يعد المخرج الكبير هنرى بركات واحدا من كبار المخرجين فى تاريخ السينما المصرية، ويقف بأفلامه العظيمة فى طليعة من أثروا الفن السابع فى مصر والعالم العربى، ويشار إليه كأحد صناع السينما العظام، وكواحد ممن وضعوا لبنات كثيرة وكبيرة فى البناء الشاهق لفن السينما فى مصر، ومن تركوا أثرا وتأثيرا باقيا فى التاريخ السينمائى المصرى المتفرد والطويل.
يلقب هنرى بركات بشيخ المخرجين، ولم يحظ الرجل بهذا اللقب من فراغ، فتاريخه السينمائى الحافل هو الذى منحه وأعطاه اللقب، إذ يقف بركات ضمن ثلاثة مخرجين فقط أخرج كل واحد منهم ما يقرب من مائة فيلم مع نيازى مصطفى وحسن الصيفى، لكن بركات تميز بأنه لم يحقق الامتياز والجدارة السينمائية على مستوى الكم فقط، لكنه حقق التميز والتفرد على مستوى الكيف أيضا، فـ للرجل عدد وافر وفير من الأفلام التى أتت ضمن أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية.
حلم أول فيلم
ولد هنرى بركات فى مثل هذا اليوم الحادى عشر من يونيو عام 1914 بالقاهرة، لأسرة ثرية ذات أصول لبنانية، وعشق السينما منذ صباه الباكر، فسافر إلى فرنسا لدراسة الإخراج غير أنه حين عاد إلى مصر عام 1935 التحق بكلية الفنون التى كان مقرها بحى المنيرة، ثم حاول أن يدرس بشكل عملى فنونا سينمائية أخرى غير الإخراج، فاطلع على فن المونتاج وعرف أسراره وخبر جوانبه المختلفة، وعمل مساعد مونتير مع مارى كوينى، لكن العمل كمخرج ظل مسيطرا عليه وملازما له وظل هو حلمه الأول الذى لا يفارقه، وجاءته الفرصة على طبق من ذهب حين حدث الإنفصال الفنى بين المنتجة آسيا داغر والدة مارى كوينى وزوج ابنتها المخرج أحمد جلال، لتستعين آسيا بهنرى بركات ليخرج أول أفلامه من إنتاجها وكان فيلم «الشريد» عام 1942 بطولة حسين رياض وزكى رستم، لتبدأ بعد ذلك مسيرة سينمائية طويلة زادت على نصف قرن أخرج خلالها بركات حوالى 95 فيلما سينمائيا تنوعت بين الكوميدى والتراجيدى والرومانسى والاجتماعى والغنائى وغيرها من ألوان وصنوف الفيلم السينمائى. وقد كانت معظم أفلام بركات في مراحله الأولى، من عينة الأفلام الاجتماعية الكوميدية الخفيفة مثل «عفريتة هانم» و«القلب له واحد» و«معلهش يا زهر» و«ما تقولش لحد».
مع فاتن حمامة
ومع بداية الخمسينات بدأ بركات مرحلة جديدة حافلة بالأفلام الكبيرة ذات القيمة الفنية التى مثلت مصر فى مهرجانات عالمية ورشحت لجوائز عالمية أيضا، ففى عام 1950 أخرج بركات فيلم «أمير الانتقام»، المأخوذ عن الرواية العالمية الشهيرة الكونت دى مونت كريستو للروائى الفرنسى الشهير الكسندر دوما، والذى قام ببطولته أنور وجدى فى دور البطل المنتقم حسن الهلالى، قبل أن يعود بركات بعدها ب 14 عاما ليخرج نفس القصة عام 1964 فى فيلم حمل عنوان «أمير الدهاء» وقام بدور البطولة الرئيسى فريد شوقى الذى كان قد شارك فى الفيلم الأول. وشهدت الخمسينات والستينات والسبعينات تألقا وتوهجا سينمائيا هائلا لبركات بعشرات الأفلام ذات القيمة الفنية الكبيرة وشكل مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة ثنائيا فنيا جديرا بالتوقف والدراسة، ويكفى أن بركات أخرج لفاتن حمامة 18 فيلما بالتمام والكمال نذكر منها «دعاء الكراون»، و«دايما معاك» و«أفواه وأرانب» و«الخيط الرفيع» و«ليلة القبض على فاطمة». وهنا نلاحظ فى هذه الأمثلة لأفلام بركات مع فاتن حمامة أن اغلبها مأخوذ من روايات وأعمال أدبية، فقد كان بركات مولعا وشغوفا بتحويل عدد كبير من الروايات لكبار الكتاب والمبدعين إلى أفلام سينمائية.
https://youtu.be/rKjzM5VebBE
لقاء مع طه حسين
أخرج بركات فيلمين عن أعمال عميد الأدب العربى طه حسين هما فيلم «دعاء الكروان» الذى قامت ببطولته فاتن حمامة ومعها احمد مظهر وزهرة العلا فقد أدت فيه فاتن دورين هما أمينة التى خدعها أحمد مظهر ورحلت عن الدنيا، لتقرر شقيقتها هنادى أن تنتقم لها ممن خدعها لتدور الأحداث. وقد قال هنرى بركات عن هذا الفيلم فى حوار نادر مع الإذاعية سلمى الشماع فى برنامج زووم على شاشة التليفزيون المصرى: جاءنى فريد الأطرش برواية دعاء الكروان وطلب منى أن أقراها لأنه يفكر فى أن تكون فيلما يقوم هو ببطولته ،وقرأت الرواية وأعجبتنى كثيرا لكننى وجدت أن فريد لن يكون هو البطل المناسب الصالح للدور وقلت له بكل صراحة هذا الدور لا يناسبك يا فريد فاقتنع، غير أن الرواية ظلت محفورة فى ذاكرتى لكن أجواء الريف التى دارت فيها أحداث الرواية كانت غريبة عنى، فلم أشأ أن أغامر بعمل لم أدرس تفاصيله جيدا إلى أن خضت تجربة إخراج فيلم «حسن ونعيمة» عام 1959 الذى دارت أحداثه فى الريف، وفى أثناء تصوير الفيلم مررنا فى رحلتنا بقرية تقع فى حضن الجبل، وهى تشبه القرية التى ذكرها طه حسين فى روايته، فقلت لنفسى إن مكان تصوير دعاء الكروان قد ظهر الآن.
وبعدها ذهبت إلى الدكتور طه حسين وكنت مرعوبا من لقائه فاستقبلنى الرجل بترحاب وعرضت عليه فكرة عمل فيلم عن روايته دعاء الكروان فقال لى: لكنى اكتب كما تعلم بدون وجود صور كثيرة – وهو المناسب أكثر للسينما- فقلت له: أعلم ذلك ولكن أسلوب سيادتك سيوحى لى بالصور فسألنى: ومن سيكتب السيناريو والحوار فقلت له: إنه الأديب والقاص يوسف جوهر، وقلت له أيضا إن تصورى لنهاية الفيلم غير ما كانت عليه نهاية الرواية فطلب وضع النهايتين فى السناريو ويكون له الاختيار وطلب منى أن أعرض عليه السيناريو فى وجود ابنه الدكتور مؤنس فوافقت على الفور، وحين أتم يوسف جوهر كتابة السيناريو والحوار بالنهاية التى تصورناها وبالنهاية التى كتبها طه حسين ذهبنا إليه وعرضنا عليه السيناريو بنهايتيه وأقنعه ابنه مؤنس بالنهاية التى كتبناها نحن للفيلم، وحين قررنا عمل فيلم الحب الضائع عن روايته ذهب إليه المنتج رمسيس نجيب ليستأذنه فسأله عميد الأدب العربى عمن سيخرج الفيلم وعمن سيكتب له السيناريو والحوار فأخبره أن المخرج هو بركات وأن كاتب السناريو والحوار هو يوسف جوهر فوافق على الفور ودون أن نعرض عليه السناريو والحوار كما حدث فى دعاء الكروان.
فيلم «الحب الضائع» عن قصة طه حسين أيضا، وبطولة السندريلا سعاد حسنى وزبيدة ثروت ورشدى أباظة، وتدور أحداثه فى إطار رومانسى من خلال صديقتين يتوفى زوج إحداهما بعد الزواج بفترة بسيطة فتعانى من صدمة عنيفة وتدعوها صديقتها للإقامة معها فى بيتها ويعجب بها زوج الصديقة وتقاوم هذا الإعجاب وتقرر السفر إلى أن تلتقى صدفة بزوج صديقتها فيحدث الحب وينتهى الفيلم نهاية مأساوية بمصرع الصديقة العاشقة فى حادث سيارة .
ولغير طه حسين أخرج هنرى بركات فيلم «الحرام» عن قصة بنفس العنوان للدكتور يوسف إدريس و«فى بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس و«الباب المفتوح» للطيفة الزيات و«ليلة القبض على فاطمة» لسكينة فؤاد وغيرهم من كبار الأدباء والمبدعين،
https://youtu.be/oDpTkJSIHvg
وقد كان بركات متيما أيضا بعمل أفلام غنائية، فصنع عشر ة أفلام لفريد الأطرش، منها «حبيب العمر» و«عفريتة هانم» و«لحن الخلود» و«قصة حبى» ،وثلاثة أفلام لليلى مراد، منها شاطىء الغرام وورد الغرام وثلاثة لعبد الحليم حافظ هى «أيام وليالى» و«موعد غرام» و«بنات اليوم» وفيلمين لصباح، كما أخرج لفيروز «سفر برلك» وفيلمين لمحمد فوزى وفيلمين لهدى سلطان.
تكريمات
شاركت أفلام بركات فى كبرى المهرجانات العالمية، وقد فاز فيلمه «الباب المفتوح» بجائزة مهرجان جاكرتا عام 1964، كما رشح فيلماه حسن ونعيمة ودعاء الكروان لجائزة الدب الذهبى من مهرجان برلين عام 1959، ورشح فيلم الحرام لجائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان عام 1965، كما حظى بركات بتكريم خاص من مهرجان مونبلييه عام 1992، وحصل هنرى بركات على أوسمة من مهرجانى الاسكندرية عام 1991 والقاهرة الدولى عام 1994 كما حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1996 قبل أن يرحل عن عالمنا فى الثالث والعشرين من فبراير عام 1997 عن عمر يناهز الثالثة والثمانين عاما بعد مسيرة سينمائية حافلة بالمجد والخلود.