في العقود الأخيرة، وبالتحديد مع انهيار يوغسلافيا وحرب البوسنة 1992-1995 وغيرها، بدأ الإسلام في البلقان الذي حافظ على ملامحه المميزة طيلة قرون ينفتح أمام ضغوط تيارات وممارسات آتية من الخارج، وهو ما أدى مع الزمن إلى تراخي «الإسلام التقليدي» الذي تعارف الناس عليه منذ قرون لتظهر جماعات ومؤسسات تعبّر عن فهم مختلف للإسلام المتعارف عليه في البلقان يصل إلى حدّ تسويق مصطلح «إسلامات» Islams في عنوان الكتاب الصادر حديثاً للباحث علي بايزيدي في سكوبيه باللغتين الانكليزية والألبانية (دار ساميزدات 2018). ومن الواضح أن تخصّص المؤلف (علم الاجتماع) وعمله في جامعة جنوب شرق أوروبا بمكدونيا كان له أثره في مقاربة المؤلف لهذا الموضوع.
ومع أن الكتاب ينصّ في العنوان على «إسلامات ألبانية» إلا أنه مفيد للتعرف على ما طرأ في البلقان من تطورات وتغيرات في المجتمعات المسلمة لسببين على الأقل. أما الأول فهو في تمهيده عن الإسلام في البلقان بشكل عام، وأما الثاني فهو أن المسلمين الألبانيين الذين يتوزع معظمهم في «المثلث الألباني» المتداخل (ألبانيا وكوسوفو ومكدونيا الغربية) يمثلون حوالي نصف المسلمين في البلقان. فحسب إحصائيات الأمم المتحدة التي يوردها المؤلف يمثل المسلمون خمس السكان في البلقان (75 مليون) بنسب تتفاوت من دولة إلى أخرى بين أغلبيات وأقليات: ألبانيا (70 في المئة) والبوسنة (40 في المئة) وكوسوفو (89,6 في المئة) ومكدونيا الشمالية (33,3 في المئة). أما من الناحية الاثنية/ اللغوية فيشكل الناطقون بالألبانية 52 في المئة والناطقون بالسلافية الجنوبية 32 في المئة والناطقون بالتركية 12 في المئة والناطقون باللغة الغجرية 4 في المئة.
ولكن يبدو أن هذه الإحصائيات تحتاج إلى تحديث بسبب التطورات والمستجدات المتسارعة في البلقان، كما توضّحها الإحصائيات الأخيرة خلال سنوات 2011-2016، التي تجعل نسبة المسلمين في كوسوفو تقفز إلى 95 في المئة ونسبة المسلمين في البوسنة تتجاوز خط 50 في المئة بينما تنحدر نسبة المسلمين في ألبانيا من 70 في المئة إلى 58,79 في المئة، وهو ما أشار إليه المؤلف في الهامش عن ألبانيا فقط وكان يجب أن يكون في المتن وأن يوضح دلالته الكبيرة.
ومع ذلك يتضمن الكتاب دراسة تحليلية معتمدة على مصادر أساسية ومقابلات مع شخصيات محورية لتوصيف التطورات والمستجدات التي جعلت الإسلام المتعارف عليه منذ قرون يتحول إلى «إسلامات» حسب المؤلف. وبشكل عام يمكن اعتبار سقوط الأنظمة الشيوعية التي سبقت أو زامنت انهيار يوغسلافيا وحروبها مؤشراً لانعطاف فارق سمح بتدفق الكثير من «الدعاة» و «المجاهدين» القادمين من الخارج لنشر ما يعتبرونه «الإسلام الصحيح».
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه خلال الحكم الشيوعي، حيث كانت المؤسسة الممثلة للمسلمين (المشيخة الإسلامية) تضبط الإيقاع العام في البلاد والعلاقة مع السلطة، عاد الجيل الأول من الشباب الذين درسوا في الدول العربية (مصر والعراق الخ) ضمن انفتاح يوغسلافيا على دول عدم الانحياز، وبرز حينئذ أحمد اسماعيلوفيتش (1938- 1988) في سراييفو ممثلاً لاتجاه تجديدي ترك أثره في طلابه من الألبان بكلية الدراسات الإسلامية في سراييفو التي افتتحت في 1974. ومن ناحية أخرى كان علي عزت بيغوفيتش (الذي تخرج من كلية الحقوق) يمثل حلقة جديدة تعمل على تجديد الفكر الإسلامي من خارج المؤسسة الرسمية التي تمثل الإسلام أمام الدولة اليوغسلافية والتي أصبح على رأسها آنذاك أول شيخ قادم من مكدونيا (يعقوب سليموفسكي) وليس من البوسنة التي «احتكرت» رئاسة المشيخة الإسلامية في يوغسلافيا السابقة.
وعلى حين أن المؤسسة الدينية التي تمثل المسلمين أمام الدول الجديدة التي انبثقت عن يوغسلافيا لا تزال تحاول السيطرة على الوضع، معتمدة في ذلك على التنافس الإقليمي على المسلمين في البلقان، حيث أن المؤسسة الدينية في كوسوفو تتميّز بعلاقات وثيقة مع تركيا الأردوغانية بينما المؤسسة المجاورة في ألبانيا تمثل نتاج الاستثمار الطويل الذي عملت لأجله حركة فتح الله غولن، تبقى مكدونيا في الوسط بينهما حيث هناك مؤسسة مستقلة نسبياً وهناك وجود تركي أردوغاني واضح في الشارع وهناك وجود غوليني واضح في مؤسسات التعليم والخدمات، بالإضافة إلى وجود سلفي متصاعد بدعم خارجي يفضي إلى «إسلام مختلف» عما تعارف عليه الألبان خلال خمسة قرون ونيف.
ومن هنا يميّز المؤلف بين ثلاثة تيارات جديدة أخذت تنتشر بين الألبان في العقد الأخير للقرن العشرين :
1- الاتجاه التجديدي القادم من سراييفو متأثراً بأحمد اسماعيلوفيتش وعلي عزت بيغوفيتش ويمثله الطلاب الذين درسوا في سراييفو حتى 1992 ثم تابعوا دراستهم في الجامعات التركية وعلى رأسهم د.اسماعيل بارذي Ismail Bardhi الذي عبّر عن هذا الاتجاه بمؤلفاته ومقالاته. وقد تمحور هذا الاتجاه لاحقاً حول دار نشر «لوغوس» في سكوبيه التي امتدت لتشمل جمعية للمساعدات الإنسانية ومركز للأبحاث ومجلة شهرية ومحطة تلفزيونية الخ..
2- الاتجاه الإخواني الذي برز في 1979 مع وجود طلاب عرب منظمين في سكوبيه وبريشتينا واعتمد أولاً على ترجمة كتب المودودي وسيد قطب من البوسنوية ثم من العربية، ولكنه شهد في 1984 انشقاقاً بين اتجاهين مختلفين: الاتجاه الذي بقي على ولائه لـ «النموذج المصري» والاتجاه الذي مال إلى محور سراييفو- استانبول. وقد حرص هذا الاتجاه أيضاً على أن تكون له دار نشر خاصة به (الفرقان) ومجلة وجمعية للمساعدات الإنسانية ومركز للدورات المختلفة الخ.
3- الاتجاه السلفي الذي جاء بقوة من خلال الجمعيات الخيرية التي حلّت في كوسوفو وألبانيا ومكدونيا، ثم اعتمد أكثر على اجتذاب الشباب للدراسة في بعض الجامعات العربية وبرمجتهم للعودة إلى موطنهم كدعاة لا يعترفون بالمؤسسة التي تمثل الإسلام التقليدي المتعارف عليهم ولا بإسلام المسلمين الموجودين هناك.
وفي هذا السياق تمثل سنة 2012 سنة فارقة بعد أن سيطر هذا الاتجاه على جامعين معروفين في سكوبيه (جامع يحيى باشا وجامع توتونسز) وبدأ ينشر «الإسلام المختلف» الذي يبدأ من عدم الاعتراف بصحة إسلام المسلمين الموجودين ولا يعترف بالمؤسسة التي تمثل الإسلام بل أنه لا يشجع أتباعه على العمل في المؤسسات الحكومية والعامة ويركز على الشكل المخالف (إطلاق اللحية ولبس الثوب القصير الذي لا يصل إلى كعب الأقدام)، ويحرّم الاحتفال بالمولد النبوي الذي له تقاليده الراسخة في المنطقة ويمنع شراء اللحم من اولئك القصّابين الذين لا يعتبرهم مسلمين ويحلّل لأتباعه الزواج من ابنة العم أو ابنة الخال، وهو ما يشكل صدمة بالنسبة للتقاليد الألبانية، ويعمد إلى مسح الرسومات الموجودة في الجوامع الموروثة من الفن المعماري العثماني بطلاء جدارنها الداخلية بلون رمادي الخ.
وحسب المؤلف فإن ما يميز هذا التيار اهتمامه بالتقنيات الحديثة (وسائل التواصل الاجتماعي) ولكن ضمن شبكة مغلقة خاصة به تشهد تكريس أفكاره ومنها الولاء التراتبي وصولاً إلى أمير الجماعة. وهكذا أثمر هذا الاتجاه أخيراً عن «إسلام مختلف» يخالف أتباعه المسلمين الآخرين بالصلاة واللباس والزواج والأسماء الجديدة التي يطلقونها على أنفسهم وأولادهم الخ. وفي هذا السياق فقد كسر هذا الاتجاه الصورة النمطية للدعوة والداعية، حيث لم يعد الشيخ بلباسه التقليدي في البلقان (الذي يجمع البدلة والربطة واللحية الخفيفة) الذي تخرّج من جامعة محلية أو من مصر وبلاد الشام ويحمل شهادة عالية (ماجستير أو دكتوراة) بل أصبح الداعية الآن من يحظى برضى الأمير ويحرص على اللحية و «اللباس الشرعي» ويقوم بالفتوى مع أنه قد يكون ميكانيكياً أو بائعاً للخضروات دون أن يكون قد درس العلوم الإسلامية في جامعة محلية (في سكوبيه أو بريشتينا أو تيرانا) أو تركية أو عربية.
كتاب علي بيازيدي يفيد في التعرف على التطورات والمستجدات في واقع المسلمين في البلقان، الذين يتحولون الآن إلى هدف لجهات عديدة، في العقود الأخيرة بعد سقوط الأنظمة الشيوعية، مع التحفظ بطبيعة الحال على بعض ما فيه من مقدمات ونتائج.
نقلا عن: الحياة