منوعات

الأفول الأمريكي: هل ستطيح الصين بالولايات المتحدة من على عرش العالم؟

*جوزيف ناي –جامعة هارفارد

*ترجمة وعرض :أحمد بركات

هل انتهى القرن الأمريكي؟ وهل آفلت شمس أمريكا؟.. يبدو أن كثيرين يعتقدون ذلك. ففي السنوات الأخيرة أظهرت استطلاعات للرأي أنه في 15 من 22 دولة تم استطلاع آراء مواطنيها، أكد أغلب المشاركين أن الصين ستحل محل الولايات المتحدة قريبا كأكبر قوة عالمية، أو أنها قد حلت محلها بالفعل. كما كشف استطلاع رأي أجراه «مركز بيو للأبحاث» في عام 2014 أن 28% فقط من الأمريكيين يعتقدون أن بلدهم لا يزال محافظا على مكانته في صدارة العالم، في مقابل 38% في عام 2011. 

في هذا السياق، صدر عن مطبعة «بوليتي» الأمريكية، ضمن سلسلة Global Futures «مستقبليات عالمية»، كتاب عنوانه هذا التساؤل: Is the American Century Over؟ (هل انتهى القرن الأمريكي؟ ويقدم في نهايته عالم السياسة الأمريكي والعميد السابق لـ «كلية جون كينيدي للدراسات الحكومية» في جامعة هارفارد، جوزيف ناي، إجابة تتشابك مع كافة المعطيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، وتستجلي المستقبل في ضوء هذه المعطيات واستنادا إلى حركة التاريخ.

القوة المركزية الأولى.. متى بدأت؟

في الفصل الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان The Creation of the American Century (ميلاد القرن الأمريكي) يحاول الكاتب تحديد بداية القرن الأمريكي ونهايته. أحد التواريخ المحتملة التي ينقلها ناي عن بعض المحللين هو نهاية القرن التاسع عشر عندما أصبحت الولايات المتحدة أكبر قوة صناعية في العالم، وهو ما أهلّها لولوج القرن العشرين وفي خزائنها ربع الاقتصاد العالمي، ثم تضاعفت هذه الثروة مع اندلاع الحرب العالمية الثانية نتيجة الدمار الذي حاق بكل الاقتصادات الكبرى. وبرغم سرعة تعافي هذه الاقتصادات في بداية سبعينيات القرن الماضي وعودة الحصة الاقتصادية الأمريكية إلى ما كانت عليه قبل الحرب، إلا أن الولايات المتحدة ظلت تحتفظ بمكانتها كأكبر قوة على عرش الاقتصاد العالمي. ومن ثم، فإنه من منظور اقتصادي بحت يصبح القرن العشرين قرنا أمريكيا بامتياز، وتتحتم نهايته في العقد القادم على يد العملاق الصيني الصاعد بقوة في المشهد الاقتصادي العالمي.

من منظور آخر يقترح الكاتب – من واقع تحليلات تاريخية – عام 1914 كميلاد حقيقي للمركزية الأمريكية، وذلك عندما قررت الولايات المتحدة خوض غمار الحرب العالمية الأولى والاستفادة من مواردها الاقتصادية في توظيف قوتها لقيادة العالم. وينتهي هذا القرن في عام 2014، «عندما غشيت السياسة الخارجية الأمريكية حالة من الانهيار، وتراجع الاقتصاد وتحطم النموذج الديمقراطي الأمريكي وتنازلت الرأسمالية الليبرالية عن عرش القيادة العالمية».

من ناحية ثالثة، يؤرخ البعض للقرن الأمريكي بانهيار جدار برلين في عام 1989 ثم انفراط عقد الاتحاد السوفيتي في عام 1991 وتحول العالم منذ ذلك التاريخ من القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية. ويظل قوس القرن الأمريكي في هذه الحالة مفتوحا على مصراعيه إلى أمد غير منظور حتى تؤول الهيمنة (أو نصف الهيمنة) الأمريكية إلى قوة أخرى.

Related image

في الفصل الثاني، الذي يحمل عنوانه استنكارا مفندا لمزاعم الانهيار الأمريكي (American Decline؟)، يميز ناي بين نوعين من الانهيار، وهما التراجع الخارجي «الانهيار النسبي»، والتحلل الداخلي «الانهيار المطلق». لكنه يؤكد أن أحدهما لا يستتبع الآخر، ويسوق على ذلك العديد من الأمثلة التاريخية. وفي الفصلين الثالث والرابع يناقش الكاتب مدى تجذر، أو حتى إصابة المجتمع أو الدولة الأمريكيين بأي من هذين الانهيارين. أما الفصل الثالث فجاء تحت عنوان Challengers and Relative Decline (القوى الضاغطة والانهيار النسبي)، وفيه يستعرض الكاتب إمكانية خلافة قوى أخرى الولايات المتحدة على عرش العالم، على النحو التالي:

 Image result for ‫أوروبا‬‎

أوربا

تمثل أوربا القوة الأولى التي تمتلك – ككيان موحد – أكبر اقتصاد في العالم وأكبر سوق عالمي يضم 17% من حجم التجارة العالمية في مقابل 12% فقط للولايات المتحدة. وعلى مستوى القوة الناعمة تتوغل الثقافة الأوربية منذ القدم في مجتمعات عديدة. وفي الفضاء السيبراني تنفرد أوربا حاليا بتحديد المعايير العالمية لحماية الخصوصية التي يتعين على الشركات متعددة الجنسيات في جميع أنحاء العالم الالتزام بها. رغم ذلك، لا تزال الوحدة الأوربية تواجه عددا من العقبات المكبلة، مثل الهويات القومية، والمشكلات الديموغرافية المتعلقة بنسب المواليد، والقبول السياسي للمهاجرين. كما أن التحالف الأوربي الأمريكي يخدم المصالح المشتركة بين كلا الكيانين إلى درجة تجعله يستعصي على الفصام.

Image result for ‫دولة اليابان‬‎

اليابان

قبل ثلاثة عقود، حققت اليابان تفوقا اقتصاديا لافتا على الولايات المتحدة، وتوقع لها كثير من المحللين أن تتحول إلى قوة نووية كبرى وأن تتشكل كتلة باسيفيكية بقيادة يابانية تُقصي عن المنطقة أي نفوذ أمريكي. لكن الاقتصاد الياباني تراجع في العقدين الأخيرين وتعاني اليابان من مشكلات ديموغرافية شديدة تنذر بقوة بتراجع تعداد سكانها من 127 مليون في هذا العام إلى أقل من 100 مليون في عام 2050، كما أن ثقافتها مقاومة للهجرة، ومن ثم يستبعد ناي أن تشكل اليابان قوة ضاغطة، فضلا عن قوة بديلة للولايات المتحدة.

Related image

روسيا

في خمسينيات القرن الماضي، كان الاتحاد السوفيتي الغابر مرشحا بقوة لخلافة الولايات المتحدة على صدارة العالم بفضل مساحته الأكبر، واقتصاده الذى احتل المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة ، وتعداد سكانه الثالث بالمقاييس العالمية، فضلا عن إنتاجه الضخم من النفط والغاز الذي فاق الإنتاج السعودي. لكن الاتحاد السوفيتي سرعان ما انهار في عام 1991. ويلفت ناي إلى أن الوريث الروسي لا يزيد تعداد سكانه وحجم اقتصاده عن نصف الاتحاد الغابر، فضلا عن تآكل قوته الناعمة بعد تراجع المد الأيديولوجي الشيوعي . وبرغم تجارب الإصلاح والحداثة التي تخوضها موسكو، إلا أنها غير مؤهلة لإزاحة العملاق الأمريكي، حتى لو شكلت في سبيل ذلك تحالفات مع بعض دول الجوار وعلى رأسها الصين.

Related image

الهند

يبلغ عدد سكان الهند 1.2مليار نسمة، وهو أربعة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية، ويتوقع أن تفوق الصين من حيث عدد السكان في عام 2025. ويتوقع محللون أن يشهد منتصف هذا القرن تحول عالم القطب الأوحد إلى عالم ثلاثي الأقطاب تتنازعه الولايات المتحدة والصين والهند. لكن تعداد السكان وحده لا يمثل مؤشرا للقوة ما لم يتم تطوير هذه الموارد البشرية في خدمة النمو الاقتصادي، وهو ما تقبع فيه الهند على مسافة بعيدة خلف دول المقدمة.

Image result for ‫البرازيل‬‎

البرازيل

تمثل البرازيل عضوا مهما في مجموعة «البريكس»، والدولة الأكبر في أمريكا اللاتينية، وسابع أكبر اقتصاد في العالم، لكنها – رغم ذلك – تواجه العديد من المشكلات المعقدة المتعلقة بالبنية التحتية المتهالكة والنظام القضائي المثقل، ومعدلات الجريمة المرتفعة، والفساد المستشري في جميع مفاصل البلاد، وهو ما يجعل قدرة النمو البرازيلي على اجتياح الولايات المتحدة ووضع النهاية الدراماتيكية للقرن الأمريكي ضربا من المستحيل.

ويبقى العملاق الصينى

تبقى الصين هي الدولة الوحيدة القادرة على القيام بدور وريث الولايات المتحدة على عرش العالم. فبين مجموعة دول البريكس تمثل الصين العملاق الذي يعادل اقتصاده جميع اقتصادات الدول الأخرى مجتمعة، كما أنها تمتلك أكبر قوة عسكرية وأعلى معدل نمو اقتصادي وأكثر مستخدمي إنترنت بالمقياس العالمي. ويتوقع روبرت فوجيل، أحد خبراء الاقتصاد الحائزين على جائزة نوبل، أن تنتج الصين وحدها 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقابل 21% فقط للولايات المتحدة وأوربا واليابان مجتمعين، وذلك بحلول عام 2040.

في هذا السياق، يكرس الكاتب الفصل الرابع الذي يحمل عنوان The Rise of China (صعود الصين) لمناقشة إمكانية معادلة الصين للقوة الأمريكية، أو التفوق عليها، وأن يكون القرن الحالي – كما يصفه المؤرخ الإسكتلندي نيال فيرغسون – «قرنا صينيا».

نيال فيرغسون

يتتبع الكاتب مكامن القوة الصينية من خلال ثلاثة محاور، هي القوة الاقتصادية والقوة العسكرية والقوة الناعمة. فبينما ترتكز أغلب التوقعات على أن القوة الصينية تقوم أكثر ما تقوم على معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي المتسارعة، إلا أن الصين تمتلك مصادر قوة أخرى لا تقل أهمية. فمساحة الصين تعادل مساحة الولايات المتحدة، لكنها تفوقها من حيث تعداد السكان بأربعة أضعاف. وتمتلك بكين أكبر جيش في العالم يمتلك أكثر من 250 سلاحا نوويا، كما تمتلك قدرات حديثة في مجالي الفضاء والفضاء السيبراني (بما في ذلك أكبر عدد من مستخدمي الإنترنت في العالم).

أما في مجال القوة الناعمة فلا تزال الصين تفتقر إلى الصناعات الثقافية القادرة على منافسة هوليوود، فضلا عن تراجع التصنيف العالمي لجامعاتها. كما تفتقر الصين أيضا إلى المنظمات غير الحكومية التي تمثل مصدرا مهما للقوة الناعمة للغريم الأمريكي. رغم ذلك، فإنها تمتلك ثقافة تقليدية جذابة، وقد عمدت البلاد مؤخرا إلى تأسيس مئات المعاهد الكونفوشية في جميع أنحاء العالم لتعزيز هذه الثقافة.

ويخلص الكاتب إلى أن الصين لا تزال تقبع بعيدا خلف الولايات المتحدة، وأن قوتها لا تتجاوز حدود محيطها الإقليمي، وهو ما  قد يعيقها عن «الهيمنة على العالم حتى لو رغبت في ذلك».

يعود الكاتب في الفصل الخامس الذي يحمل عنوان Absolute Decline: Is America like Rome؟ (الانهيار المطلق: هل تشبه أمريكا روما؟) إلى مناقشة النوع الثاني من الانهيار الذي أشار إليه في الفصل الثاني من الكتاب، وذلك من خلال عقد مقارنة منهجية بين الإمبراطورية الرومانية القديمة والولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن. ويحلل ناي أسباب انهيار الامبراطورية الرومانية من خلال نظرية «التمدد الإمبريالي المفرط» الذي أدى إلى التحلل الداخلي من خلال ثلاثة محاور هي محور الثقافة والمجتمع، ومحور الاقتصاد، ومحور المؤسسات السياسية. فقد فقد الرومانيون ثقتهم في ثقافتهم ومؤسساتهم، واستهلكت نخبهم في أتون الصراع على السلطة، واستشرى الفساد؛ مما أدى إلى توقف عجلة النمو الاقتصادي.

ينتقل الكاتب لتحليل الأوضاع في الولايات المتحدة من خلال المحاور ذاتها، ويؤكد أن أي قياس بين روما والولايات المتحدة في هذا السياق «سيفتقد تماما إلى أي أسانيد علمية». فالثقافة الأمريكية ربما تعاني بعض التصدعات، لكنها أقل خطورة بكثير مما كانت عليه في الماضي. كما أن المجتمع الأمريكي – برغم مشكلاته – لا يزال مفتوحا على مصراعيه على العالم الخارجي؛ مما يضاعف قدرته على التجدد ذاتيا. ومن الناحية الاقتصادية، يقر الكاتب أن مؤشرات النمو ربما تشهد تراجعا عما كانت عليه في الماضي، لكنها لا تزال تبدع في استخدام التكنولوجيات التسويقية بفضل الثقافة التجارية التي يقوم عليهاهذا الاقتصاد. وتمتلك الولايات المتحدة جامعات تقبع في مقدمة التصنيفات العالمية وتقود العالم في البحث والتطوير، وتتصدر التقنيات السيبرانية والنانونية والحيوية، وغيرها.

أما عن المؤسسات السياسية فيثير الكاتب بعض علامات الاستفهام حول قدرتها على مجابهة مشكلات المستقبل بسب ما تعانيه من جمود قديم يتجلى اليوم أكثر ما يتجلى في واشنطن، لكنه سرعان ما يؤكد أن النظام الفيدرالي يقوم على التنوع والإبداع في الولايات والمدن. كما أن تقليل دور الحكومة في الحياة الأمريكية يعني أن يكون مصدر الإبداع من خارجها، ومن خارج واشنطن. علاوة على ذلك، فقد نجحت المؤسسة السياسية الأمريكية مؤخرا – برغم التنافس الحزبي المحموم – في تحسين قطاعات كثيرة بدءا من العجز العام، ومرورا بالطاقة، ووصولا إلى الرعاية الصحية. ويخلص الكاتب إلى أن أمريكا ربما تواجه مشكلات كثيرة، لكنها تبقى بعيدة كل البعد عن مخاطر الانهيار المطلق.  

وينهي الكاتب هذه الدراسة بتناول «تحولات القوى والتعقيدات العالمية» Power Shifts and Global Complexity، وهوعنوان الفصل السادس والأخير. تتمثل تحولات القوى في ثنائية تحول القوة من الغرب إلى الشرق، ومن الحكومات إلى جهات فاعلة غير حكومية، نتيجة الثورة المعلوماتية العالمية. أما التعقيدات فتتمثل في ظواهر الإرهاب والتغيرات المناخية وانتشار الأوبئة وعدم الاستقرار المالي وغيرها. لكن هل تستطيع هذه التحولات وتلك التعقيدات وضع نهاية للقرن الأمريكي؟

بعد نهاية الثنائية القطبية التي ميزت حقبة الحرب الباردة، غدت القوة في عصر المعلومات موزعة في نموذج يشبه لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد. في رقعة الشطرنج الأولى تظهر القوة العسكرية كقوة أحادية تمسك الولايات المتحدة بتلابيبها. وفي الرقعة الثانية تبدو القوة الاقتصادية كقوة متعددة الأقطاب، وتمثل الولايات المتحدة وأوربا واليابان والصين اللاعبين الرئيسيين على هذه الرقعة. وفي الرقعة الثالثة تبرز العلاقات العابرة للحدود التي لا تخضع لهيمنة الحكومات، مثل المصرفيين الذين يحولون الأرصدة إلكترونيا، والإرهابيين الذين ينقلون السلاح عبر الحدود، والمتسللين الذين يهددون الأمن السيبراني، وبعض التهديدات مثل الأوبئة والتغيرات المناخية وغيرها. في هذه الرقعة تتوزع القوة على نطاق واسع تتلاشى معه نظريات الأحادية القطبية والتعددية القطبية والهيمنة وغيرها.

لكن هذه التحولات وتلك التعقيدات لا تعني – من وجهة نظر الكاتب -حلحلة المركزية الأمريكية، وإنما فقط قد تتغير صورتها قليلا عما كانت عليه في القرن الماضي. ويخلص ناي إلى أن الإجابة على سؤال ’من التالي؟‘ هي ’لا أحد‘؛ لأن معطيات الواقع لا تؤدي على المدى المنظور إلى «عالم ما بعد الولايات المتحدة».

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock