة في تاريخ الصحافة المصرية، يفخر بها كل من احترف الصحافة أو أحس إنها مهنة القراع والنضال، وأيقن أنه لا ينتظم في صفوفها عبد، ولا ينضوي تحت لوائها تاجر».. فصاحبة الجلالة (وفقا للدكتور عبده) ما هي إلا «دنيا يعبرها روادها في أتون من الأعصاب الثائرة، قد يفقد الإنسان فيها بصره ويعتصر دمه وتصرخ أمعاؤه من الجوع، بيد أنه لا يفقد بصيرته أو يفتقد ضميره أو تهون مُثُلُه في الحياة».
اقرأ أيضا:
يعقوب صنّوع.. مسيرة إمام الصحافة الفكاهية وزعيم المسرح المصري (3)
ويضيف عبده قائلا: «لقد كشفت سيرة يعقوب بن صنوع عن عنف حكام مصر في العصر الحديث، فلم يهضم واحد منهم حرية الرأي ولا قداسة القلم، وإنما ساموا أصحابها خسفا وعالجوا أمورهم عسفا، وكان الجهل بالقيم مسيطرا على عقولهم، حتى طواهم الردى وعراهم التاريخ، فما حفظت لهم الدنيا إلا سواءات تحكى، وما روى الناس عنهم إلا أقبح الأقاصيص».
ويختتم عبده دراسته بعبارة ينتصر فيها للقلم وأصحابه ومنهم يعقوب صنوع، فيقول: «إنه القلم الذي يسجل التاريخ، ولن يسجل التاريخ سيف ولا مدفع.. لقد ذهب إسماعيل بخيره وشره، وبقى أبونظارة برأيه وقلمه، ذلك أن (ولي النعم) استند إلى الحديد والنار، بينما أبو نظارة استند إلى قطعة من جريد وقرطاس من ورق.. حقا إن أبا نظارة كان خطرا على إسماعيل وتوفيق، وما لهما أن ينالا من إيمانه والحرية دينه ومبتغاه، فالحرية قبس من السماء».