تقديم:
لقرون عديدة صبغت الطبيعة المتسامحة لمجتمع نهري عريق مثل المجتمع المصري، الهوية الإسلامية بدين رحب وسطي ومبهج زادته محاولات النهضة والحداثة منذ نهاية القرن ١٨ انفتاحا واعتدالا. لكن بروز تيار الاسلام الحركي (الاخوان المسلمون) عموما، والإسلام الوهابي المتزمت خصوصا (منذ تحالف الرئيس الأسبق انور السادات مع الحركة الإسلامية في مصر والإقليم في السبعينات من القرن الماضي) أغرق مصر، وفق ما يرى الكثيرون، في موجة من التدين الشكلي تراجع خلالها دور المؤسسة الدينية الرسمية، وهي موسسة الازهر الأشعرية العقلانية لصالح المؤسسة السلفية / الإخوانية غير الرسمية، التي هيمنت علي آلاف المساجد وحتي علي معظم معاهد الازهر الأهلية خارج القاهرة. إلا أن ما أحدثته فترة حكم الاخوان وخضوعهم لابتزاز الخطاب السلفي (تحالف الإصلاح) خلّف ردة فعل مجتمعية كبري تقاوم هذه الموجة. في هذا المقال الذي نشره المثقف والأكاديمي البارز سعيد المصري على صفحته الشخصية على فيس بوك، والذي يعيد موقع «أصوات أونلاين» نشره، ما يمكن اعتباره محاولة لفهم تلك المقاومة الشعبية لخطاب التشدد الديني، واستقراء نتائجها المستقبلية علي العلاقة بين الدين والمجتمع المصري، وهو مجتمع متدين بطبعه، بمسلميه ومسيحييه.
«أصوات أونلاين»
سعيد المصري
نص المقال
في أقل من ساعة امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي فى مصر بكم هائل من التعبيرات والرسوم الساخرة حول إعلان دار الإفتاء المصرية عن أن أول أيام عيد الفطر هذا العام هو الأربعاء وليس الثلاثاء. حدث ذلك عقب انتهاء صيام يوم الاثنين الموافق 3 يونيه 2018، ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان. التعبيرات والرسوم الساخرة شملت دلالات فيها نيل من مبدأ الفتوى ودار الافتاء ورجال الدين الرسميين، ولهفة بعض الناس لممارسة اللهو والمنكرات عقب انتهاء رمضان… الخ.
السخرية بالطبع نوع من النقد الاجتماعى غير المباشر، وهي مجال للتنفيس عن مشاعر الرفض والغضب والضيق التي يعجز كثير منا عن التعبير عنها بوضوح لأسباب مختلفة، تتعلق بسطوة القيود المجتمعية أياً كان مصدرها. وعلى ضوء ذلك تعكس حالة السخرية الحادة التى اندلعت، وجود فئات ليست بالقليلة من المصريين يشعرون بإحباط نتيجة تأجيل فرحتهم بقدوم العيد ليوم الأربعاء بعدما أُشيع أنه الثلاثاء، ويشعرون بحالة من المعاناة والضيق من استمرار الصيام ليوم آخر، في ظل الضغوط الحياتية وارتفاع درجات الحرارة – رغم أن صيام الأعوام السابقة جاء فى شهور الصيف الأشد حرارة مقارنة بهذا العام.
هذا الشعور قد تكون له أبعاد متعددة بعضها اجتماعى يتعلق بوطأة العادات والتقاليد المصاحبة للصوم والأعياد، والبعض الآخر يتصل بمصاعب الظروف الاقتصادية، وقدر من التلميح بالامتعاض السياسى عموما، وانتقاد المؤسسات الدينية الرسمية، فيما بدا وكأنه تردد من قبل دار الإفتاء على وجه الخصوص، بالإضافة إلى التعبير عن تحول كبير وعميق فى الشعور الدينى لدى فئات من المصريين.
الجديد والملفت للنظر هذه المرة أن طوفان السخرية أخذ بالتدفق بقوة في ظل صمت ديني لم يكن يحدث من قبل، على العكس مما كنا نشاهده في رمضان في أعوام سابقة، حين كانت تظهر كتائب وجحافل من الوعاظ والدعاة لا عمل لهم إلا الإفراط في الوعظ الديني والفتاوي في كل كبيرة وصغيرة من سلوكيات الحياة اليومية بغرض التأثير علي مشاعر ووجدان كثير من المصريين بعبارات لاحصر لها من الترهيب والتكفير والوعد والوعيد والبكائيات وحديث الموت والآخرة.
وفي ظل تلك الأجواء من الحصار الديني لم يكن لهذه الكوميديا الشعبية التلقائية أن تتجرأ على أحكام الصوم، أو نقد أي حديث صادر عن رجال الدين مهما بلغ تهافته، بل كانت الدروس الدينية تبالغ في تبجيل رجال الدين وتقديسهم، وكان الخطاب الدينى يركز على تأكيد حب الصيام والإقبال عليه، واعتبار رمضان شهر الخير والوعد بالجنة، يضاف إلي ذلك تحويل المساجد في العشر الأواخر من رمضان كأنها بيوت حج يأتي إليها الناس من كل فج عميق لأداء صلاوات التراويح والأدعية وقيام الليل، ويتم حث كل الناس على الذهاب إلى المساجد بما يشبه أداء مناسك حج مفروض على كل مسلم، رغم أن أداء هذه الصلاوات سنة مستحبة.
وكانت التقاليد الشعبية في التدين بفعل تأثير رجال الدين تذهب إلي حد دفع الناس إلي ادعاء حب الصوم، والبكاء علي قرب انتهاء شهر الصوم، وتمني أن تكون كل شهور السنة مثل رمضان بخيراته. حتي الأغاني كانت تعبر عن هذا المعني مثل أغنية شريفة فاضل التي تقول:
«تم البدر بدري، والأيام بتجري، يا هالل بفرحة ومفارق بفرحة، والله لسة بدري، يا شهر الصيام» وأغنية محمد قنديل التي تقول:
«يا شهر العبادة والخير والسعادة، يا مجمع قلوبنا علي سنة حبيبنا وبهدي القرآن، من طلعة هلالك، غمرنا جلالك، آيات من جمالك من نعم الرحمن، والا بعودة والله يا رمضان».
من الواضح أن غالبية الناس لم تكن تجرؤ علي الفكاهة أو السخرية من متاعب الصوم على نحو ما يحدث اليوم، حيث عبر الكثير منهم، في ظاهرة اجتماعية غير مسبوقة، عن المطالبة بالكف عن الصوم، فيما يشبه «حركة كفاية صوم». إنها ظاهرة جديدة تستحق التأمل ومزيد من البحث المتعمق في علاقة المصريين بالدين والتدين، والتي أحسب أنها بدت علاقة طبيعية الآن في ظل انحسار دور رجال الدين والنشاط الديني غير الرسمي عن التوغل فى المجال العام نسبياً، مع فشل الحضور الديني الرسمي في ملء الفراغ.
نقلا عن: صفحة الكاتب الشخصية على موقع فيس بوك