خلق الاتصال الحضاري بين المصريين والترك عبر العصور المختلفة، المناخ المناسب لحدوث التأثير المتبادل بينهم. ظهر الترك في مصر في العصر العباسي كأسرى حرب وعبيد، ولما دخلوا في الإسلام شُكلت منهم بعض الوحدات الحربية الخاصة نظراً لاشتهارهم بالبسالة. وعلى هذا قادوا بعض جيوش الدولة العباسية، ثم تحولوا من عبيد وجنود إلى حكام في عصر الدولة الطولونية والأخشيدية والعلوية، ثم الأيوبية والمملوكية والعثمانية. ولهذا فإن الترك عاشوا في مصر قبل أن تطأ أقدامهم أرض استانبول بل حتى قبل استقرارهم في الأناضول بقرون عدة. وخلال تلك الحقب الطويلة حدث اتصال وثيق واختلاط عميق وامتزاج شديد بين المصريين والأتراك وصاروا جزءاً من تركيبة المجتمع المصري، فصار لهم أثر في وجوه وسمات بعض المصريين وطعامهم ولغتهم وأمثالهم الشعبية. وأكاد أجزم أن الترك وحدهم يتفردون بهذا الأمر، فلا نكاد نجد أي مثل عن أي واحدة من الأقليات التي عاشت في مصر مثل اليونانيين والإيطاليين أو حتى الأمم التي احتلت مصر مثل الفرنسيين والإنكليز.
إن صورة أي شعب في أمثال شعب آخر تكون سلبية في الأغلب الأعم هذا إذا كانت هناك أمثال عنه أصلاً، وعندما بحثنا عن كلمة «تُرك» في قواميس الأمثال الشعبية لم يصادفنا هذا الاسم إلا في أربعة أمثال فقط وأولها: «زي شحات الترك جعان ويقول مُوش لازم». والمراد أنه مثل السائل التركي يكون جائعاً فإذا عرضتَ عليه طعاما حمله ما ركب في طبعه من احتقار خلق الله على أن يرده ويقول لا يلزم. فالتعالي والكبر والصلف من أكثر الأشياء التي جذبت انتباه المصريين في الترك ولهذا ذكروه في الأمثال. أما الثاني فهو: «زي التركي المرفوت يصلي على ما يِستَخدِم». والمرفوت المفصول من منصبه، والمراد أنه لا يعرف ربه ولا يداوم على صلواته إلا إذا طرد، فإذا أعيد إلى الاستخدام رجع لعتوه وترك التعبد. وهذه الصفة هي من طبيعة بعض البشر بعامة، ولكن برغماتية الترك وإصرارهم على الوصول إلى هدفهم جذبت انتباه المصريين. والثالث هو: «جاور الترك ولا تعادي العرب» فينصح المثل بجوارهم لاتصافهم بحسن الجوار.
والرابع هو: «جور الترك ولا عدل العرب»، وهذا المثل دليل على ما وقر في نفوس أهل مصر وغيرهم من اكبار حكامهم والتملق لهم. وذكر هذا المثل في عدد من كتب الأحاديث الموضوعة وذكر أنه كفر صريح لتفضيل جور جماعة على أخرى فالأصل أن أهل العدل أحسن أجناس الناس.
استخدم المصريون كلمة «غز» للتعبير عن الترك، ووردت في ثمانية أمثال ويأتي على رأسها المثل المشهور: «آخِرْ خِدمِةْ الغُز عَلقَةْ»، فالغز، هم الترك. وفي العصر الحالي يختلط معنى هذه الكلمة على البعض فيظن أنها من «الغزاة». والمقصود إن خدمتهم وأخلصت لهم فإنهم يكافئونك في آخر خدمتك بالضرب، ويُروى «آخر خدمة الغز سكتر»، وهي كلمة تقال للطرد. وورد بلفظ «آخر خدمة الغز طز» أي، لا شيء. فخدمتهم لا نفع منها، وورد «آخر خدمة الغز علقم» أي مُر. ويعتقد البعض أن لهذا المثل أصلاً تاريخياً وهو كما يأتي: عندما استعان الفاطميون الشيعة بالترك السنة لصد الحملات الصليبية التي وصلت إلى القدس اشترط الترك تعيين صلاح الدين الأيوبي وزيراً وقائداً، فسيطر على مفاصل الدولة الفاطمية وقضى عليها وعلى المذهب الشيعي وأسس الدولة الأيوبية في مصر، ولهذا قيل إن آخر خدمة الغز علقة أو سكتر أو طز أو مر. تميز بعض الترك بأخلاق استحسنها المصريون مثل مبالغة الصغير في احترام الكبير بتقبيل يده وعدم الجلوس أو الدخول إلا بإذن وغيرها من العادات الحسنة، فقالوا عن ذوي الأخلاق العالية منهم: «لُولا أمَّك وأبُوك لأقول الغُز رَبوك»، أي لولا أني أعرف أمك وأباك لقلت، لم يربه ويؤدبه إلا الترك. ويروى أيضاً «لولا أمك وأبوك لأقول الغز ولدوك» ويضرب هذا للأبيض اللون الجميل الطلعة. ومنه أيضاً «مَا شافوش أُمُنَا وَلا أبُونا… قالوا الغُز ولِدونَا» ويضرب للتهكم والسخرية ممن يصف الناس بأوصاف من دون معرفة بأصولهم.
وفضَّل الترك الإقامة في الجيزة لقربها من القاهرة، ولهذا قيل عنهم: «زي غز الجيزة تملي السجادة ع البحر»، إذ كانوا يحبون الإقامة هناك من أجل التمتع بسهولة الوضوء من النيل والصلاة على ساحل النهر لتجنب مشقة جلب الماء. وكذلك الحال في العصر الحالي يقيم معظم الترك في القاهرة في منطقتي الجيزة والمعادي، كما أن مقر السفير التركي ومقر المركز الثقافي التركي يقعان في الجيزة. كان معظم الترك المقيمين في مصر من الجند ولهذا أطلقت كلمة «غز» عليهم ومن هذا قولهم: «راحت من الغز هاربه قابلوها المغاربة» والمغاربة صنف من الجند المسترزق، أي استطاعت هذه المرأة الهرب من جند الترك وتخلصت من أذاهم وعدوانهم فأوقعها الحظ العاثر في المغاربة، وهم لا يقلون عن أولئك في الشر.
كان معظم الترك في مصر يعملون بالجندية ولهذا حدثت زيادة في معنى كلمة «غز» فأصبحت تعني الترك والجند بعامة، وهذا ما ورد في المثل القائل: «غُز الكِرَا مَا يحاربوش»، أي أن الجندي الذي يُكرى على الحرب لا يحارب ولا يَصدق اللقاء.
من الكلمات التي أطلقها المصريون في أمثالهم على الترك كلمة «جِنْدِي» بكسر، فسكون، وصوابه ضم الأول وهي تصغير لكلمة جندي وأطلقت في الأمثال على الجندي التركي والعظيم الشأن ومن هذا قولهم: «تِشَارِكِ الجِنْدِي مِينْ يُرْطُنْ لَك وِتْشَارِكِ الْبَدَوِي مِينْ يِحْسِبْ لَكْ». إذا شاركت التركي احتجت من يرطن لك ويحدثه بلسانه، وإذا شاركت البدوي تعبت في محاسبته لجهله بالحساب. ومنه أيضاً: «ما حَدِّش يقُول: يَا جِنْدِي غَطِّي دَقْنَك». والمراد لا يستطيع إنسان أن يشير على الأمير بأن يستر لحيته. ويضرب للعظيم الجبار الذي لا يستطيع أحد أن ينصحه.
كان جند الانكشارية سبباً في تخلف الدولة العثمانية لسنوات طويلة لفساد نُظمهم، حتى أن مؤرخي الترك وصفوا إلغاء معسكر الانكشارية في مؤلفاتهم باسم «الواقعة الخيرية». وضاق المصريون ذرعاً بالانكشارية فاستخدموا سلاحهم السحري وهو السخرية منهم فقالوا عنهم: «شخاخ انحدر على خرا قال: مرحبا قرداش». تقال للسخرية من الجنود الأتراك الذين يحيون بعضهم عند اللقاء على الطريقة التركية بقولهم «مرحبا قرداش»، أي مرحبا أخي وصديقي. عرف الترك بثقلهم وعدم فهمهم لمزاح المصريين وهذا ما يوضحه المثل القائل: «جِنْدِي مَا عَجَب شَيَّعْ طَرْطُورُه»، أي لم يعجبهم حضور عظيم الترك لبغضهم له، فأرسل من حماقته قلنسوته إليهم فكيف يعجبهم؟ يضرب للبغيض إذا تخلف عن قوم ولم يُخلهم من آثاره للتثقيل عليهم في حضوره وغيابه.
كان الصلف والغرور من الصفات التي لاحظها المصريون في الترك وقالوا عنها: «إِكمِنَّ أَبوك جِنْدِي دَايِر تِهز وِسْطَك» يضرب لمن يتعاظم ويختال على الناس بلا مبرر ومنه أيضا: «إِكْمن أَبُوك سَنْجَقْ دَايِرْ في حَل شَعْرَكْ». والمعنى ألأن أباك أمير ذو سطوة أبَحت لنفسك كل محظور وفعلت ما تشتهي بلا مبالاة؟ يضرب للمُقدِم على أمر اعتماداً على سبب لا يبرر عمله.
ومنه أيضاً قولهم: «أمه عَيَّاشَة وعَامِل بَاشَا». الباشا من ألقاب الرتب العالية وكان يطلق على الوالي العثماني والمعنى: أًمُهُ تبيع الخبز لفقرهم وهو متعاظم. يضرب لمن يتظاهر بالعظمة الكاذبة. وأيضاً «إفتكرنا الباشا باشا أتاريه راجل»، ويضرب لرجل يكذّب مخبره مظهره.
كانت مصر مقراً ومستقراً لمعظم من عزل من منصب «أغا دار السعادة»، وهو المسؤول عن الحرملك في قصر السلطان العثماني في استانبول، ولهذا ورد الأغا في أمثال المصريين ومن هذا: «زي بَعْجَر أغَا مَا فيه إلا شَنَبَاتْ». بعجر: اسم مخترع. الأغا، هو الخصي ويقصد العظيم من الترك، ويضرب للجاهل الغبي يظن فضل المرء بالظواهر التي لا طائل تحتها. وهذا المثل يشير إلى مظهر من مظاهر الترك وهو إطالة الشارب. ولا يزال إلى الآن يقف في ساحة السلطان بايزيد في استانبول صاحب أطول شارب في العالم يلتقط معه السائحون الصورة مقابل خمسة دولارات. ومنه أيضاً «زَيّ الأغَوات يِفرحُوا بِوْلَادِ اسْيَادْهُمْ». والمراد أن الخصيان يفرحون بأولاد سادتهم لأنهم لا أولاد لهم. ويضرب لمن يفخر بما ليس له فيه شيء.
وفي النهاية يمكننا القول إن الترك شغلوا مكانة في الأمثال الشعبية المصرية أكثر من أي أمة أخرى، واستخدم المصريون في الإشارة إليهم كلمات ترك وغُز وجِنْدِّي وباشا وقائمقام وأغا، وكان لصورتهم جانب إيجابي وهو عزة النفس وحسن الخلق في ما بينهم وحسن الجوار، وجانب سلبي وهو الكبر والغرور والصلف من دون مبرر والثقل والتجبر وهي أمور لم يتحملها المصريون فسخروا منهم في أمثالهم الشعبية.
نقلا عن: الحياة