«يحكى أن شركة رائدة في صناعة السيارات بإحدى البلدان، صدّرت أول منتج لها من السيارات تحت اسم «تويوبيت»، ولكن هذا المنتج فشل،وعلى مدار خمسة وعشرين عاما من المحاولات،عجزت الشركة عن تصنيع سيارات جيدة. وفرت الحكومة لهذه الشركة كل الفرص الممكنة للنجاح، من خلال فرض التعريفات الجمركية المرتفعة على الإستيراد، وفرض قيود صارمة على الاستثمار الأجنبي في مجال تصنيع السيارات.. كما قدمت من الأموال العامة ما أنقذت به الشركة من إفلاسها الوشيك.. كان ذلك عام 1958، وكان هذا البلد هو اليابان، وكانت الشركة هى شركة «تويوتا»، التي صارت بعد سنوات واحدة من أكبر وأهم شركات صناعة السيارات في العالم.
هكذا يقدم ها-جوون تشانج تجربة اليابان في كتابه «السامريون الأشرار .. الدول الغنية والسياسات الفقيرة وتهديد العالم النامي».
يشير تشانج في عرضه لتلك التجربة، إلى أن شركة تويوتا كانت قد بدأت عملها كمُصَنّع لآلات النسيج «أنوال تويودا الأوتوماتيكية»، ثم انتقلت الشركة لإنتاج السيارات عام 1933، وكانت أول سيارة لها تسمى «تويوبيت». وفي عام 1939 طردت الحكومة اليابانية شركتي «جنرال موتورز» و«فورد» الأمريكيتين، وفي عام 1949 قدمت الحكومة دعما ماليا من خلال البنك المركزي «بنك اليابان» لمساعدة شركة تويوتا على تجاوز صعوباتها المالية. وبعد نصف قرن من كارثة «السيارة تويوبيت» أصبحت «السيارة ليكزس» الفاخرة التي تنتجها شركة «تويوتا» شيئا أقرب إلى «أيقونة للعولمة» على حد وصف تشانج.
رجل مبيعات الترانزستور
كان الرئيس الفرنسي شارل ديجول يطلق، من قبيل السخرية، على رئيس وزراء اليابان الأسبق «هاياتو إيكيدا»، الذي زار فرنسا عام 1964، «رجل مبيعات الترانزستور»، فكيف انتقلت اليابان من كونها بلدا يسخر منه قادة العالم، إلى واحدة من أقوى اقتصادات العالم؟
شارل ديجول هاياتو إيكيدا
يجيب تشانج على ذلك التساؤل بالقول: إن حكومة اليابان لو كانت قد اتبعت اقتصاد التجارة الحرة في مطلع الستينيات، لما كانت هناك «سيارة ليكزس»، ولكانت شركة تويوتا اليوم مجرد شريك صغير لمصنع سيارات غربي ما، أو كانت في أسوأ الحالات قد أزيلت عن وجه الأرض، وذلك ما يصدق على الإقتصاد الياباني إجمالا.
يروي تشانج تفاصيل علاقة اليابان بالتجارة الحرة مشيرا إلى أن اليابان كانت في البدايات الأولى لتنميتها الصناعية تنتهج سياسة التجارة الحرة، لكن ذلك لم يكن خيارا حرا، بقدر ما كان نتيجة لمعاهدات جائرة فرضتها عليها الدول الغربية منذ عام 1853، حيث ألزمت هذه المعاهدات اليابان بمعدل تعريفة جمركية يقل عن 5% حتى عام 1911، لكن حتى بعد أن استردت اليابان سيادتها على التعريفة وزادت التعريفة الصناعية، ظل متوسط معدل التعريفة الصناعية عند نحو 30%. وليست التعريفة، بطبيعة الحال: سوى وسيلة في يد الدولة من بين وسائل عدة لحماية صناعاتها الوليدة.
يضيف تشانج أن اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت عددا من البرامج التنموية التي أصبحت من «قبيل الأساطير» على حد وصفه، فقد قادت تلك البرامج وزارة التجارة والصناعة اليابانية، والمعروفة اختصارا باسم (MITI)، وكانت الواردات تخضع لسيطرة قوية من خلال سيطرة الحكومة على تحويلات النقد الأجنبي، بينما تم تشجيع التصدير بهدف تعظيم الدخل من النقد الأجنبي اللازم لشراء تكنولوجيا أفضل. وكان هذا التشجيع يتم من خلال تقديم الدعم المباشر وغير المباشر، ومن خلال المساعدة المعلوماتية والتسويقية التي كانت تقوم بها المؤسسة اليابانية للتجارة الخارجية «جيرتو»، وهي الهيئة التابعة للدولة والمسؤولة عن التجارة. كما كانت الحكومة اليابانية تمرر القروض المدعومة للقطاعات الرئيسية عبر «برامج القروض الموجهة».
وبموازاة ذلك عملت الحكومة اليابانية على تنظيم الاستثمار الأجنبي وتحديد مجالاته، فكان هذا الاستثمار محظورا في أغلب الصناعات الأساسية، وحتى حينما يسمح به، كانت توضع سقوف صارمة للملكية الأجنبية، بحد أقصى 49% عادة.
كما استعانت اليابان بالتأميم كآلية للحفاظ على التوازن الاقتصادي في بعض الأوقات الحرجة، وهنا يشير تشانج إلى أن اليابان قد قامت بتأميم 43 شركة من شركات القطاع الخاص المفلسة في الفترة من عام 1983 إلى 1987، عندما كان الاقتصاد الياباني يمر بفترة حرجة.. كما استعانت في فترة مبكرة من نموها بعملية تزوير نشطة للعلامات التجارية، مثلها في ذلك مثل العديد من البلدان الآسيوية التى فعلت ذلك لاحقا، مثل كوريا الجنوبية وتايوان والصين، وغيرها الكثير من البلدان الثرية اليوم، والتي أضحت ترغم الدول النامية على الإلتزام باتفاقيات التجارة الحرة الثنائية، بدعوى أن حماية الملكية الفكرية، – التي هى بالأساس تقوم على دعم الاحتكار- كفيلة بالتشجيع على إنتاج معارف جديدة ينتفع بها الجميع.
المدهش من وجهه نظر تشانج أن الدول الثرية التي تحرص بشدة على وعظ الدول النامية بأهمية ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، بوصفه أمرا محوريا في الانضباط النقدي،هى نفسها تتراخى في السياسات النقدية كلما احتاجت إلى توليد الوظائف والدخل. ففي ذروة انفجار النمو في هذه البلدان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أسعار الفائدة في تلك البلدان جميعها شديدة الانخفاض، إن لم تكن الفائدة سلبية.
ركل السِلِّم بعد تمام الصعود
كانت اليابان «الأشد وحشية» في تنظيمها للاستثمار الأجنبي على حد وصف تشانج، لا سيما فيما قبل عام 1963، حيث كانت الملكية الأجنبية محدودة بـ49%،بينما الاستثمار الأجنبي المباشر ممنوع منعا باتا في كثير من «الصناعات الحيوية». وقد ظل الاستثمار الأجنبي يتحرر بإطراد، غير أن ذلك اقتصر على الصناعات، التي كان لدى الشركات المحلية القدرة على المنافسة فيها بقوة.
نتيجة لذلك كانت اليابان الأقل، من بين جميع دول شرق آسيا، في مستوى تلقيها للاستثمار الأجنبي المباشر، قياسا إلى إجمالي استثمارها الوطني. في ضوء ذلك فإن ما تقوله الحكومة اليابانية حاليا عن أن «وضع قيود على الاستثمار الأجنبي المباشر، لا يتلاءم مع السياسة التنموية»، ليس فقط خضوعا منها لضغوط منظمة التجارة العالمية، بل هو، كما يرى تشانج، «مثال كلاسيكي على فقدان الذاكرة التاريخي الانتقائي، وإزدواجية المعايير وركل السلم بعد تمام الصعود» على حد وصف تشانج.
يلخص تشانج تجربة اليابان بقوله إن تجارب التاريخ تقف في جانب وضع القواعد التنظيمية للاستثمار الأجنبي ولفرض قيود على الورادات، فأغلب الدول الثرية اليوم نظمت الاستثمار الأجنبي عندما كانت الطرف المتلقي له، وقد كان هذا التنظيم في بعض الأحيان «وحشيا» كما في حالة اليابان. أما مبدأ «دعه يعمل» لتشجيع دخول الشركات متعددة الجنسيات، والذي يوصى به السامريون الأشرار اليوم الدول النامية، فإن اليابان ذاتها لم تكن تتنباه في بداية نموها الاقتصادي.
الدرس الأهم الذي يمكن أن نستخلصه من تجربة اليابان كما عرضها تشانج أن الاستثمار في بناء القدرات يحتاج وقتا طويلا قبل أن يؤتي ثماره، فتجربة تويوتا احتاجت لأكثر من ثلاثين عاما من الحماية والدعم قبل أن تتمكن من المنافسة في سوق السيارات الدولي، ولو في فئته الدنيا، بل لقد مرت ستون عاما كاملة قبل أن تصبح من كبرى شركات السيارات في العالم، وبدون هذه الآفاق الزمنية المديدة لكانت اليابان اليوم تصدر الحرير وفقط. وإنه لمن سوء الحظ بالنسبة للدول النامية أن هذه الأطر الزمنية طويلة الأمد لاتتواءم مع السياسات النيوليبرالية الجديدة التي يوصي بها السامريون الأشرار.