بعد رحيل الشاعر الكبير فؤاد حداد، كتب عبد الرحمن الأبنودي عنه قصيدته الشهيرة «الإمام»، وهى لم تكن في رثاء حداد، بقدر ما كانت تعبيرا عن رؤية الأبنودي لحداد ولغيره من العظماء. في ختام القصيدة صرخ الأبنودي: «الموت / ميخصناش / فؤاد حداد مامتش / هل عندكم مانع ؟»..
الأبنودي محق تمامًا، فكلنا سنموت، لكن بعضنا يستعصي أمره على الموت، إنه لا يموت، حياته تتوقف فحسب، أعني حياته البيولوجية، أما حياته المرتبطة بمجال عطائه فلا تتوقف للحظة، بل قد تنمو وتتعاظم. فبعض البشر يكثف غيابُهم معاني حضورهم.
https://youtu.be/Sd2itPUN_H4
وفق ما سبق فإن العندليب الأسمر الراحل عبد الحليم حافظ لم يمت، فمازال يطربنا من داخل قبره، ويرسل صوته مواسياً في أحزاننا، ومباركاً في أفراحنا، وداعمًا لقضايانا الكبرى.. بداية من فلسطين، الجرح الذي لن نبرأ منه حتى نحرر كامل التراب الفلسطيني، وليس انتهاء بقصة حب تتحدى الصعاب.
دار الكرمة قدمت لنا دليلًا إضافيًا على عدم موت عبد الحليم، فقد اختارت يوم الحادي والعشرين من شهر يونيو لتطلق كتابها «موسوعة أغاني.. عبد الحليم حافظ». كان هذا التاريخ عن قصد، لأنه يوافق العيد التسعين لميلاد عبد الحليم. هذه الموسوعة في حد ذاتها تعد دليلًا على مواصلة عبد الحليم لحياته ولكن من مكان آخر.
صاحب «اللهجة الرابعة»
معد الموسوعة هو الباحث عمرو فتحى، الذي تواصلت معه فعرفت منه بياناته الخاصة التي تقول: إنه من مواليد العام 1971 بحي الدقى بمحافظة الجيزة ،حصل على بكالوريوس إدارة أعمال من كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1993، ثم حصل على دبلوم دراسات عليا فى التذوق الفنى من معهد النقد الفنى بأكاديمية الفنون عام 2005.
بأبسط قراءة في بيانات المؤلف سنعرف إلى أي مدى تمكن عبد الحليم من البقاء على قيد الحياة. مات عبد الحليم، وعمرو فتحي ابن ست سنوات، وطبعًا لم تربطه بعبد الحليم رابطة قرابة أو صداقة أو حتى مشاهدة عابرة، لقد عرف عبد الحليم بعد رحيله وليس في زمن حياته الدنيوية. كما أن مجال دراسة المؤلف بعيد جدًا عن مجال عطاء عبد الحليم، لكنها الأرواح تلك الجنود المجندة.
في مقدمته القصيرة لموسوعته يقول عمرو : «بدأ اهتمامي وإعجابي بفن عبد الحليم حافظ وعمري ثماني سنوات، من خلال والدي الذي كان يهتم بتسجيل حفلات عبد الحليم. كانت «قارئة الفنجان» هي أول أغنية أتعلق بها في طفولتي، ثم كانت أغنية «حبيبها» في مراهقتي، ثم أغنيتا «فاتت جنبنا» و«أي دمعة حزن لا» في الجامعة، ثم استمر اهتمامي بفن عبد الحليم حافظ وتقديري له حتى الآن».
محبة عمرو لعبد الحليم نستطيع وصفها بالمحبة البناءة، وهى تلك التي يحرص فيها المحب على تخليد ذكرى محبوبه، وقد فعلها عمرو الذي يستعير كلامًا من الناقد الكبير كمال النجمي جاء فيه: «عبد الحليم أصبح صاحب «اللهجة الرابعة» في الغناء العربي، إلى جانب لهجة أم كلثوم، ولهجة عبد الوهاب، ولهجة الكلاسيكيين الأوائل». ذلك التقدير الواعي لدور عبد الحليم في تطوير الغناء العربي، كان الدافع الأول لإعداد تلك الموسوعة.
قال لي عمرو : «ألفت هذا الكتاب من أجل توثيق تاريخ عبد الحليم حافظ الفني وحفظه، وقد استغرق إعداده ست سنوات من البحث وجمع المعلومات من الدوريات بدار الكتب المصرية، ومكتبات سور الأزبكية، ومواقع محبي فن عبد الحليم حافظ على شبكة الإنترنت».
اعتمد عمرو في تبويب مادة موسوعته على العامل الزمني، وهذا أمر مجهد جدًا، ويحتاج للرجوع لتسجيلات الإذاعة ولصحف تلك الفترة إضافة إلى سماع شهود عيان، وقد قام عمرو بكل ذلك على أكمل وأحسن وجه.
https://youtu.be/pU6IW50EsYc
أول أغنية
تبدأ الموسوعة من العام 1951 مع أغنية «ذكريات».
ثم يورد عمرو البيانات الأساسية للأغنية فيقول: «إن ذكريات من تأليف محمود جبر ومن ألحان عبد الحميد توفيق زكي، وقدمت لأول مرة يوم الخامس من مارس من العام 1951 للإذاعة المصرية، لحنت في مقام الحجاز، مع حضور متميز للجيتار، والبيانو، والآلات الوترية، والأبوا.
سبق أن غناها عباس البليدي، وهى تعد أول أغنية يغنيها عبد الحليم حافظ في حياته الفنية، كما أنه غناها باسمه الأصلي عبد الحليم شبانة، كان وقت غناها عازفًا للأبوا في الإذاعة، ومعتمدًا كمغن منذ 11 فبراير 1951، واستعان به الملحن والمايسترو عبد الحميد توفيق زكي لغناء الأغنية بدلًا من كارم محمود الذي لم يستطع حضور تسجيل الأغنية.
ومن أغنية لأخرى ومن عام لآخر، يواصل مؤلف الموسوعة تسجيل أدق البيانات، حتى ولو بذل في سبيل تلك الدقة ست سنوات من عمر شبابه. ولذلك يجوز لنا القول: بأن هذه الموسوعة هى الأولى من نوعها، رغم كثرة الكتابات عن عبد الحليم، وذلك لأنها تتناول أغانيه من حيث اسم الأغنية، مؤلف الكلمات، الملحن، الموزع الموسيقى، الفرقة الموسيقية المصاحبة، تاريخ تقديمها لأول مرة، رقم الاسطوانة، المقام الموسيقى، الحضور المميز لبعض الآلات الموسيقية المستخدمة فى الأغنية وعازفيها، الحفلات التى قُدمت فيها، والفيلم الذى ظهرت فيه، وآراء النقاد فيها، وتعريف بالمؤلفين والملحنين والموزعين الموسيقيين والعازفين.
كنتُ ـ وربما هذا من باب الطمع ـ أتمنى وجود ثبت كامل وصحيح لنص كلمات أغاني العندليب، وهذا هو الشيء الوحيد الذي غاب عن الموسوعة .وقد سألت المؤلف عنه فقال: «توجد بالفعل كتب مخصصة فقط لكلمات جميع أغانى عبد الحليم حافظ، كما تتوافر على شبكة الانترنت مواقع بها كلمات الأغاني، ثم هناك أسباب تتعلق بنشر الكتاب من حيث عدد صفحاته».
https://youtu.be/_PxUgF6fgh8
مراحل فنية
رحلة العندليب التي بدأت بأغنية «ذكريات» في العام 1951 سردها عمرو فتحي حتى وصل إلى «قارئة الفنجان» التي قدمها عبد الحليم فى 25 أبريل 1976، وقد ختم الموسوعة بذكر آخر أغنيات العندليب وهى «حبيبتى من تكون» التي كانت محفوظة ومسجلة لدى شركة صوت الفن، ثم أصدرتها للجمهور في العام 1982.
وعن المراحل الفنية التي مر بها عبد الحليم حافظ خلال رحلته الفنية الفذة، يرى عمرو فتحي أن «هناك أربع مراحل أساسية مر بها عبد الحليم:
الأولى: المرحلة التمهيدية 1951-1953: وقد اتسمت بغنائه للأغنيات القصيرة، ومشاركته في برامج غنائية للإذاعة المصرية، من دون أن يكون له دور يذكر في اختيار الكلمات أو الملحن، فقدم أغنيات عديدة لمجموعة كبيرة من الملحنين لهم مذاهب وأفكار موسيقية مختلفة. مثال: «الأصيل الذهبي»، «شكوى»، «بدلتي الزرقا».
ثانيا: المرحلة الأولى: منتصف 1953 – 1962: وخلالها أتجه عبد الحليم حافظ نحو الغناء العربي المتقن، وقد شهدت تلك المرحلة تألق العندليب بغنائه لأغنيات من نوعية «صافيني مرة» قُدمت لأول مرة يوم 16 أبريل 1953 بالإذاعة المصرية.«على قد الشوق» التي أذيعت لأول مرة في 4 يوليو من عام 1954، وكانت أول تعاون فني بين عبد الحليم حافظ وزميل دراسته علي إسماعيل موزعًا موسيقيا.
https://youtu.be/OpJ4L0HRYos
وتعتبر أغنية «صافيني مرة» من العلامات الفارقة في حياة العندليب الفنية، فقد تنبه من خلالها إلى ضرورة أن يحدد طبيعة الجمهور الذي يستهدفه بفنه ،وأن كل جمهور له الأغاني التي تناسبه. لذا اتجه إلى جمهور مختلف، وهو جمهور الشباب، فتحقق له النجاح وتقبل هذا الجمهور أعماله اللاحقة.
ثالثا: المرحلة الثانية 1962-1966: وقدم فيها أغانٍ عاطفية أكثر ثراءً وتميزًا من حيث الألحان والتوزيع الموسيقي مثل أغنيات: «مغرور»، و«بلاش عتاب» و«جبار» و«لست قلبي»، و«حبيبها». جدير بالذكر هنا أن أغنيات «بلاش عتاب» و«جبار» و«لست قلبي» قد ظهرت في فيلم «معبودة الجماهير» الذي عُرض في يناير 1967 ،لكن أغاني الفيلم كان قد تم الانتهاء من إعدادها وتسجيلها قبل نهاية عام 1966، لذلك تُعد من أغاني هذه المرحلة من الناحية الفنية.
وعلى الرغم من أن عبد الحليم قد غنى قصائد الفصحى، مثل «لا تكذبي»، و«لست قلبي»، و«حبيبها»، وهي أغانٍ تعبيرية حزينة، فإن تلك الفترة شهدت تقديمه لأغنيات وطنية بالعامية ساهمت في ترسيخ شعبيته كمغنٍّ ومتحدث باسم الثورة وهي على الترتيب: «بالأحضان»، «مطالب شعب»، «المسئولية»، «الفوازير»، «بستان الاشتراكية»، «بلدي يا بلدي»، وانتهاء بأغنية «يا أهلًا بالمعارك» عام 1965.
وتُعد هذه المرحلة استمرارًا لتقديم أغانٍ وطنية تروي إنجازات الثورة والرئيس جمال عبد الناصر بمفردات لغوية عامية بسيطة ، لكن الجديد في هذه المرحلة كان مشاركة مرسي جميل عزيز ومحمد الموجي في تلحين أغانٍ وطنية لعبد الحليم حافظ إلى جانب ما كان يقدمه الثنائي صلاح جاهين وكمال الطويل.
كما شهدت هذه الفترة غناء عبد الحليم حافظ لأغانٍ باللهجة الكويتية مثل أغنية «يا هلي يكفي ملامي» عام 1965. وأغلب أغاني هذه المرحلة نجحت على المستويين الجماهيري والنقدي.
وتعد أغنية «مغرور» بداية المرحلة الثانية من مراحل غناء عبد الحليم حافظ. وقد ظهرت في فيلم «الخطايا»، الذي عرض في مارس 1962، وهي من كلمات: محمد حلاوة، ألحان: محمد الموجي، وتوزيع: علي إسماعيل.
رابعا: المرحلة الثالثة 1966-1976: وهى مرحلة التجارب الفنية الكبيرة في مشوار عبد الحليم، وقد تميزت بالتنوع في الموضوعات والتجريب في الألحان والتوزيع الموسيقي.
في منتصف الستينيات كان لدى عبد الحليم حافظ اعتقاد راسخ بأنه أصبح مطرب الثورة وصوتها المعبر عن طموحات الشعب بعماله وفلاحيه من خلال أغانيه الوطنية التي كان يقدمها في احتفالات الثورة في يوليو من كل عام . وقد أحس بخطورة موقفه التنافسي الغنائي بعد أن ظهرت مجموعة من الأغاني العاطفية الريفية لمحمد رشدي بأغنيته «تحت السجر يا وهيبة» عام 1961 وأشاد بها النقاد والكتاب في الصحافة ووسائل الإعلام. كما واصل محمد رشدي نجاحه بأغنية «المأذون» عام 1964 ثم أغنية «أدهم الشرقاوي» في العام نفسه. إلا أن ورود اسم محمد رشدي في مقدمة فيلم «حارة السقايين» ملقبًا بأنه مطرب العمال والفلاحين كان إنذارًا فنيًّا حاسمًا لعبد الحليم حافظ ليعيد توجيه نفسه فنيًّا في منتصف الستينيات. وكان قراره بالمشاركة بأغنيات عاطفية ريفية. لتبدا المرحلة الثالثة عام 1966 ، بأغنية «أنا كل ما أقول التوبة» وهي كلمات: عبد الرحمن الأبنودي، وألحان: بليغ حمدي،و توزيع: علي إسماعيل.
كانت أغنية «أنا كل ما أقول التوبة» الأولى بين أغنيات ثلاث فلكورية قدمها عبد الحليم في العام نفسه، إذ تلاها «على حسب وداد قلبي»، ثم «سواح»، وكانت كأنها رد من عبد الحليم حافظ على نجاح محمد رشدي بمجموعة أغانيه الريفية.
تعرضت أغنية «أنا كل ما أقول التوبة» لنقد فني قاس، فلقد وزعها علي إسماعيل مستخدمًا آلات النفخ النحاسية الزاعقة الصوت، وبإيقاع سريع غير متناسب مع كونها أغنية بسيطة من الفلكلور الشعبي المصري، وهو ما جعل عبد الحليم حافظ والموزعين الموسيقيين يتوخون الحذر في أعمالهم اللاحقة، من حيث عدم الاستخدام المفرط للآلات الموسيقية الغربية في الأغاني المصرية وخصوصًا المستمدة من الفلكلور الشعبي.
ومن أغانى تلك المرحلة: «مداح القمر، موعود ، يا مالكا قلبى، رسالة من تحت الماء، فاتت جنبنا، حاول تفتكرنى، نبتدى منين الحكاية، وقارئة الفنجان».
وفي الختام يمكن أن نقول إن عمرو فتحى فى جمعه وتوثيقه لأغانى العندليب كان يتحرى تفاصيل التفاصيل، وهذا يؤكد على أن الحب الواعي الناقد هو الأبقى والأهم من تلك المناحات العاطفية، التي تعم وسائل الإعلام كلما جاء حدث يخص حياة عبد الحليم أو فنه.
سنذكر لمؤلف هذه الموسوعة دوره العظيم في الترتيب الأبجدي للأغنيات التي يتجاوز عددها الثلاثمائة أغنية، فبعد الترتيب الزمني سنجد في الفهرست ترتيبًا أبجديًا يعين على سهولة الوصول لبيانات الأغنية. فعمرو يبدأ بالألف باء ذاكرًا أغنية «ابنك يقول لك يا بطل» وينهي موسوعته بحرف الياء ذاكرًا كل الأغنيات التي تبدأ بهذا الحرف.
بقى أن أذكر أمنية ظلت تراودني وأنا أقرأ الموسوعة، متى تجد دور النشر (مثل الكرمة) التي تهتم بنشر أعمال جادة عالية التكلفة مساعدة حقيقية من مؤسسات الدولة التي تقع مثل تلك الموسوعة في مجال عملها؟.
https://youtu.be/b9dKpIUw0xU