صخرة أعاقت الطريق. ينزل «ساعد»، بمرافقة السائق، ويشمران عن أردان دشداشتيهما ويحاولان زحزحتها. يتوقفان حتى ينتظم لهاثهما ثم يعاودان دفع الصخرة. وحين لم يتمكنا من فعل شيء يذكر، يتلفتان منتظرين من سيدفعه القدر لمساعدتهما. لا أحد.. فيعاودان دفع الصخرة.
وكانا في كل حركة يقومان بها، يقابلهما المحيط بخيوط سخية من العرق، حيث عانقتهما الشمس بحرارة فائضة.
خيوط كثيرة جرّاها معهما، قبل أن يغوصا إلى قلب السيارة ويتهويا بالمكيف.. ومن الجوف البارد، ابتدر ساعد حديثا ليبدد به ثقل الانتظار:
-مساء أمس سقطت من نافذة صالة شقتنا كرة كان يلعب بها ولدي الأكبر. ولأننا نسكن في الطابق الرابع فقد انتظرنا مرور أي شخص يمكنه أن يقذف بها إلينا. كان الأول رجلا مسنا، فقذف بها ولكنها لم تصل إلا إلى علو الطابق الثاني. جاء بعده شاب يافع متحمس فقذفها ولكنها طارت إلى الطابق الخامس ودخلت من النافذة وكسرت شيئا. هرب الشاب راكضا حين سمع صوت الانكسار. لم نعرف ماذا نفعل. لكني أمرت ابني بترك الكرة وشأنها، فلا علم لأحد بحجم الخسائر التي أحدثتها في الأعلى. ومن باب الفضول، تلصصت من النافذة لعلي أجد أحدا يُخرج رأسه. فرأيت رجلا يرفع الكرة بين يديه وهو يحرّك عنقه يمنة ويسرة، باحثا عن أثر للفاعل في الأرض. ولأنه لم يتوقع أن تكون لي علاقة بالأمر فقد رمقني بنظرة عابرة..
في تلك الأثناء تمر شاحنة تحمل عمالا فينقطع حديث «ساعد». ودون أن يطلب منهم أحد، يهبط العمال من الشاحنة تلقائيا ويزحزحون الصخرة ثم يعتلون عربتهم ويتقدمون. فيتسع الطريق للشاحنة، ثم لسيارة شركة الكهرباء.
ومثل الوحش «سفنكس»، الذي صرعه أوديب قبل أن يتقدم إلى طيبة، كان على «ساعد» كل يوم أن يصارع الحر الشديد، خاصة حين تكون الشمس عمودية في منتصف الظهيرة وبلا ظلال تُذكر.
كان يعمل في العراء المشمس، مفتشا في شركة للكهرباء تتوزع أعمالها على البيوت الحديثة. ولأنها شركة تساهم فيها الدولة، فقد رُفض طلبه المتكرر أن يرتدي ملابس العمل التي يرتديها العمال الأجانب. لذلك عليه أن يتزيى كل صباح بنفس الملابس الوطنية التي يرتديها الموظفون الإداريون، بقشبيها وألوانها ولفعاتها الموزعة بالتساوي من قمة الرأس إلى أخمص القدمين؛ وكأنه في مكتب حكومي بكامل رفاهيته ووسائل راحته وتكييفه. لذلك يكون أول ما يفعله حين يصل إلى البيت، وقد طوقته خيوط العرق كموجة خانقة، هو الدخول إلى الحمام والتخلص من جميع الأطواق التي أثقلها العرق، والملتصقة بجسده. وتكون زوجته قد أعدّت له ما سيرتديه في بقية يومه.
يعمل «ساعد» في شركة توصيل الكهرباء إلى المناطق الجديدة، ولأنها دائما ما تكون وعرة وبعيدة ويتخللها مشي وحفر وغير مكتملة البناء، فإنه يترك سائق الشركة في سيارته ويخرج راجلا، باحثا عن النقطة المحددة ليرقمها ويتأكد من وجود موصلات إليها.
ورغم قصر المسافة عمليا بين سيارة الشركة والبيت المنشود، فإنها كفيلة بإدخاله في صراع مرير مع وحش الحرارة الخفي، إذ سترمي الشمس العارية بكل حمم عناقها وبلا هوادة على جسده الضعيف. عليه أن يتأكد من وجود الأسلاك والكابلات في البيت الجديد، ثم الاتصال بعمال الشركة ليأتوا ويثبتوا العداد.
يمتد عمله من البيت إلى العراء المشمس، باستثناء بداية الأسبوع، إذ عليه أن يكون في مقر الشركة ليطلعهم على كيفية سير الأمور. أما في بقية الأيام فيعتمد على الاتصال بين أرقام الشركة وأرقام هواتف أصحاب المنازل التي تطلب توصيل الكهرباء. فقد زودته الشركة بهاتف خاص وخط مفتوح إلى حدود الثانية والنصف ظهرا، وبعد ذلك لا يسمح له باستخدامه.
يكون الصراع الأقوى الذي يواجهه «ساعد» مع الوحش في بداية فصل الحر، وتحديدا في نهاية أبريل وبداية ماي، ثم الأيام اللاهبة والمستحيلة ليوليو وأغسطس وسبتمبر، حين تكون الشمس عمودية لا يحدها ظل وساخنة كمرجل يغلي منذ شهور ويصب حممه على الوجود. وفي كثير من الأحيان، حين يكون المنزل المقصود بعيدا، عليه أولا أن يطلب ماء وهو يلهث. ولكنْ حتى الماء لن يجده بسهولة، إذ يكون صاحب البيت لم ينتقل إليه بعد، فيطلب منه أن يلجأ إلى الجيران طلبا للماء. ولن يجد طلبه استجابة من صاحب البيت، فهو لا يعرف جيرانه الجدد بعد، وليست لديه أدنى رغبة في معرفة أحد.
-لو تتكرم لي بكأس ماء بارد.
-كأس ماء بارد! من أين يأتي الماء البارد ولم تدخل الكهرباء بعد! يا أخي تتأخر ثم تسخر مني.
-أعتذر لك. لا أسخر منك. أخطأ السائق في الوصول إلى البيت. الوصف كان صعبا والطريق وعرة.
-لا بأس، ولكن لا يوجد عندي ماء، ولا يوجد منزل أعرفه. ولا أرغب حاليا في ربط أي علاقة بأي جار، كما أني بنيتُ هذا البيت لأبيعه في أول فرصة.
وحين اقترح عليه أحدهم أن يطلب من الشركة علاوة (بدل عطش) أخذ الأمر بجدية تستحق السعي، فالعطش يصاحب وظيفته كما يصاحب الملح ماء البحر. ولكن طلبه قوبل بسخرية من مدراء الشركة، فأنى لآلهة الأولمب، القابعين في مكاتبهم والمكيفة الوثيرة، أن يستسيغوا معنى العطش؟ فهم لا يهبطون إلى العالم السفلي، بل الأخرون من يجب أن يصعد إليهم، وأن يكون انثاء ذلك متهندما ومتعطرا حتى لا يضايقهم فيه أدنى شيء حتى لو كان خفيا.
ولكن «ساعد» في المساء، وبعد أن يأخذ قيلولته، يجر سيارته الخاصة بين الطرقات، وهذه المرة بملابس خفيفة، إذ سيرتدي سروالا وفانيلة قطنية. وكما يفعل في صباح العمل، فإنه يدور باحثا عن البيوت لكي يزودها بالماء وليس بالكهرباء.
كانت سيارته الخاصة عبارة عن خزان ماء برأس صغير في المقدمة. تثقل حين يكون ممتلئا، وتخف كريشة ما أن يفرغ الماء منه.
القاص العماني «محمود الرحبي»