يحتل الفكر الديني في مجتمعاتنا العربية مكانة واسعة، ويدخل في مجالات متعددة ومتشعبة، بدءاً من صناعة الفتاوى إلى تدبير الشأن العام، وبينهما مؤلفات ومواعظ وخطابات منبرية وبيانات ومواقف تجاه كافة الأحداث، وفي هذا المقال سأسلط الضوء على جانب واحد أراه منسياً في خضم الجدل الواسع حول الفكر الديني المعاصر؛ والمتعلق بغياب الخطاب النقدي للأفكار والممارسات الدينية التي ظهرت في الفترة الماضية المسماة بفترة «الصحوة الدينية»، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، مع العلم أن الخطاب النقدي شبه غائب أيضاً لدى التيارات الأخرى التي تدّعي الليبرالية والقومية وكل حركات اليسار العربي، والحالة التي يمكن أن تُستثنى من هذا الغياب؛ تلك الحركة النقدية التي جاءت بعد نكسة حرب حزيران (يونيو) 1967م وتناولت نقد العقل العربي، حيث أسهم الجابري والعظم وطه عبدالرحمن وطرابيشي وعلي حرب وغيرهم في تطوير حركة النقد والبحث عن مكامن الخلل في البناء الفكري والتراثي، لفهم أسباب الضعف والانهزام التي وقع العرب فيها ولما ينهضوا منها، فالموضوع الذي سيركّز عليه المقال متعلقٌ بغياب النقد الديني في الحراك الصحوي على مستوى الخطاب والممارسة الخليجية، وسأعرض بعض مسائله على النحو الآتي:
أولاً: هناك خوف وتوجس شديد من نقد الخطاب الديني، وذلك لعدة أسباب من المهم معرفتها ابتداءً لفهم أسرار هذه الظاهرة السلبية، وفي ظني أن خطاب الصحوة الجماهيري والعاطفي في بدايته صنع أرضيةً هشّة قابلة لاستنبات الأتباع دون سؤال أو اعتراض، وأُشبعت حاجتهم العاطفية للانقياد خلف (كاريزميات) دينية محترمة، وتداخل في أثنائها الديني (الثابت من العقائد والأحكام) مع التديّني (المتغير من الاجتهادات والمواقف والأولويات)، وأصبح النقد لشيخ أو موقف أو كتاب؛ جزءاً من نقد الدين، ومحاولةً لخدمة أعداء الدين، ونفاقاً يؤسّس لانتكاسة عن الصراط المستقيم، هذه الحالة كانت غالبة على الحراك الصحوي في بدايته، وعندما يقع الخطأ الفادح في هذه البيئة؛ فإنه يمارس التبرير دفاعاً عن الخطأ، أو يبقى النقد في الدوائر المغلقة تحت ذريعة أنهم في معركة مفاصلة مع العلمانيين المتربصين، ومن ثمّ يبقى الخطأ والخلل محصوراً في فئة لا يعنيها التغيير بقدر ما يهمها بقاء ما كان على ما كان، وهذه الممارسة غير النزيهة ليست حكراً على الصحوة الدينية في مكان ما؛ بل حالة عامة تشترك فيها الصحوات الإيديولوجية دينية وغير دينية، وليس هدف المقال التفصيل فيها، ولكن هذه الأسباب خلقت قُبّة منيعة تمتّع بها رموز الصحوة، وحظيت معها أدبياتٌ وأفكار بذات المناعة ولعدة عقود، ما أدى مع الزمن أن تتكرر الأخطاء وتتمظهر الاجتهادات بمزيد من القدسية، فتوقفت إثر ذلك حركة التصحيح والنقد الداخلية، وآثرت الصمت والانزواء، وأحيانا الانسحاب من المشهد بهدوء لعدم إثارة المجتمع على الدين؛ كما يَسْوغ للبعض تبريره.
ثانياً: حصل في بعض فترات الصحوة صورٌ من النقد مورست على استحياء داخل صندوق الصحوة، وأحياناً مارسه خصومهم في العلن بشكل متوحش وساذج، والقاسم المشترك بين تلك الخطابات النقدية أنها (مشخصنة) ضد رموز الصحوة دون أفكارهم، وتحاسب أشخاصهم على مسرح النقد لأجل الإسقاط التام لذواتهم البسيطة، إما باتهامهم بفضيحة أو خيانة أو ابتداع، وهذه التهم وغيرها قد تسقط الأفراد وتحدث بلبلة في صفوف الاتباع، ولكنها تسمح للأفكار الضالة أو الخاطئة بالاختباء مؤقتاً تحت السطح، والبقاء في الظل دون مشاهدة، مما ينذر بخطر انبعاثها من جديد على أيدي جيل ورث هذه الأفكار ولا تعنيه معاركها، بينما الساحة الثقافية والنقدية لا تزال تراوح مكانها؛ منشغلةً في حلبة ملاكمة تنتظر من يسقط ومن يغلب، لهذا أعتقد أن أطروحات التشدد والانغلاق التي بُنيت أفكارها في حال غفلة من العقل النقدي أو الفهم المقاصدي، مرشّحةً للعودة مرة أخرى ما دامت تلك الأفكار بعيدة عن مشارط النقد الموضوعي والتفكيك العلمي لبنيتها المعرفية، وهذا ما يفسّر عودة أفكار (اخوان من طاع الله) التي ظهرت في ثلاثينات القرن الماضي، وتمكّنت في حركة (جهيمان) التي قُضي عليها في 1979م، فرغم موت الأشخاص المبشرين بها، عادت مرةً أخرى في خطابات تنظيم القاعدة وبعض رموز الصحوة خلال فترة التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، مثل الغلو في مفهوم الولاء والبراء، واللبس الفقهي والعقدي في نواقض الإسلام، واستدعاء مواقف السلف والاقتداء بها دون اعتبارٍ لاختلاف الزمان والمكان والحال، وتقحّم السياسة بلا وعي مقاصدي يحفظ النظام العام والأمن، وغيرها من مسائل كثيرة كانت مبثوثة في الكتب والمناهج التدريسية وعدد من الفتاوى، وهكذا نشاهدها تمرّ بهدوء أو تختبئ بحذر، دون الانشغال بنقدها ومراجعتها وفق أصول الدين ومحكمات الشرع.
ثالثاً: يعتبر نقد منهج التفكير والاجتهاد من أهم ما يطّور حركة النقد في أي مجتمع؛ بل أحياناً يأتي معها التجديد (الهادي المنتظر)، وإذا تأملنا أبرز منعطفات التجديد الفكري على مستوى العالم لوجدنا أن النقد الفكري للمنهج هو أصل الموضوع وروحه التي ألهمت الباحثين في تطويره ونضجه، فرسالة الشافعي ومقالة ديكارت، وأرجانون فرانسيس بيكون، وثلاثية كانط النقدية وغيرها، كانت من أهم الأعمال النقدية المنهجية التي أَثْرت الحركة العلمية في عصورهم ومن جاء بعدهم، وأنتجت مشاريع تجديدية رائدة. وفي ساحتنا الخليجية المعاصرة نشهد فقراً مدقعاً في أطروحات النقد الديني؛ رغم توفر البيئة السياسية الداعمة، بيد أن المنهج الفقهي لا يزال كما هو منذ عقود، ولا يزال يحكم الفعل الديني رغم تسارع حركة المجتمع ورغبة بعض أفراده في تجاوز هذا المجال، فمدونات الإفتاء والوعظ ومواقع الاستفتاء والخطب المنبرية تسير على ذات الخطى السابقة، والقليل الذي تمت مراجعته منهجياً، بينما الكثير لا يزال ينظر بتشدد مبالغ فيه، وبلغة احتياطية ذرائعية، نحو الكثير من المسائل العادية المتعلقة باللباس والزينة والسماع والترفيه والرياضة، أو في مسائل المعاملات المعاصرة كالتأمين وفقه المصارف وغيرها، أو قضايا السياسة الشرعية المتعلقة بتقسيم الديار والتعامل مع القوانين الدولية وحقوق الانسان والحريات، فهذه وغيرها لم يستجد في بنيتها الفقهية أي تغيير يذكر، خصوصاً في المؤسسات الشرعية، وإعادة البحث المتجرد لها وفق مقاصد الشرعية وسماحتها؛ دون إملاءات السلطة أو ضغط الجمهور، قد يساعد على إذكاء شعلة التجديد ومواكبة الشريعة للجديد.
رابعاً: فراغ الاطروحات النقدية الجادة وضعف المناخ العلمي الذي يتم فيه النقد والنقد الآخر، ساعد على ظهور الاطروحات الهشّة والغرائبية، وكذا المشاريع البحثية الهامشية عن مجال التأثير الواقعي، ولذلك لا يُعرف في الخليج شخصيات فكرية ذات انتاج عميق ونقد فكري له قيمته العالمية إلا نادراً، رغم كل الإمكانيات المادية والفضاء العلمي المفتوح بسبب ثورة التقنية والاتصالات؛ ومع هذا التحدي المخجل الذي نشعر به؛ لا يزال الانشغال الفكري الرصين دون المستوى المطلوب، ولا تزال مؤسساتنا وجامعاتنا تنظر في المخرج العلمي بعيون اقتصادية قاصرة أو تنافسية إعلامية مراهقة، ولا يمكن أن يكون هناك تصحيح لهذا الخلل دون العودة للجامعات والاستثمار الحقيقي في دورها ورسالتها. كذلك ظهر أثر آخر لهذا الضعف العلمي؛ والمتعلق بانشغال الكثير ممن يوصفون بالنخب الثقافية في الشأن السياسي، واهتمام مبالغ فيه في التعليق وبناء موقف حول أي قضية تحدث في العالم، ولذلك نعيش دائماً تجاذبات سياسية عنيفة لأي حدث سياسي يحصل في منطقتنا أو حتى خارجها، وأصبح لدينا تضخّم في التنظير السياسي اللاواعي، بمعنى انه قائم على متابعة الأخبار وتحليلها بشكل سطحي، وليس من خلال أدوات فهم علمي حصيف للأحداث، ومن ثمَّ نشعر بعد كل حدث أو أزمة سياسية أن كل عوامل التوافق والتشابه التي تجمع الخليجيين باتت في مهب ريح مواقع التواصل الاجتماعي؛ فهي الساحة الشعبية لتبادل التهم والتصنيف العشوائي المدمّر لوحدة مجتمعاتنا وتكاملها. وأعتقد أن غياب الأفكار الجادة والانشغال عن المشاريع العلمية الرصينة أسهم في زيادة الفراغ الفكري الذي أمتلأ خطأً بالهموم السياسية التي لا تؤسس نهضة أو تدفع نحو تنمية؛ بقدر ما تنتج مناخا موبوءاً لتكاثر العداوات والاستزادة من الفتن.
خامساً: تتضاءل حركة النقد الفكري خصوصاً في المجال الديني بحسب سعة أو ضيق (حرية النقد)، ففي الماضي كان هناك توجّس من نقد طائفة دينية أو جماعة حركية أو أدبيات اجتهادية؛ خوفاً من ردّة الفعل الإقصائية أو المحاسبة القضائية باسم الدين، ولكن اليوم توجد مساحة مكفولة لهذه الحرية، ولكن لا ينبغي أن تكون مسوّغاً للعبث الانتقامي من الدين باسم الدين، فالحرية النقدية يجب أن تكون مسؤولية أخلاقية وبأدوات علمية موضوعية، والتجاوز في ذلك رغبة في الانتقام أو الاسفاف، قد يدفع المجتمع للانكفاء على نفسه وحماية معتقداته ولو كانت في أمرٍ شكلي، لأن شعوره بالهجوم على ما يقدسه من جوهر؛ يثيره للدفاع والمواجهة دون اعتبار للخسائر المتوقعة من ردّة فعله، وهذا ما يجعل النقد الديني أمراً بالغ الحساسية إذا خرج عن إطاره القيمي.
وأخيراً… أجد من المهم التذكير بأن نقد الفكر الديني لا يعني نقد ثوابت الدين وأصوله، ومحاولة الفصل بين ما يجوز نقده وما لا يجوز؛ لا يقل أهميةً عن الفعل النقدي نفسه، وهذا كله سيحصل دون خوف أو قلق على الدين الحق الذي تكفَّل الربّ سبحانه بحفظه، يبقى إدراك أن هذه الحركة النقدية هي أعظم خدمة تُقدَّم للدين وأتباعه؛ لو كنا نعقل معنى النقد وأهميته، وأن أولئك النقّاد الذين يُنظر لهم بتوجس وريبة قد يكونوا الأصلح فعلاً عند الله تعالى، ولهذا أدعو لتبنّي مشاريع نقدية علمية مؤسَّسة على مقاصد الدين الكلية، والتخلّي عن تلك المشاريع الوهمية التي تطمس الدين باسم التجديد الديني، أو تمارس النقد اللاأخلاقي للمتدينين باسم الانفتاح المزيف والتحرر اللاأدري، فهذه من وجهة نظري ليست إلا حركة للنقد تتقدم بنا نحو الوراء.
نقلا عن: الحياة