انحط سعر بيت من البيوت المعروضة للبيع في قرية تابعة لإقليم كبير بالدلتا فجأة، بعد أن كان أصحابه عرضوه للبيع بسعر عال، ولما كثر الحديث في الموضوع وسأل الناس عن السبب؛ قيل لهم- نصا وحرفا- إن البيت مسكون (أي تسكنه الجن) فخاف الخلق وابتعدوا، وفي آخر الأمر حصل على البيت سمسار مستغل، وهدمه، وبنى برجا شاهقا مكانه، وغلب الناس ظن أكيد في كونه هو مروج الإشاعة ليحصل على مراده بملاليم وقيمته الفعلية ملايين.
عن الكائنات الخفية
الواقعة حقيقية للأسف، وإحدى دلالاتها أن العوالم الخفية تتحكم في واقعنا تحكما هائلا، وتفتح النوافذ لخيالنا البائس فتسيطر علينا التوهمات المرعبة، ويضمحل العقل الراشد، ويزوي الدهرُ الحقائقَ فتضيع الحقوق..
الحكايات، في هذا الإطار، لا حصر لها، وكل منا يملك منها حزمة كبيرة تقشعر منها أبدان من يسمعونها، ولا ريب في كونها مثيرة ومشوقة لذا تجذب السينمائيين مثلا، ومن ضمن صنوف الحكايات، ما يسمى بحكاية الجان وهي التي «تتناول كائنات فوق الطبيعة».. وكثيرا ما يقال إن العفريت كائن خفي لكن قلما وجدت مكذبين به.
تشيع حكايات الجن والعفاريت في البيئات الأشد فقرا والأقل تعليما؛ لكنها تندر في المدن الكبرى الغنية المتعلمة ولا تنعدم للأمانة، لأنها تكون موجودة في البيئات الشعبية هناك، لكن في غيابها الظاهر عن هذه المدن ما يؤكد تهافت أركانها، فهي لا تصمد أمام العقول الواعية النابهة ولا تنفذ إلى الذين استقروا استقرارا ماديا فلم يعودوا بحاجة إلى الاتكاء على قوى غيبية، تحقق لهم عزاء وتسرية ولو التفتوا إليها فمن باب التسلية..
الجن فى الأديان
للموضوع أصله في الأديان طبعا؛ فجميع الأديان السماوية تؤمن بالجن والعفاريت، وتستعيذ بالله من شرورها وأخطارها.. في اليهودية الجن «أحد أعضاء المحكمة الإلهية للإله يهوه واسمه في العبرية الحديثة الشيطان وهو الخصم والملاك المهلك»، وفي المسيحية هو «الشيطان الذي يعارض المشيئة الإلهية ويخالف الرب في جميع الأشياء»، وعند المسلمين ينقسم ذلك العالم إلى مؤمن وكافر ومسالم ومؤذ، وفي القرآن الكريم سورة كاملة اسمها «سورة الجن» وفيه أيضا ذكر «إبليس» و«الوسواس الخناس» و«عفريت من الجن» ذلك الذي وردت قصته ضمن قصة سيدنا سليمان الذي أخضع تلك المخلوقات العجيبة وسخرها لخدمة ملكه العظيم الباذخ، وتوجد أحاديث نبوية عديدة تتصل بالشأن نفسه، وبين المشايخ في الإسلام، والقساوسة في المسيحية من يتفرغون للأعمال المتصلة بهذا العالم الغامض المفزع؛ فيتخصصون في إخراج الجن من أجساد الناس وطرده من البيوت وإزاحة ضرره بعيدا عن الواقع الذي يحب اختراقه، ولا يكف عن محاولة الولوج إليه (في اعتقادهم الخاص).. في النهاية لا يوجد مؤمن بالأديان يكفر بالجن والعفاريت.. قد تكون له أسئلة منطقية حيالها، وهذا حق العقل البشري بلا جدال، لكن في النهاية يسلم المؤمن بوجودها تسليمه بوجود سائر الغيبيات.
قاوموهم
لا بأس بأن يؤمن الناس بوجود الجن والعفاريت، لكن الانشغال بقضيتها والإذعان لها هو المرفوض، ولا يصح في زمن متقدم كزمننا هذا، صنعت فيه الإنسانية أمجادها في العلوم والتكنولوجيا وتبنت مفاهيم الحداثة في تعاملها مع الواقع ويسرت معظم خدماتها بالتكنولوجيا المميكنة؛ أن يظل الإنسان أسير العوالم السمعية بل يسمح لبؤس خياله أن يستدعيها إلى حياته مخضعا إرادته لإرادتها.. لقد حاولت مجموعات بشرية تتسم ببؤس العقول أن تستفيد من القصص الدينية التي أشارت إلى قوة الجان وغلبته في أن تسخره، كما فعل النبي سليمان، لكن لأغراضها الدنيوية الذميمة كالثراء السهل الفاحش وامتلاك قلوب الناس ومشاعرهم وتسليط الناس على أنفسهم وعلى غيرهم والسيطرة الجامعة عليهم.. هكذا كالذي أسماه أنصار الشعوذة بالسحر الأسود والأعمال السفلية مما يستخدمونه للفتنة والتفريق وفتح الكنوز وجمع ما لا يجتمع، ولا غرو في أن يجد القارئ المهتم عددا وافرا من الكتب التي غرضها التأليف المتعسف بين عالمي الإنس والجان، منها كتب عبد الفتاح السيد الطوخي كـ «السحر الأحمر» و«السحر العظيم» و«السحر العجيب في جلب الحبيب» و«تسخير الجان لمنفعة الإنسان» و«تسخير الشياطين في وصال العاشقين»، وكتب الإمام الغزالي كـ«الخاتم السليماني والعلم الروحاني» و«عمليات ومجربات الإمام الغزالي الكبير»، ولعل أخطر الكتب في هذا النطاق ذلك الكتاب الممنوع الذائع «شمس المعارف الكبرى» وله اسم آخر أدنى شهرة هو «شمس المعارف ولطائف العوارف» الذي يُنسب تأليفه إلى علي بن أحمد البوني المتوفي سنة 622 هجرية، ويحتوي الكتاب الضخم على أربع رسائل في نهايته من تأليف عبد القادر الحسيني الأدهمي، هي بصورة مرتبة:
– ميزان العدل في مقاصد أحكام الرمل.
– فواتح الرغائب في خصوصيات الكواكب.
– زهو المروج في دلائل البروج.
– لطائف الإشارة في خصائص الكواكب السيارة.
وقد حرم كثيرون من مشايخ الإسلام قراءة ذلك الكتاب الذي يدعو لتحضير الجن ويسرد الطرق المؤدية للأمر، بخلاف ما فيه من الطلاسم والألغاز والتراكيب الغريبة للحروف والجداول العجيبة لها، مما يدعو إلى القلق والارتياب، وتزيدت جماعة منهم في الطعن فيه وفي صاحبه معتبرين الكتاب لعينا ومن وضع الشيطان نفسه.. لكن اللافت أن كثيرين من الناس- في دائرة الإحباط النفسي والفشل الاقتصادي والاجتماعي- لاا يزالون يبحثون عن طبعته القديمة الأصلية التي لم تمسها يد متصورين أن فيها نجاتهم من الغرق.
في الختام أدعو جماعات المبدعين والمثقفين التقدميين وعلماء الدين والإعلاميين المستنيرين إلى محو ذلك الظلام الدامس المستقر في نفوس الناس، بتفنيد حكايات الجن والعفاريت، بشتى أبعادها، وهدم الخرافة ومنطقها الركيك، والتحلي بالصوت العلمي النافذ الحكيم، وتكثيف الأطروحات القوية المحكمة فيما لا يصمنا بالدجل والجهل.