منوعات

صفحات مجهولة: كيف فهم العقاد الشخصية المصرية؟

أقول في البداية -وقد أكون مُخطئاً – إن ما كتبه الأستاذ عباس العقاد عن الشخصية المصرية هو أول دراسة موضوعية عن تلك الشخصية، التي لم يتوقف عند أبعادها النفسية والاجتماعية والتاريخية مُفكرو جيله، فضلاً عن عدم وجود دراسات سبقت الأستاذ «العقاد» في هذا المجال بأقلام مفكري القرن التاسع عشر، مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي مبارك وغيرهم.

 الدراسة الأولى للشخصية المصرية

ما أقصده هنا – وقد يحتمل الخطأ- هو ذلك الاستنتاج الذي وصلت اليه عند قراءتي المُبكرة والحديثة لكتاب الأستاذ «العقاد» عن «سعد زغلول» زعيم الثورة المصرية في عام ١٩١٩، والذي يحمل عنواناً لافتاً هو «سعد زغلول: سيرة وتحية» …

ففي مُفتتح كتابه، أّفردَ الأستاذ، دراسة مُطولة عن الشخصية المصرية، تجاوزت صفحاتها أكثر من ثلاثين، وأظن أنها الدراسة الأولى لتلك الشخصية، لم يسبقه إليها أحد. فكافة المعارك الفكرية والثقافية التي سبقت «العقاد» تناولت مكونات الهوية والشخصية المصرية، وليس الشخصية ذاتها، بمثل ما تناول الإمام «محمد عبده» قضايا الإسلام والعصر، كما في كتابه «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية» في الرد على المستشرق الفرنسي «أرنست رينان»، وكذلك ما كتبه العلامة «علي مبارك» رجل الإصلاح والتعليم عن تطوير المجتمعات لا البحث عن هويتها، بمثل ما جاء في كل أعماله ومنها «الخطط التوفيقية، ورحلة علم الدين والاستحكامات العسكرية» وغيرها.

كذلك تندرج الدعوات الثورية لاستنهاض الأمة بعد انكسارها غداة الاحتلال البريطاني لمصر عام ١٨٨٢م، في هذا السياق،  وكان الزعيم مصطفى كامل ورفيق دربه محمد فريد من هذا الطراز الفريد، فقد بعثا الشخصية المصرية من تحت رُكام سلطة الاحتلال والخداع التركي. فالاحتلال كان يقصد إهانة المصريين وسلب إرادتهم السياسية، والأتراك تعاملوا مع الشعب المصري بحُسبانه جموعا من الفلاحين الجهلة لا يصلحون إلاّ كخدم وعبيد.

أي أن دعوات هؤلاء الزعماء، مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وغيرهم كانت دعوة استنهاض وتحريض، لا دراسة وتأصيل. فكلمات «مصطفى كامل» «لو لم أكُن مصرياً لوددت أن أكون مصريا» وحتى فكرة مثّال مصر العظيم «محمود مختار» عن مصر،تندرج تحت هذا التوصيف، أي الاستنهاض الوطني، والتي جسدها مختار في عمله البديع، تمثال «نهضة مصر»، والذي شرَعَ في العمل فيه، قبل ثورة ١٩ بسنوات، وتحديداً مع بداية سنوات الصحوة التي واكبت نضال «الحزب الوطني» حزب «مصطفى كامل ومحمد فريد».

قبل الأستاذ «العقاد» إذن، لا أظن أن ثمة دراسة بالمعنى العلمي، تناولت الشخصية المصرية، كما تناولها هو على النحو الذي جاء في مقدمة كتابه «سعد زغلول: سيرة وتحية». وقد أراد «لعقاد» وفق منهجه المُعتاد، أن يبدأ الحديث بما يُناقض فكرته، أي معالجة تلك الاتهامات الموجهة إلى الشخصية المصرية، ثم بعد ذلك يبدأ في التأسيس، منهج أشبه بما يفعله المهندس المعماري، أن يأتي على الرُكام والأحجار أو المبنى المُتهالك فينزع منه عناصر قوته واحدة إثر أخرى، ثم يحولها إلى رُكام بنسف أعمدته المُتداعية أصلاً، ليُقيمَ البناء الشامخ الذي يبتغيه، قوي الأركان على هدى وبصيرة أو على «نظيف» كما يقول اللفظ الشائع. فقبل ذلك لا يجوز البناء، سواء عند «العقاد» أو عند أي صاحب عقل.

وقد لاحظت أن كل من أتىّ بعد الأستاذ ليتناول الشخصية المصرية قد سَلَكَ ذات المنهج.. فعل ذلك الاستاذ «شفيق غربال» في كتابه الصغير الرائع «تكوين مصر» وكذلك فعل «صبحي وحيدة» وبصورة رائدة في كتابه الموسوعي «في أصول المسألة المصرية» وكذلك الدكتور «سليمان حزين» في كتابيه «حضارة مصر: أرض الكنانة» و«مستقبل الثقافة في مصر العربية» ثم جاء الدكتور «جمال حمدان» لٍيفُرد للموضوع أربعة مجلدات عن مصر، أخذ لها عنواناً صريحاً هو «شخصية مصر» وهو العمل الكبير الذي كان عنواناً لصاحبه.

افتراءات الخصوم

الأستاذ «العقاد» يبدأ الجزء الأول من بحثه تحت عنوان «الطبيعة المصرية : في أوهام الناس»، والناس الذين يقصدهم هنا، هم الخصوم والأعداء والجهلة ،وكل صاحب غرض ومرض .فيقول في الصفحة الخامسة من كتابه عن سعد، طبعة دار الشروق المصرية ما نصه: «طبيعة المصري موضع دراسات كثيرة، يقوم كثير منها على الإشاعة والغرض، والقليل منها على التحقيق والإنصاف».. ثم يستكمل حديثه بعد ذلك بالقول: «ليس ذلك لغموض أو تعقيد منها، أي الشخصية المصرية، فان هذه الطبيعة واضحة وسهلة، ليس في الأمم العريقة كافة، فيما نعتقد، أمة أوضح منها وأسلس، ولكنها قد احتجبت طويلاً لما  أحاط بها من أقاويل الأمم المنافسة لها أو الموتورة منها، وقد طال عهد مصر بمراس، أي معارك، المنافسين والجيران الموتورين، وطال إعراضها عما يسمونها به ويفترونه عليها»….

وما يقصده الاستاذ «العقاد» هنا أن ذكر مصر جاء عند هؤلاء الخصوم والأعداء، وكل من في نفسه غرض ومرض وضغينة على غير أساس من الحقيقة، وكان حال مصر عند هؤلاء بين أمرين:

الأمر الأول، التجاهل والإنكار، وهي حالة أقرب إلى الموت، فكيف نتحدث عن شئ لا وجود له، أما الأمر الثاني، فهو البحث عن كل نقيصة في حياة المصريين وإلصاقها بهم، كأنها من الثوابت الراسخات في شخصيتها أو في طبيعتها.

في مواجهة هذا الخلط وتلك الأوهام، يأتي «العقاد» بسلاح التفنيد لتلك الأكاذيب، ويَصرعُها بمنطقه القوي الأمين واحدة إثر أخرى. ولعلي أسوق هنا بعضا منها، فهي شاملة ومُتعددة، ومن المفيد هنا الإشارة إلى ماهو شامل وكثير ومُعبر عند الأستاذ، كما جاء في مقدمة كتابه…. «ورأس هذه الأكاذيب على الطبيعة المصرية، أنها طبيعة أمة لا تحكم نفسها بنفسها ولا تُبالي غارة الأجنبي عليها».. فماذا يقول الأستاذ رداً على تلك الفرية الكاذبة، والتي يصفها «بأنها أيسر الأكاذيب عند النظر القريب فضلاً عن النظر البعيد، رغم أنها «رأس الأكاذيب»؟…

في ضوء قراءته ودراسته لتاريخ البشرية يقول العقاد ردا على ذلك: «… فليس شأن المصريين في هذه الخِلّة، أي الصفة، بمُخالف لشأن الأمم كافة في العصور القديمة، إذ هي كلها مزيج من غالب ومغلوب وأصلاء وغرباء، لا تدري من أحقهم بوصف الوطني ومن أحقهم بوصف الدخيل، إذا مضى عليهم جيلان أو بضعة أجيال».

غير أن صفة مصر وما تحمله من ثوابت راسخة في شخصيتها غالبت الغازي والمُحتل بما هو أقوىّ منه، لعوامل الثبات في طبيعتها، فجيناتها قادرة على هضم كل من أتى إليها غازياً، ومن لم يستطع أن يتأقلم معها ويحمل من ملامحها الكثير تلفظه إذا استحال عليها هضمه وتمثُّله.

وفي هذا الشأن يسجل الأستاذ «العقاد» ملاحظة بالغة الأهمية وبكلمات أحسبها رائدة: «ربما كانت مزية، أي ميزة، الأمة المصرية على أُمَم كثيرة في هذه الخِلّة، أن الحاكم الأجنبي كان ينتحل دينها ويتخذ عاداتها ومراسمها ويحفظ ماله في أرضها ولا ينقله إلى عاصمة بعيدة منها، فإن جرى على هذه السُنة في سياستها، طالت أيامه فيها وتمهدت حكومته بين أكنافها، أي بين أركانها وأرضها، وإن خالف هذه السُنة لم يأمن انتفاضها ولم يزل على خطر منها وحَذِرَ من جموحها  وانقلابها…»

مصر والهكسوس وبنو إسرائيل

على هذا النحو يسوق «العقاد» حالة وراء أخرى للدلالة على صحة ماذهب اليه من استنتاج، وهو: أن الطبيعة المصرية عصية على الغازي ولا يستطيع أن يطمس معالمها حتى لو طال به العراك معها، بل هي القادرة على طمسه وهضمه، ودون ذلك فالهزيمة والطرد، وإن طالت السنون والعهود. فالهكسوس، قبائل الرُعاة من آسيا الوسطى وجدوا في مصر ملاذاً يقيهم شر الموت جوعاً، فاستوطنوا القسم الشمالي الشرقي منه، خلال فترة ضعف الدولة الوسطى.

ولأنهم قبائل بدوية لم تمسهم يد الحضارة بشئ يُذكَرْ، لم يستطيعوا أن ينتظموا ضمن النسيج المصري، فكان اعتمادهم على بني إسرائيل، أي أبناء النبي «يعقوب» عليه السلام «يوسف» وإخوته الأحد عشر في حياتهم وقد ساعد في ذلك أن «بني اسرائيل» هم أيضاً قبائل وافدة من نسل «أبو الأنبياء» إبراهيم «عليه السلام، حيث زحفوا الى مصر هرباً من مجاعة عاصفة جاءت على الأخضر واليابس في فلسطين…

Related image

 غير أن المائة سنة التي مكثها الهكسوس في مصر شهدت عشرات الثورات والاضطرابات والمقاومة المستمرة من المصريين حتى استطاعوا تحرير بلادهم على يد الملك «أحمس» مع بداية تأسيس الدولة الفرعونية الحديثة.

 كما أن تلك الفترة، لم تترك على المستوى الحضاري شيئا يُذكَرُ في تاريخ مصر أو البشرية، فقد كانت حياتهم، حياة سلب ونهب ودمار. وعندما تم طردهم من مصر ذهبت ريحهم مع هزيمتهم، أما الأثر الوحيد الذي تركوه عند المصريين، فهو بعض الفنون الحربية من عربات تجرها الخيول والسيوف المُنحنية والفؤوس الخارقة للدروع.

أما الأثر الحضاري، أو الأنثروبولوجي، فهو تخلي بني إسرائيل عنهم، غداة طردهم من مصر، فقد قدّموا فروض الولاء والطاعة للمصريين، واستبدلوا غازياً مهزوماً، بسيد مُنتصر.وربما هذا ما يُفسر الأسباب الموضوعية لكراهية المصريين لبني إسرائيل، لا بسبب ديانة توحيدية جاء بها سيدنا «يعقوب» وأبنائه، ولكن بسبب عملهم مع المحتل، أو بلغة العصر، رضوا أن يكونوا «عُملاء للاستعمار»…

Related image

ومن المهم هنا التوقف عند تفسير الأستاذ «العقاد» لتلك القضية التي يرى فيها أحد أهم ألاكاذيب في التاريخ الإنساني، حيث يقول: «أخطر هذه الدعايات التي تَحدّرتْ من العالم القديم وشاعت بين الشعوب التي أخذت بقبس من مأثورات بني إسرائيل، ونعني بها نبوءة السخط والنقمة التي فاه بها بعض كُهّان اليهود وتوارثها الأعقاب عن الأسلاف، كأنها وحي سمائي تنزل من عند الله».

 ويضيف العقاد: «كان الاسرائيليون الأقدمون يبغضون المصريين لأنهم سخّروهم في أرضهم تسخير العبيد، فهجروا الأرض كارهين إلى صحراء سيناء، ثم إلى تخوم فلسطين، وظلوا يتمنون الهزيمة للدولة المصرية ويتلقون بالقبول والترحيب كل ما يبشرهم بزوال مجدها وأفول نجمها، وزادهم بُغضاً على بُغضْ أنهم استنجدوا مصر على البابليين، فأبت أن تنجدهم وكرهت أن تخوض أهوال الحرب مع بابل من أجلهم، فلما هزمتهم بابل وأسرت قبائلهم(…)، راحوا يتمنون لمصر مثل هذا المصير وينذرونها سوء العاقبة إلى أمد مديد، كما يفعل الكُهانْ حين يقذفون باللعنة على الأعداء الأقوياء».

ولم يتوقف «العقاد» عند علاقة مصر ببني إسرائيل فقط، لكنه توقف أيضا عند الأبعاد النفسية والحضارية لأُمم غابرة، مثل الإغريق والرومان والفُرس، وعلاقتهم بالمصريين. غير أنه يتوقف في خلاصة مُعبرة ومٌكثفة من رحلته تلك ليقول: «إن الرجوع بتلك الأوهام إلى أسبابها لكافٍ وحده لإبطالها وتفنيدها والعلم بمداها من الصدق والرجاحة، ولن يتسنى لباحث أن يضع هذه الأمة في مكانها، أو يضع بطلاً من أبطالها في مكانه قبل أن يجلو عنها غاشية الأوهام التي أحاطت بها، وكادت أن تُلصَق بتاريخها، ثم ينظر إليها في جو منزه عن كذب الإجحاف وكذب المُحاباة».

Image result for ‫مصر قديما‬‎

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock