خلال شهر رمضان الكريم، ثار جدل واسع حول أزمة صناعة الدراما التليفزيونية المصرية، وانخفاض عدد الأعمال الدرامية المنتجة على غير العادة ناهيك عن تراجع المستوى الفني والدرامي لتلك الأعمال. وقد ضاعف من وطأة تلك الأزمة منع عرض الأعمال الدرامية على قنوات اليوتيوب، إضافة لحجب العديد من المواقع التي كانت تتيح تلك الأعمال بالمجان.
أزمة الدراما أثارت من جديد أهمية استدعاء الحضور السينمائى وضرورة أن يعود الجمهور مرة أخرى وبكثافة إلى دور العرض ،الأمر الذي دفع بعض محبي وعشاق صناعة السينما إلى تجديد مطالبتهم بما يطلق عليه «السينما البديلة».
تطور السينما البديلة
في دراسته المعنونة «السينما البديلة.. مكونات.. تمايزات.. وآفاق» يتناول أستاذ الدراسات السينمائية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الدكتور مالك خوري «السينما البديلة» مشيرا إلى أن هذا المفهوم قد مر بالعديد من مراحل التطور منذ نشأته الأولى مع بداية القرن العشرين، حيث بدأ الحديث من قبل بعض السينمائيين ومحبي فن السينما عن ضرورة العمل على فرز أطر بديلة لما هو سائد في صناعة السينما، سواء على صعيد الأسلوب أو التوجه أو الدور السياسي، واستمر هذا النقاش دائراً مما أدى تدريجيا إلى بروز تيارات ومجموعات سينمائية عديدة، نادت بضرورة تجاوز الأطر الاقتصادية التقليدية في تمويل إنتاج الأعمال السينمائية وتوزيع الأفلام، والدعوة لتشجيع ظهور الأفلام المستقلة، التي لا ترتهن بهيمنة ومقاييس الربح والخسارة.
مالك خوري
يضيف خوري أن الأمر لم يقتصر لدى بعض السينمائيين على حدود تناول القضايا المتعلقة بمصادر الإنتاج وأساليب التوزيع، بل امتدت دعوتهم لتناول طبيعة القضايا المطروحة، حيث أعلنوا عن انحيازهم لإبداع سينما تستلهم الواقع الاجتماعي والسياسي، مع التركيز على قضايا الفئات المهمشة في المجتمع، التي يتم عن عمد تجاهل تناولها لدي مبدعي الأعمال السينمائية التقليدية.
تجارب رائدة
ويشيد خوري بدور بعض حكومات العالم الثالث التي أطلقت بعض التجارب الرائدة لتشجيع القدرات المحلية في المجال السينمائي، عبر إنشاء معاهد لتعليم فن السينما، ومنها على سبيل المثال إنشاء المعهد العالي للسينما بالقاهرة عام 1959، والمعهد الكوبي لفن صناعة السينما بهافانا الذي أسس في ذات العام، هذان المعهدان اللذان أسهما في إعداد وتأهيل أعداد ضخمة من السينمائيين والفنانين المتخصصين، الذين أثروا الحياة الفنية في المنطقة العربية ودول أمريكا اللاتينية.
تبع تأسيس تلك المعاهد، إطلاق عدد من المهرجانات العربية، التي لعبت دوراً بارزاً في تشجيع فن السينما بشكل عام، وتطوير الثقافة السينمائية بالعالم العربي، منها مهرجان قرطاج العالمي بتونس عام 1966، ومهرجان القاهرة الدولي عام 1976، ودمشق الدولي عام 1979.
السينما النظيفة.. والموجة الجديدة
المتتبع لمسيرة وواقع السينما العربية، سيتوقف كثيرا عند تلك المرحلة التي واكبت فترة الثمانينات من القرن الماضي، حيث شهدت تلك المرحلة تصاعدا وترسيخا لهيمنة رأس المال الخليجي على صناعة السينما والدراما التليفزيونية العربية، مع ما مثله ذلك من ضغوط تمثلت في فرض العديد من المقاييس المحافظة التي تجسدت في تفادي تناول القضايا السياسية، مع تشجيع ما قد أطلق عليه مسمى «السينما النظيفة»، التي اتسمت بتفادي الموضوعات الحساسة «دينيا – أخلاقيا – اجتماعيا»، وفق ما أشار دكتور مالك خوري.
غير أن تسعينيات القرن الماضي قد جاءت مصحوبة بظاهرة فريدة، حيث تجاورت السينما التجارية في مصر، جنبا إلى جنب مع ما أطلق عليه الناقد الراحل سمير فريد، مسمى «الموجة الجديدة» تلك الموجة التي شهدت أعمال مثل «أيس كريم في جليم» لخيري بشارة، و«البحث عن سيد مرزوق» لداود عبد السيد، و«المواطن مصري» لصلاح أبو سيف، و«مرسيدس» ليسري نصر الله، و«ليلة ساخنة» لعاطف الطيب، و«نزوة» لعلى بدرخان، و«مبروك وبلبل» لساندرا نشأت، وأفلام يوسف شاهين الثلاثة «المهاجر – المصير – الآخر» وفيلم «ناصر 56» لمحمد فاضل، و«ليه يا بنفسج» و«عرق البلح»، لرضوان الكاشف، و«ثلاثة على الطريق» و«البحر بيضحك ليه» لمحمد كامل القليوبي، و«يا دنيا يا غرامي» و«البطل» لمجدي أحمد علي.
https://youtu.be/S5H3t_p2_g4
من ناحية الموضوع فإن ما شهدته مصر والمنطقة العربية من تنامٍ للتيارات الدينية الأصولية، قد دفع بعض صناع السينما إلى الإهتمام بتلك القضية، حيث تناولها شريف عرفة في فيلم «الإرهاب والكباب»، كما تناولها نادر جلال في فيلم «الإرهابي»، وكان لأعمال يوسف شاهين دور مميز في طرح تلك القضايا، ففي فيلم «المصير» -على سبيل المثال- قدم شاهين رؤية تاريخية إجتماعية لشخصية الفيلسوف ابن رشد، وحالة بلاد الأندلس في أواخر الحكم العربي، مسقطا تلك التجربة على حالة العالم العربي والإسلامي في التسعينيات. في ذات السياق قدم أسامة فوزي فيلمه “بحب السيما” عام 2004، تناول فيه قضية التزمت الديني بشكله المسيحي، ليؤكد على أن التزمت والتعصب الديني، لا دين لهما.
https://youtu.be/J5gjMIx8U44
على صعيد تناول قضايا المرأة فإن السينما العربية بشكل عام تعاملت مع دور المرأة في المجتمع بشكل هامشي، وإن كانت هناك بعض الأعمال السينمائية التي سلطت الضوء على دورها الإيجابي في المجتمع، إلى جانب تناول قضايا المساواة في الحقوق، ويأتي فيلم فطين عبد الوهاب، «مراتي مدير عام» الذي انتج عام 1966، كنموذج لتلك الأعمال، ثم «أريد حلا» لسعيد مرزوق، و«أحلام هند وكامليا» للمخرج محمد خان، وغيرهما من الأعمال.
محطة مهمة
المحطة المهمة في مسيرة السينما البديلة كما يقدمها دكتور خوري جاءت مع الإعلان الصادر عن الدورة الأولى لمهرجان السينما الفقيرة الذي عقد لأول مرة في كوبا عام 2004، والذي حدد منذ بدايته للأفلام المشاركة ميزانيات لا تزيد عن ثلاثمائة ألف دولار، مع الإحتفاء بالإمكانات الكبيرة التي تقدمها التقنيات الرقمية لصناعة الأفلام بتكلفة أقل، مع التأكيد على ما أطلقوا عليه «تحطيم جدار الهيمنة على التوزيع السينمائي» من قبل مجاميع وشركات عابرة للدول والقارات.
غير أن أزمة صناعة السينما لا تقتصر فقط على الإنتاج والتوزيع وطبيعة القضايا المطروحة، وطريقة التناول، وإنما يتعدى الأمر ذلك ليشمل دور العرض السينمائي، حيث تعاني البلدان العربية بصفة عامة، من نقص دور العرض السينمائي، مقارنة بعدد السكان، بالإضافة إلى تركز تلك الدور بالمدن الكبرى، الأمر الذي يحرم قطاعاً كبيراً من المجتمع من التعاطي مع الثقافة السينمائية.
وهنا يؤكد خوري على أهمية أن يسعى السينمائيون الجدد إلى إيجاد أسس دعم جديدة، لتطوير إنتاج أفلامهم، وتجاوز فكرة الإعتماد على الدعم الحكومي والدعم المقدم من قبل بعض المؤسسات غير الحكومية، وذلك عبر الإعتماد على علاقاتهم الشخصية، وإنشاء وتطوير أطر تعاونية فيما بينهم، إضافة إلى الإهتمام بنشر أفلامهم وتوزيعها عبر الطرق البديلة التي أصبحت توفرها وسائل الإتصال الحديثة، لافتا إلى أن السنوات العشر الأخيرة قد شهدت توسعا في المهرجانات التي تهتم بالإنتاج المستقل، كما تُولي بعض المهرجانات إهتماما خاصا بالأفلام القصيرة، وسينما الشباب على وجه التحديد.