تحولت مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إلى متنفس رحب لزعماء الفكر والإصلاح العرب، فهي «دار العلم والحرية» بتعبير عبد الرحمن الكواكبي، والتي لولاها ما كان خرج إلى النور كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، فمصر المحتلة في ذلك الوقت كانت حرة بمستنيريها من قادة الفكر وزعماء الإصلاح.
وعلى قدر ما كان يمارسه الاحتلال والقصر من حصار لحرية الرأي والتعبير في ذلك الوقت، فقد استطاع رواد النهضة العربية الذين شدوا الرحال إلى مصر، من تحويلها إلى حاضنة لكل صاحب رأي ،حتى وإن كان مخالفاً للموروث الثقافي والديني، ففتحت القاهرة آنذاك أبوابها أمام الأفغاني والكواكبي وأديب إسحق وسليم النقاش ورشيد رضا وشبلي شميل وغيرهم من زعماء النهضة، ومكّنتهم من نشر أدبهم وعلمهم وفنهم وأفكارهم ،حتى الغريب منها.
النشوء والارتقاء
كان أغرب ما طُرح في تلك الفترة من نظريات تعارضت مع ما هو سائد، سلسلة مقالات نشرها الطبيب والأديب اللبناني شبلي شميل «1850 – 1917» في مجلة «المقتطف» عن نظرية النشوء والارتقاء والتي جمعها بعد ذلك في كتاب أحدث ضجة غير مسبوقة بعنوان «فلسفة النشوء والارتقاء» نشر عام 1910.
صدّر شميل كتابه المثير للجدل بالدعوة إلى التسامح مع المخالفين وإطلاق حرية الفكر، «كن شديد التسامح مع من يخالفك في رأيك ،فإن يكن رأيه كل الصواب، فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك، وأقل ما في إطلاق حرية الفكر والقول تربية الطبع على الشجاعة والصدق وبئس الناس إذا قسروا على الجبن والكذب».
ويضيف الطبيب المسيحي المولد ،الذي قدم إلى مصر من باريس بعد رحلة تعليمية حصّل فيها علوم الطب والتشريح، أن كتابه الذي نشره أولا في مباحث مختلفة بمجلة «المقتطف»، ثم نشر نسخته الأولية تحت اسم «شرح بخنر على مذهب داروين» قد أحدث لغطا عظيما، مع أنه لم يطبع منه إلا 500 نسخة لم تنفد إلا بعد 15 سنة.. لغطا كان قليله من الخاصة المعدودة فقاموا ينفونه كله أو بعضه، كل على قدر علمه أو حسب هواه، وكثير من العامة الذين أكثروا من الجلبة عن سماع لا عن مطالعة، لأنهم سمعوا أن فيه مساسا بأعز شيء لديهم هم عليه حريصون عن إرث وعادة لا عن تدبر وروية».
تلك الضجة التي صاحبت نشر مباحث نظرية داروين عن النشوء والارتقاء للمرة الأولى باللغة العربية ،في مجتمع يميل أغلب سكانه إلى التدين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود، كانت هي هدف شميل وذلك لإيقاظ الأفكار من نومها العميق، «فالحركة مهما كانت خير من السكون، ومن منا نحن الشرقيين اليوم أولى بهزة، تصل فينا إلى أعماقنا، وقد تقادم علينا السبات حتى بتنا في رتبة في صف الأحياء لا هي بالميتة فتدفن جثة هامدة ولا هي بالحية فتبعث بشرا سويا» يقول الطبيب في كتابه.
الطبيب والشيخ
ورغم عدم اعترافه بالخالق وتبشيره بالنظرية المادية العلمية، ألا أن شميل لم يعاد الدين، ولم يمل إلى وضعه في صدام مع العلم الذي تتغير نظرياته، «فعلى الدين أن لا يقف معترضا في سبيل العلم وأن لا يشتبك معه في خصام مضر للاثنين»، مضيفا: أن مجال الإيمان أوسع من أن يضيق بالتطور العلمي.
لم تمنع أفكار شميل التي كانت تعد في ذلك الزمان شاذة، من أن يصادق الشيخ محمد رشيد رضا ذلك السلفي تلميذ الإمام محمد عبده، والذي تحول وتبنى فيما بعد أفكار محمد بن عبد الوهاب، وتتلمذ على يديه حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ورغم هذا الخلاف الشاسع بين الطبيب والشيخ، ألا أن رضا أتاح لصديقه أن يكتب رأيه في القرآن والنبي ونشره له في مجلة المنار تحت عنوان «رأي الدكتور شميل في القرآن والنبي» في مارس عام 1908، أشار فيه إلى أن القرآن الكريم أسس إلى دين اجتماعي يتفق مع مصالح البشر المدنية.
بعد وفاة شميل رثاه الشيخ بكلمات لم يكتبها في غيره من علماء المسلمين، كتب رشيد رضا تحت عنوان «الدكتور شبلي شميل» في عدد 18 أبريل عام 1917: «في اليوم الأول من هذه السنة الميلادية اغتالت المنية الطبيب النطاسي، الحكيم الاجتماعي، العالم الطبيعي، الأديب الكاتب، الناظم الناثر، الدكتور شبلي شميل، الشهير بتصانيفه ومقالاته العلمية والاجتماعية في المجلات والجرائد العربية والفرنسية».
وأضاف رضا في ترجمته عن صديقه الطبيب الفقير، الذي رحل دون أن يدخر مالا أو يترك عقارا: «كان شبلي فذّا نادر المثل في مجموعة علومه وأعماله وأفكاره وأخلاقه، والذي يحملنا على ترجمته أنه كان من طلاب الإصلاح المدني والتجديد الاجتماعي المخلصين – وقليل ما هم – لا من الذين اتخذوا العلم ذريعة لجمع المال ولا وسيلة لجاه كما هو السواد الأعظم من المتعلمين، فهو لم يدّخر مالا ولم يتأثل عقارا ولم يصرف جلّ أوقاته للكسب، بل كان اشتغاله بالأمور الاجتماعية أكثر من اشتغاله بالطب».
وعن نظرية داروين التي بشّر بها شميل قال رضا: «كان شميل أول من نشر مذهب داروين باللغة العربية وانتصر له وناضل دونه، إذ كان رجال الدين ولا سيما الكاثوليك الذين نشأ شميل على مذهبهم يعدون هذا المذهب من دعائم الكفر. ولم يكتف الرجل بذلك بل كان يصرّح قولا وكتابة بالتعطيل -الإلحاد وإنكار وجود الله–، ولم يتجرأ أحد قبله على ما تجرأ عليه من ذلك فيما نعلم، مع كثرة الذين زاغت عقائدهم من المتعلمين على الطريقة الأوروبية الحديثة».
ويسترسل الشيخ في دفاعه عن صديقه الطبيب الملحد قائلا: «من الغريب أن نرى المحامين عن النصرانية وكتبها الدينية كالجزويت واليسوعيين لم يتصدّوا للرد على الدكتور شميل كدأبهم في الرد على أمثاله من كُتاب الشرق والغرب، وقد كانت مجلتهم المشرق واقفة بالمرصاد لمجلتي المقتطف والهلال وغيرهما من الصحف… وجمهور المتعلمين على الطريقة العصرية من السوريين في مصر وسورية وأمريكا يُحِبّون الدكتور شميل ويعدّونه من دعاة الإصلاح المخلصين ومنهم من يغلو فيه. أما النصارى منهم – وهم الأكثرون – فلا يرون في عدم تدينه مانعا من إصلاحه الاجتماعي، إذ لا علاقة للدين بذلك عندهم. ولا شكّ في كون هذا من تساهلهم الذي قاربوا به الإفرنج».
وعن رأي أهل الإسلام في شميل يقول رضا: «وأما المسلمون فلا يرون مروقه من عقيدته التي نشأ عليها مبعدا له عنهم ،لأنها ليست عقيدتهم، فهو في نظرهم طبيب عالم اجتماعي غير مسلم، ولكنه أقرب من غيره من المخالفين لهم إلى التساهل والإنصاف لحريته واستقلال فكره. وله أصدقاء من مسلمي مصر لعلهم يزيدون على أصدقائه من مسلمي سوريا، الذين لا يعرفه أكثرهم إلا بالسماع».
أما كيف تعامل علماء المسلمين مع النظرية التي كان شميل يبشر بها فكتب رضا في مقاله: «وأما مذهب داروين فقد تكلم بعض علماء المسلمين فيه وفي مخالفته لظواهر النصوص في خلق آدم عليه السلام، ولم يجعلوا ذلك ردا على الدكتور شميل لأنه لم يكن صاحب المذهب، بينما رأي المسلمون الذين يعرفون الدكتور شميل فيه أنهم كانوا يرونه أقرب إلى التساهل والإنصاف. وبيان ذلك أنه كان يقول إنه لا يوجد دين اجتماعي يتفق مع مصالح البشر المدنية إلا دين القرآن».
في مديح محمد والقرآن
وذكر رضا أن شميل كان يفضل نبي الإسلام محمداً عليه الصلاة والسلام على جميع البشر، وأشار إلى أنه كتب له كتابا أودعه أبياتا من الشعر في ذلك، قال فيه «إلى غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار: أنت تنظر إلى محمد كنبي فتجعله عظيما وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم. ونحن وإن كنّا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول وذلك أوثق بيننا لعرى المودة».
وأرسل شميل إلى رضا أبياتا من الشعر في نبي الإسلام نشرها الأخير في «المنار» تحت عنوان «الحق أولى أن يُقال» قال فيها:
دع من محمد في سدى قرآنه ما قد نحاه للحمة الغايات
إني وإن أك قد كفرت بدينه هل أكفرنّ بمحكم الآيات
أو ما حوت من ناصع الألفاظ من حِكم روادع للهوى وعظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها ما قيّدوا العمران بالعادات
نعم المدبّر والحكيم وإنه ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات
ويختم رضا مقاله عن صديقه قائلا: «كان الدكتور شبلي شميل من دعاة الاشتراكية، وهو مستقل برأيه فيها غير مقلّد لطائفة من طوائفها، وكان ماديا في آرائه وإفكاره، إلا أنه كان متحليا بكثير من الأخلاق الحسنة المحمودة، كالرأفة والسخاء والصدق والوفاء والنجدة والمروءة والشجاعة وغير ذلك. وإنّ تحلّي بعض المعطلين (المنكرين لوجود الخالق) بالفضائل من أقوى الشبهات على الدين في هذا العصر، فإننا نسمع كثيرا من المرتابين أو الراسخين في الكفر يقولون أي حاجة للناس في الدين. وإننا نرى كثيرا من المصلين الصائمين منغمسين في المعاصي والرذائل، بل نرى كثيرا من رؤساء الأديان كذابين طماعين أدنياء بخلاء لا يُرجى منهم معروف، ونرى فلانا وفلانا مما لا دين لهم متحلين بالأخلاق الفاضلة والآداب العالية والسبق إلى عمل المعروف. وقد أجبت على هذه الشبهة في المنار غير مرة واتخذت تأبين الدكتور شميل فرصة لبيان ذلك للجمهور».
محمد رشيد رضا
الثورة الاشتراكية
كان شميل من أول الاشتراكيين العرب، تأثر بالاشتراكية الألمانية الإصلاحية، ووصف الرأسماليين بـ«لصوص المجتمع»، وتحدث عن ثورة العمال ضد أصحاب المال، ثورة العقل المستنبط واليد العاملة ضد فساد نظام الأحكام واستئثار رجال المال.
وبحسب ما أورده الدكتور جورج الفار أستاذ الفلسفة بالجامعة الأردنية في كتابه «آفاق فلسفية: أمكنة وأناس وأفكار» فإن شميل كان يؤمن بأن «الاشتراكية نتيجة لازمة لمقدمات ثابتة لا بد من الوصول إليها، ولو بعد تذبذب طويل وكلما ارتقى الإنسان وزاد اختباره، استخدم هذا الاختبار لتقصير مدة الوصول إلى الاشتراكية فالاجتماع لا بد له في بعض الأحوال من ثورة تخلصه من خطر الهلاك».
جورج الفار
ويرى صديقه يعقوب صروف صاحب المقتطف أن دراسته للطب في الجامعة الأمريكية ببيروت أعدته – من دون أن يعرف – لقبول نظرية النشوء والارتقاء الدارونية التي تبناها فيما بعد إبان دراسته في أوربا وفي أثناء تخصصه الطبي.
يعقوب صروف
كان شميل صاحب فكر تقدمي وتجديدي تتلمذ على يديه عدد من رواد النهضة المصرية ومنهم لطفي السيد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وغيرهم. ورغم خلافه مع الشيخ جمال الدين الأفغاني إلا أنه كان من أصدقائه، فكان شميل يتردد على قهوة متاتيا بوسط القاهرة، وكان أحد رواد حلقة الأفغاني الشهيرة التي ضمت عدداً من زعماء الفكر والإصلاح مصريين وشوام.
الفيل والبرغوث
في إحدى جلساته سخر الأفغاني من نظرية شميل، فقال: «وعلى هذا، وبحسب زعم داروين، يمكن أن يصير البرغوث فيلا، بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك..»، على أن الأفغاني نفسه مدح جرأته على بث ما يعتقده من الحكمة وعدم تهيبه من سخط الجموع.
عرف شميل مي زيادة وكتب لها بعض القصائد، وكان من ألمع المتحاورين في صالونها الأدبي، وتمكن من انتزاع تقدير الجميع وعلى رأسهم خصومه الأساسيون من رجال الدين ومنهم الخوري بولس الكفوري صاحب جريدة «المهذب» في زحلة ببقاع لبنان، حيث افتتح الأخير باب التبرعات لطباعة أعمال شميل الكاملة فانهالت التبرعات وطبعت كتبه.
مي زيادة
ويقول الدكتور جورج الفار أن شميل كان يأمل أن يرى الثورة الاشتراكية المنتظرة التي لابد منها، ثورة تنتصر الشعوب فيها بعضها للبعض على الحكومات، لقلبها وإبدالها بما هو أوفق لروح العصر وأحفظ لمصلحة الجمهور، ثورة العمال ضد أصحاب المال.
كانت مواقف شميل السياسية عنيدة فلم يرواغ أبدا، بتعبير الفار، «بل كان يقول للظالم إنه ظالم في وجهة، حتى لو كان ملكا، أما فضله على العالم العربي فقد كان في تحريك الماء الآسنة، وفي رميه الحجر في البركة الراكدة، فقد اختار نظرية علمية هي النشوء والارتقاء لداروين ليحاول تطويعها على الاجتماع الإنساني ويصوغها فيما بعد مستوحيا مدرسة التطور المادي الأوربية، كمنظومة للنهوض بالمجتمع الشرقي، وأكد مرارا وجود علاقة مميزة ما بين النظرية البيولوجية للتطور، والفلسفة المادية والدراسات الأنثروبيولوجية والإنسانية».
«أغرب من آراء شميل»
كادت العبارة السابقة أن تذهب مثلا بين الناس، بعدما أشاع البعض عن شبلي شميل غرابة أفكاره الدينية والاجتماعية، واتهموه بالإلحاد والخروج عن العرف والدين. ولمّا قرأ شميل ذلك الاستغراب على ألسنة الخاصَة والعامَة وفي أذهانهم، أراد أن يجمع آراءه المطعون عليها تلك في كتاب؛ ليتبيَن الجمهور حقيقتها دون لبس، ويكون لهم أن يقبلوها أو يرفضوها على بينة. جمع شميل آراءه في كتاب وسماه «آراء شبلي شميل»، وفي هذا الكتاب يبرز اتجاه شميل لتطبيق فلسفة النشوء والارتقاء، ليس على الكائنات الحية فقط، وإنما على العمران والمجتمعات أيضًا باعتبارهما مقابلين للكائن الحي، يتنفسان وينموان، ويخضعان للعلم وقوانين الطبيعة.
في صبيحة الأول من يناير عام 1917، رحل شميل إثر نوبة حادة من نوبات الربو التي طالما عانى منها في سنواته الأخيرة، وهكذا انتهت حياة مفكر حاز على احترام خصومه ومخالفيه قبل تلاميذه ومؤيديه، وأحدث أثرا كبيرا في تاريخ الفكر العربي، بعدما أسس لمدرسة فكرية جديدة في منطقة عُرفت بتمسكها بموروثها الديني والثقافي.