كثيرا ما توصف الدولة في مصر بالمركزية منذ أيام محمد علي، كما يطلق عليها البعض أول دولة مركزية في التاريخ، ومرجعية ذلك أن الدولة المصرية وضعت تنظيما محددا للمواطن بداية من التحكم في مياه الري وتوزيعها على أراضي الفلاحين،وصولا إلى التحكم في كل مسارات حياته الأخرى، منذ الميلاد والصبا والشباب وحتى الوفاة.
لم تترك الدولة المركزية في مصر شاردة ولا واردة إلا ونظمتها بقانون أو لائحة منذ إصدار الديكريتوهات الخديوية حتى القوانين واللوائح الإدارية والتنفيذية للقوانين. ويعود تاريخ الجريدة الرسمية في مصر إلى عام 1828 حين صدرت في عهد محمد علي باسم الوقائع المصرية.
موضوع تنظيم النقل، وتوفير وتنظيم وسائل لنقل الناس من مكان إلى آخر فى القاهرة، كان واحدا من أولويات واهتمامات الحكومات المصرية فى أواخر القرن التاسع عشر. في تلك الفترة كان الحمار هو وسيلة النقل الأولى المنظمة، حيث وضعت لها الحكومة لوائح وقوانين خاصة تنظم عملها وشروط استخدامها كوسيلة مواصلات بشكل دقيق.
لوائح منظمة
ونقدم هنا قراءة لإحدى اللوائح الخاصة باستخدام الحمير كوسيلة مواصلات في مصر في نهاية القرن التاسع عشر، تلك اللائحة التى أصدرتها مديرية الجيزة لاستخدام الحمير في شهر يناير 1895 باسم لائحة الحمَّارة، والتي اطلعنا عليها في قاموس الإدارة والقضاء لـ«فيليب جلاد» مندوب قلم قضايا نظارة الحقانية في مجلده الأول،
ثم تبعتها المديريات الأخرى على التوالي بإصدار لوائح مشابهة، ليتم بعد ذلك اصدار لوائح خاصة بتحديد مواقف خاصة للحمير ورسوم استخدامها.
مواد صارمة
تتضمن اللائحة الصادرة من مديرية الجيزة المشار اليها بشأن استخدام الدواب كوسيلة مواصلات، 16 مادة تتناول الشروط اللازمة في «الحمَّارة» وهم القائمون على تشغيل الحمير، كيفية التعامل مع المواطنين، ودور البوليس (الشرطة) في الإشراف على هؤلاء الحَمَّارة، وتنظيم الحَمَّارة لأنفسهم، والمخالفات أو المحظورات التي يمتنع على الحَمَّارين القيام بها، والعقوبات التي يمكن أن تفرض عليهم.
وطلبت اللائحة في البداية من «كل من يتعاطي تأجير الحمير» في مناطق المديرية «الجيزة، البدرشين وإنبابة (إمبابة حاليا)، وبولاق الدكرور» إعلان ذلك لمعاوني بوليس المراكز، مشفوعا باسمه ولقبه وجنسيته ومحل سكنه، وعدد حميره وأوصافها، سواء كانت جارية الشغل أو يرغب في تشغيلها»
وفقا لتلك اللائحة فقد كان على مالك الحمير أن يقودها إلى مراكز البوليس للنظر ومعاينتها، والتأكد من أنها ليست مصابة بقروح وخالية من الأمراض والخصال الذميمة التي تمنع تشغيلها، وليُتأكد أيضا أن عدة البرذعة كاملة وبحالة جيدة.
وقد كانت المديرية تقوم بتوزيع «طاسات مستطيلة» (شارات يتم وضعها على الحمير)، على مالكي أو مؤجري الحمير التي تتوافر بها الشروط، و ذلك بقدر عدد الحمير، وهذه الطاسات تكون من النحاس الأصفر عليها «نِمَرْ» بأرقام عربية وإفرنجية، ويلزم وضعها على الدوام على جبهة الحمير، ولا يجوز إعطاء تلك الطاسات أو إعارتها إلى حمَّارين آخرين بدون تصريح خصوصي.
شروط خاصة بالحمَّارين
كما وضعت اللائحة ثلاثة شروط للحمَّارين أو «الراغبين في ممارسة مهنة الحمّارة» خاصة بالسن والحالة الصحية بحيث لا يقل سن الحمَّار عن 14 سنة، أن يكون سليم البنية خاليا من الأمراض، وأن يحصل على تصريح من المديرية.
ولتنظيم أصحاب هذه الصنعة سمحت اللائحة أن يتالف الحمَّارة بكل بلد من البلاد (داخل القطر المصري) بصفة طائفة ويبقون تحت ملاحظة شيخ واحد لهم بكل بلد، وله وكيل فيها يكونون مُعتمَدين من قبل المديرية. كما نظمت أيضا دفاتر أو تصاريخ (بطاقات) تتضمن عمر وأوصاف الشخص «القايد للحمير وجنسيته»، وتجدد كل سنة مرة. وأوجبت أن تكون تلك التصاريح شخصية، فلا يجوز الانتفاع بها لغير الحمَّارة الذين أعطيت لهم، ويجب عليهم إبرازها عندما يطلبها رجال الضبط أو الركاب، وكل حمَّار تفقد منه تذكرته أو تصريحه يلزمه إخبار شيخ الطائفة في الحال، وأن يطلب تذكرة جديدة بعد اثبات فقدها إداريا.
ويجب على شيخ الطائفة ملاحظة الحمَّارة، ويكون مسئولا عن كل مخالفة لنصوص هذه المادة.
الحمَّارة وحقوق المواطنين
كذلك وضعت اللائحة عدداً من الضوابط الخاصة لممارسة الحمّارة لنشاطهم وخصوصا ما يتصل بعلاقتهم بالمواطنين وبما «يضمن عدم الامتناع عن التوصيل وعدم زيادة الأجرة والتزام مواقف معينة، وكيفية الوقوف في هذه المواقف»، وذلك على النحو التالي:
– لا يجوز للحمَّار الوقوف في محلات خلاف المواقف المبينة بالجدول الملحق بهذه اللائحة، إلا إذا طلب منه أحد الركاب انتظاره في محل آخر.
– وقوف الحمير بالمواقف يكون على صف واحد بالترتيب بحيث لا يصير ازدحام بالطريق العمومي.
-لا يجوز للحمَّارة رفض تأجير حميرهم ما لم يكن سبق تأجيرهم أو أن يكون وقت مبيتهم.
– يجب على الحمَّارة أن ينتظروا الركاب وهم في مواقفهم، ولا يجوز لهم ترك حميرهم متسابقين أمام الركاب الأمر الذي ينشأ عنه إقلاق راحة الركاب.
– لا يجوز للحمَّارة أن يسيروا في الشوارع للبحث عن ركاب.
– على الحمَّارة أن يمشوا دائما بجانب حميرهم و ألا يَبْعُدوا عنها مطلقا ولا يجوز لهم ضرب حميرهم بقساوة.
– لا يجوز لحمَّارة طلب أجرة زيادة عن التعريفة الملحقة بهذه اللائحة أو أي تعريفة تصدر فيما بعد.
وفي علاقتهم برجال الأمن أكدت اللائحة على الحمَّارة أن ينقادوا لكافة الأوامر التي تُعطى لهم من رجال الضبط والربط. كما حظرت نقل جثث على حميرهم ما لم يكن بطلب رجال الحكومة الذي يكون في الأحوال الإستثنائية فقط أو للصالح العمومي.
ووضعت اللائحة عقوبات على من يخالف مضمونها، بحيث يعاقب بعقوبة لا تجاوز حدا من حدود العقوبات المقررة للمخالفات المنصوص عنها بقانون العقوبات للمحاكم الأهلية.
المواقف الرسمية للحمير
وحسب قرار لمحافظ مصر في ذلك الوقت «القاهرة الآن» تم تحديد عدد من المواقف، بلغ عددها حوالى 50 موقفا لهذه الحمير في مختلف شوارع ومناطق وأحياء القاهرة، كان من بينها: «شارع الفجالة من جهة ميدان الخازندار، و أول شارع بولاق أمام باب قشلاق قصر النيل العمومي، وميدان باب اللوقـ، وميدان الأزهار بأول شارع الفلكي، والجهة الغربية من كوبري قصر النيل، ومحطة باب اللوق، و شارع حسن الأكبر بباب الخلق، قنطرة سنقر بدرب الجماميز، حارة السقايين، الشيخ ريحان، شارع الأنتيكخانة، وشارع الساحل، وشارع أبو العلا قرب الكوبري».
ويبدو واضحا أن واضعي هذه اللائحة قد اهتموا بصياغة ضوابط كاملة لاستخدام الحمير كوسيلة مواصلات ووضع قواعد صارمة لتنظيم العلاقة، سواء بين الحمّارة والمواطنين، أو بينهم وبين جهاز الأمن. وفي ضوء كل هذه الضوابط والبنود الصارمة يمكنك أن تقارن ما اطلعت عليه من دقة ونظام صارم بما يحدث الآن في القرن الواحد والعشرين في مصر، باستخدام «التوك توك» كوسيلة مواصلات بدون ترخيص أو وضع ضوابط محددة لها، رغم الحوادث الكثيرة التي تنتج عن استخدام «التكاتك»، لتتعجب وتندهش وتضحك كثيراً على ما نحن فيه.