منوعات

كتاب لم يكتمل (1-2): حنا أرندت..المقاتلة الباردة التى اختلفت مع ماركس تثير الجدل مجددا

*جيوفري وايلدانجر-باحث بقسم الدراسات الألمانية- جامعة لايبزغ

*ترجمة: أحمد بركات

ليس مستغربا أن يحتل كارل ماركس وحنا أرندت مكانة مركزية في عقول كثير من القراء في هذا العصر الذي تجتاح فيه العالم أزمات اقتصادية طاحنة، فقد تضاعفت مبيعات كتاب Capital (رأس المال) – «سفر الاقتصاد السياسي الماركسي» الذي نشر في عام 1867، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، كما دفعت سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترا مب الكثيرين إلى إعادة قراءة كتاب حنا أرندت The Origins of Totalitarianism (أسس الشمولية)، الذي نشر  عام 1951.

لذا فإنه من المناسب أن يبدأ كتاب Critical Edition (الطبعة النقدية) الجديد الذي يضم بين دفتيه أعمال أرندت الكاملة،ب أجزاء من كتاب غير مكتمل كان من المفترض أن تعنون له أرندت باسم Karl Marx and the Tradition of Political Thought (كارل ماركس وتاريخ الفكر السياسي).

يقدم المجلد الأول من هذا الكتاب مادة جديدة ومهمة لم تكن متاحة في السابق إلا لمسئولي تصنيف المخطوطات اليدوية والوثائق المطبوعة على الآلات الكاتبة في مكتبة الكونجرس. ويمثل هذا المجلد، الذي يحتوي على نصوص بالإنجليزية والألمانية كُتبت بين عامي 1951 و1954، عملا مهما من أعمال إعادة البناء الفكري التاريخي، وسد الكتاب ثغرتين في كتابات أرندت، وهما العمل العقلي الذي يربط بين كتاب The origins of Totalitarianism (1951) والكتب اللاحقة مثل The Human Condition (الحالة البشرية) (1958) من جانب، وتطور فكر أرندت في خمسينات القرن الماضي عبر سلسلة من الكتابات النقدية لأعمال ماركس والجدل مع الفلاسفة والمنظرين الأمريكيين والألمان من جانب آخر.

وقد عبرت أرندت عن بعض أفكارها عن الماركسية في كتب تم نشرها في أثناء حياتها، مثل كتاب The Human Condition، بينما قام جيروم كون بتحرير كتب أخرى، ونشرها بعد موتها. لكن ما يميز هذا المجلد ويجعله أكثر ثراء أنه لا يتضمن فقط النصوص التي لم يسبق نشرها، بل  يرصد أيضا  وبدقة تطور استجابة أرندت لأفكار ماركس.

المقاتلة الباردة

في مسرحية «موت دانتون» (1835) يسجل الكاتب الألماني جورج بوشنر على لسان أحد الثوار الفرنسيين العبارة الشهيرة «الثورة – مثل الإله ساتورن – تأكل أبناءها». ربما كانت هذه العبارة تلح بقوة على عقل أرندت عندما كانت تكتب هذه النصوص، حيث حاولت على مدى ما يقرب من 600 صفحة أن تتفهم التحدي الثوري الذي يطوره ماركس في الفلسفة السياسية. وجاء ردها في صورة تطوير سياسة بديلة أطلقت عليها «التوليد»، أي «التعاون الذي ’يولد‘ المستقبل، بدلا من الحماس الثوري الذي يلتهمه».     

جورج بوشنر

وتكمن قيمة هذا المجلد، جزئيا، في أنه يوضح طبيعة العلاقة بين ماركس وأرندت التي طالما تحددت بعبارات جدلية. فالماركسيون غالبا ما يطلقون على أرندت توصيفات مثل ’رجعية‘، أو ’محافظة‘، أو ’نخبوية‘، كما يصفونها بأنها تفضل – على حد تعبير المؤرخ والمفكر الماركسي إريك هوبسباوم – «الأفكار الميتافيزيقية أو المشاعر الرومانسية على الحقيقة». هذه الاتهامات تبدو الآن ببساطة في غير موضعها بعد أن غدت أرندت معروفة بكتاباتها القوية، مثل مقالة We Refugees (نحن اللاجئون) (1943) وكتاب Eichmann in Jerusalem (إيخمان في القدس) (1963)، وهي كتابات تضعها بوضوح في جانب اليسار الليبرالي في اللون السياسي  كما قد يبدو غريبا أن توصف إمرأة كرست نفسها لكثير من القضايا التقدمية في عصرها، وأبدت كثيرا من التبجيل لأفكارالفيلسوفة الماركسية روزا لوكسمبرغ، بالرجعية.

روزا لوكسمبرغ                                 إريك هوبسباوم

لكن المسألة ليست بهذه البساطة. فقد تعرض مقال أرندت المثير للجدل Reflections on Little Rock (تأملات على صخرة صغيرة) لانتقادات حادة باعتباره نصا «يقف على أعتاب العنصرية»، على الأقل من وجهة نظر الفيلسوفة كاثرين بيل وعدد من معاصري أرندت. ويلمح كتابها The Origins of Totalitarianism إلى عدم وجود فوارق بين الشيوعية والنازية. ويتجاوز كتابها The Human Condition وThe Life of the Mind (حياة العقل) (1978) المطالب الواقعية الخاصة بالتاريخ الاجتماعي في الفكر الماركسي إلى التفكير التأملي بشأن طبيعة العمل والحركة والحكم. ويمنح كتابها On revolution (عن الثورة) (1963) الأفضلية للثورة الأمريكية على الثورة الفرنسية، وهو ما سيختلف معه كثير من اليساريين.

وبقدر ما كتبت أرندت لصحيفة Confluence: An International Forum التي أسسها وترأس تحريرها هنري كسينجر (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق فإنه يمكن وصفها بـ «المقاتلة الباردة»، أو – بتعبير المؤرخ صامويل موين – «ليبرالية الحرب الباردة»، برغم أنها ما كانت لتقبل بأي من الوصفين. لكن هذا الكتاب الجديد سيدفع بالمفكرين دفعا إلى إعادة تقييم بعض آرائهم وافتراضاتهم بشأن أرندت. فمن خلال ترتيب بعض المقالات التي نشرتها أرندت، مثل Understanding and Politics (الفهم والسياسة)، في سياقها الزمني إلى جانب المقالات غير المنشورة، مثل Karl Marx and the Tradition of Western Political Thought (كارل ماركس وتاريخ الفكر السياسي الغربي)، يقوم المحررون بجمع مادة كتاب يقع في المنطقة العميقة بين كتابي The Origins of Totalitarianism وThe Human Condition. ويوضح الكتاب احترام أرندت العميق للمطالب الثورية للماركسية، وتخوفها منها في الوقت نفسه.

Image result for ‫حنا أرندت‬‎

حنا أرندت

فعلى غرار ماركس، تعتبر أرندت أن الثورة  منتج لحالة الانفصام بين أفكار الحداثة المثالية عن العدل والمساواة من جانب، وحقائق الرأسمالية من جانب آخر. وعلى غرار ماركس أيضا، تدرك أرندت «العنف الصامت» في السوق. ومع ذلك، تتشكك أرندت في إمكانية تجنب الماركسية للمشكلة التي أشار إليها بوشنر، وهي الفظائع التي تنتج عن العنف الثوري. وفي بعض الأحيان، تبدو أرندت عالقة في شعارات الحرب الباردة، وما يجعل قراءتها لماركس ضعيفة. لكن كلما تحررت من تلك الحالة  كانت تنجح في تطوير أفكار عميقة.

خلافات جوهرية

يكمن جوهر الخلاف بين أرندت وماركس في الأهمية التي توليها أرندت لقضية الحقوق السياسية وتقديمها على الحقوق الاجتماعية. وتطور أرندت هذه الأولوية بدرجة كبيرة في كتابها On Revolution. (عن الثورة) وتستدعي كاتبة سيرتها، إليزابيث يونج برويل، بمقالة نقدية للمفكر مايكل هارينجتون، الذي أسس منظمة «الاشتراكيون الديمقراطيون في أمريكا»، كممثل عن الماركسية. فرغم قبوله للجزء الثاني من الكتاب، الذي تمتدح فيه أرندت بعض أفكار المنظرة الماركسية روزا لوكسمبرغ، إلا أنه يرفض الاساس الذي يقوم عليه هذا المديح، وهو أولوية الحقوق السياسية على التحسين الاجتماعي. لكن التمييز عند أرندت لم يكن في واقع الأمر بين السياسي والاجتماعي ـ بقدر ما كان بين العام والخاص. فقد  كانت تؤمن بأن محاولة تسييس الخاص ستتمخض على الأرجح عن إخضاع السياسة للاقتصاد وليس على العكس.

Image result for ‫الاشتراكيون الديمقراطيون في أمريكا‬‎

وكما هو الحال في جل حواراتها، غالبا ما تتسم كتابات أرندت عن المخاوف الاجتماعية بالدفاعية، لكنها برغم ذلك تنتقد الرأسمالية بشدة. ومن ثم فإن هذا الكتاب يمثل هدية لهؤلاء المهتمين بفكرها المتفرد في الشأن الاقتصادي، خاصة المسافة التي تفصلها عن المفكرين الاشتراكيين ومفكري السوق الحرة. فإذا كان ماركس يعتقد – وفقا لقراءته الجدلية للتاريخ – أن الرأسمالية ستنهار ذاتيا، فإن أرندت تستبعد وقوع هذا الانهيار، ومن ثم فإنها لا تجد أي شئ يمكن إصلاحه فيما يتعلق بعنف السوق.

وبينما ترى أرندت أن السوق الحر سيحتل الفضاء الخاص بالعمل السياسي كاملا، فإنها تؤكد أيضا أن المصادرة الكاملة للملكية هي »الجحيم بعينه»، حيث أن السعي الجموح لتحقيق أهداف اقتصادية، سواء عن طريق السوق الحرة أو إعادة توزيع الثروة، يؤدي إلى اشتعال فتيل العنف الجماعي. ولا يمكن مقاومة هذه الهيمنة الاقتصادية إلا عن طريق السياسة، التي لا يمكن تحديدها إلا من خلال أفراد يمارسون الحكم علنا. وتكمن المشكلة في أن وسائل ضمان إمكانية ممارسة الحكم لا يمكن تحديدها مسبقا. ومن ثم فإن كتاب The Modern Challenge to Tradition، يركز بالأساس على الطبيعة المعقدة لهذه الإشكالية التي تجعلها تستعصي على الحل.

*هذه المادة مترجمة.. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?

 

   

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock