حين رأيتها على هذا النحو وهي جالسة القرفصاء بجلبابها الأسود القديم ووجهها المترهل و(الجوزة) الغاب بفمها تسحب منها أنفاسا عميقة، وتزفر سحبا من الدخان الرمادى الكثيف ليتصاعد مكونا أشكالا بوهيمية فى فضاء الغرفة الضيقة المعروشة بألواح الخشب القديم الذي نخره السوس، دارت رأسي وترنحت، ومادت الأرض من تحت قدمي، لكني لم أستسلم للسقوط، فقط سقطت (حلة) اللبن الفارغة من يدي وانتبهت على قهقهات حوشية لأبنائها وأحفادها الرجال متصاعدة فى فضاء الغرفة المكتوم.. كانوا جميعا ملتفين حول (منقد) النار فى تلك الليلة الشتوية الباردة و«الجوزة الغاب» تدور بينهم ثم تستقر عندها لتردها إليهم وقتما تشاء.. وحين دخلت العجوز فى نوبة سعال حادة مد أحد أحفادها يده ليلتقط (الحلة) من الأرض ليعطيها لي، بينما قالت هي لى باستنكار، برأس غير متزنة ووجه متغضن مجعد: مالك ياولا.. روح خد اللبن من الأوضة التانية زي كل يوم..
قلت لها بصوت واهن متهدج: أمي بتسلم عليك ياحاجة وبتقولك ماتخليش مراة ابنك تحط مية على اللبن، قالت برأس متثاقلة: وإيه اللى عرّف أمك إن البت بتحط ميه على اللبن؟ قلت لها: أنا باشوفها كل يوم ياحاجة وبقول لأمي، ضحكت العجوز ضحكة عجوزا مختلطة بحشرجات صدرها الخشنة المعبأة بدخان الجوزة الغاب ونادت على إمرأة ابنها وشخطت فيها بافتعال صارخ قائلة : إنت يابت ما بتفهميش، بتحطي المية على اللبن قدام الولا عشان يروح يفضحنا؟
ردت المرأة مستديرة الوجه الأبله: ده عيل صغير ياحاجة خد باله إزاي ؟.. تضايقت حينما وصفتني بـ «عيل صغير »، لكني لم أرد.. ثم جذبتنى بعنف من يدي إلى الغرفة المجاورة، سرت خلف جسدها الرجراج المرتبك من الخلف وهى تشد طرف جلبابها من يدها اليسري لتظهر سمانة رجلها اليسرى إلى غرفة اللبن، وأنا أحملق مليا في تلك السمانة العجيبة، وقفت مدهوشا حائرا ملتاثا بثنيات لحمها البض ـ، هي تضع معيار كوز من اللبن الذي كان لا يزال طازجا فى (حلتي)، ولم تكن قد وضعت كل اللبن بعد فى الطست الكبير الذى تضيف إليه الماء ثم تعطي منه لمن يأتيها طلبا لشراء اللبن..
حملت (حلة) اللبن وخرجت إلى الشارع وأنا أرتجف من رأسي إلى قدمي، وخيالات الدار تتماوج في مخيلتي، وفيما كنت شاردا، كانت (حلة) اللبن تتمايل بين يدي إلى أن سقطت الحلة وسال اللبن ليكتسي الشارع الترابي باللون الأبيض.. زاد ارتجافي واصطكت أسناني فقضمت لساني وسال الدم من فمي.. مددت يدى المرتعشة نحو فمي وهالني منظر الدم الأحمر القاني، ركضت مذعورا نحو دارنا فى آخر الشارع وأنا أتلفت بين ركضة وأخرى إلى الخلف إلى أن وصلت الدار، ودفعت بابها الخشبي العتيق بجسدي الصغير. حين رأيت أمي ولازلت أرتجف وقطرات الدماء كانت لاتزال تسيل من فمي ارتميت فى حضنها، فغطتني من رأسي إلى قدمي، وقالت كلاما كثيرا لم أنتبه إليه من تحت اللحاف، ولم أستوعب منه شيئا ولم أتذكر ماذا فعلت.. لكن ما أتذكره أنني حين أفقت من النوم صباح اليوم التالي وجدت أمي تحيطني من كل جانب وكأنني بداخلها ولم أكن أرتجف، وحين ملأت عيني منها رويت لها ماحدث.